المساواة ودين رئيس الجمهورية في دساتير سورية
نائل جرجس
لم تغِب مسألة الدين عن الدساتير السورية المتعاقبة التي تأرجحت بين تأثّرها بالقانون الوضعي من ناحية، والشريعة الإسلامية، من ناحية أخرى. وتعدّ مسألة تحديد دين رئيس الجمهورية، في أحد مواد الدستور، من أهمّ المسائل التي لا تزال مصدر جدل بين السوريين، من محافظين وليبراليين. وتأتي أهميّة هذه المادة من كونها أساسية في تحديد شكل وهوية الدولة، فوجودها يزيد من تأثير الشريعة الإسلامية، ويحدّ من الطابع المدني للدولة، وينسف مبدأ المساواة بين المواطنين، لا سيما بين المسلمين وغيرهم.
جاءَ في المادة الأولى من دستور سورية لعام 1920، وهو أول دستور سوري أعقبَ التحرر من العثمانيين، أنّ “حكومة المملكة السورية العربية حكومة ملكية مدنية نيابية، عاصمتها دمشق الشام، ودين ملكها الإسلام”. غير أنّ هذا الدستور لم يذكر أنّ الفقه أو الشريعة الإسلامية مصدرًا للتشريع، بخلاف غالبية الدساتير السورية اللاحقة، وجاءَ في مواده العامة أنّ الملك يُقسم يمين الاحترام للشرائع الإلهية. وتؤكّد مادته 11 أنّ السوريين “متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات”. هذا ولم يصمد دستور عام 1920 إلا بضعة أشهر، حيث زالَ بسبب دخول الفرنسيين لدمشق وإسقاطهم حكومة الملك فيصل الناشئة.
شهدت سورية في ظلّ الانتداب الفرنسي اعتماد دستور عام 1930 الذي نصّ في مادته الثالثة على أنّ “سورية جمهورية نيابية، دين رئيسها الإسلام”، وأضافت مادته السادسة أنّ السوريين “لدى القانون سواء، وهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية، وما عليهم من الواجبات والتكاليف، ولا تمييز بينهم في ذلك بسبب الدين أو المذهب أو الأصل أو اللغة”. يؤكّد نصّ هاتين المادتين التناقض الذي عرفته دساتير سورية كافة، من حيث تضمينها لنصوص تمييزية بين المواطنين، كحال التنصيص على أنّ الإسلام دين رئيس الجمهورية، من ناحية، وتأكيدها على المساواة بين المواطنين دون تمييز على أساس الدين، من ناحية أخرى.
ونصّ دستور سورية لعام 1950، وهو الدستور الذي أعقب الاستقلال وسنّته جمعية تأسيسية مشكلة ديمقراطيًا، على أنّ دين رئيس الجمهورية الإسلام، وذلك في مادته الثالثة التي تضيف أنّ “الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع. حرية الاعتقاد مصونة. والدولة تحترم جميع الأديان السماوية”. وتضيف مادته السادسة أنّ “المواطنين متساوون أمام القانون في الواجبات والحقوق وفي الكرامة والمنزلة الاجتماعية”. غير أنّ هذه المساواة المزعومة بين المواطنين لاينسفها فقط النصّ الدستوري ذو الصلة بدين رئيس الجمهورية، إنما أيضًا تشريعات أخرى، كقانون الأحوال الشخصية السوري لعام 1953 الذي يميّز بمقتضى العديد من مواده ليس فقط بين المسلمين وغيرهم، إنما أيضًا بين المرأة والرجل. فيمنع، على سبيل المثال، هذا القانون النافذ اليوم، بحسب مادته 48، زواج المسلمة بغير المسلم، مع العلم بأنّ تصنيف الانتماءات الدينية للمواطنين يعود لاعتبارات دولهم، وليس لمعتقداتهم الدينية التي قد تكون مختلفة.
شهدت سنوات الخمسينيات والستينيات اعتماد بضعة دساتير سورية ترافقت مع التقلبات السياسية بما فيها الانقلابات العسكرية وقيام الجمهورية العربيّة المتّحدة بين سورية ومصر عام 1958، حيث لم تغفل هذه الدساتير أيضًا الإشارة إلى الدين الإسلامي وإلى المساواة بين المواطنين. أمّا الدستور الأبرز في تاريخ سورية المعاصر والمكرّس لحقبة الدكتاتورية الطويلة، فهو دستور عام 1973 الذي أعقب وصول حافظ الأسد إلى رئاسة الجمهورية، في مطلع السبعينيات. فلا ينصّ هذا الدستور، بخلاف أغلب الدساتير الحديثة في العالم العربي، على أنّ الإسلام دينًا للدولة، غير أنّ مادته الثالثة أشارت إلى أنّ دين رئيس الجمهورية هو الإسلام، وأضافت أنّ “الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع”. وفي تناقض مع هذه الأحكام الدستورية، جاءت مواد عدّة من هذا الدستور، لتؤكّد على المساواة بين المواطنين، كحال المادة 25 التي تنصّ على أنّ “المواطنين متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات”.
جاءَ أخيرًا دستور عام 2012، الذي أعقب الحراك الشعبي ضدّ النظام السوري عام 2011، حيث أعادَ هذا الدستور الجديد إدراج أحكام المادة الثالثة من الدستور السابق، والخاصة بدين رئيس الجمهورية والفقه الإسلامي، وأضاف عليها نصوصًا أخرى، منها أنّ الدولة تحترم جميع الأديان. واستفاضَ هذا الدستور الجديد بالتنصيص على مبدأ المساواة في ديباجته، وفي العديد من مواده (18 و 19 و 26 و 33). فقد جاءَ في الفقرة الثانية من المادّة 26 أنّ المواطنين متساوون في تولّي الوظائف العامّة. وتدعو المادة 33 في فقرتها الثالثة إلى المساواة بين المواطنين كافة، من حيث الحقوق والواجبات، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة. وتنصّ الفقرة الرابعة من المادة نفسها على أن الدولة تكفل مبدأ تكافؤ الفرص بين المواطنين. ومع هذا تستمر التشريعات الوطنية، لا سيما قانون الأحوال الشخصية المذكور أعلاه، في التمييز بين المواطنين.
إنّ بناء دولة القانون والمواطنة يوجب استئصال كلّ أوجه التمييز، ومنها إلغاء تحديد دين رئيس الجمهورية في الدستور، ويوجب صياغة قوانين أحوال شخصية مدنية تتيح لغير المؤمنين وللعلمانيين الاحتكام بموجبها، مع إمكانية الإبقاء على الأحوال الشخصية الدينية، شريطة ملائمتها لشرعة حقوق الإنسان، ولا سيما المساواة بين المرأة والرجل وبين المسلمين وغيرهم، وضمان الحقّ في الحرية الدينية وحقوق الأطفال ومصالحهم الفضلى. هذا ويؤثّر النصّ الدستوري الخاص بالفقه أو بالشريعة، كمصدر للتشريع، في مجال الأحوال الشخصية، بينما تُعمل سورية، كما بقية دول المشرق، قوانين جنائية ومالية واقتصادية ومدنية غير إسلامية قائمة على المساواة بين المسلمين وغيرهم. سيُسهم تحييد دور الدين في توجه سورية الجديد في التأصيل لدولة المواطنة، غير أنّ هذه الأخيرة تستدعي أيضًا حيادية الدولة تجاه جميع الأعراق والإثنيات والطوائف والأحزاب، وهو ما ستحسمه السنوات أو العقود القادمة.