حسابات المقترح التركي بالتدخل العسكري في أفغانستان
خورشيد دلي- مركز المستقبل
استمع؛ وجد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في الانسحاب العسكري للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) من أفغانستان، فرصة ليقدم نفسه حامياً لمطار العاصمة الأفغانية كابول، وهو المطار الذي يشكل بوابة دخول وخروج للدبلوماسيين الأجانب، ودخول المساعدات الإغاثية والإنسانية إلى كابول. وعليه رأى أردوغان في قمة حلف “الناتو” الأخيرة التي عُقدت في بروكسل، ولقائه الرئيس الأمريكي، جو بايدن، على هامشها، فرصة مهمة ليعرض مقترحه بشأن أفغانستان، وهو ما قُوبل بترحيب الولايات المتحدة التي أرسلت وفداً عسكرياً إلى أنقرة في الأيام الماضية، حيث أعلنت وزارة الدفاع التركية، في 26 يونيو الجاري، أنها بحثت مع الوفد الأمريكي كيفية استمرار تشغيل مطار حامد كرزاي الدولي في كابول، مؤكدة أن الجانبين اتفقا على مواصلة المحادثات بهذا الشأن.
والملفت هنا أن توقيت طرح المقترح التركي بشأن تولي أمن مطار كابول، جاء في ظل عاملين مهمين؛ الأول يتعلق بالانسحاب الأمريكي والأطلسي من أفغانستان، حيث من المقرر أن يكتمل هذا الانسحاب في 11 سبتمبر المقبل، أي في ذكرى مرور عقدين على الغزو الأمريكي لأفغانستان عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001. والعامل الثاني هو التقدم الميداني الذي تحققه حركة طالبان على الأرض في أفغانستان، حيث تشير التقارير إلى أن الحركة تسيطر على نحو 70% من الأراضي الأفغانية وسط تحذيرات من انهيار الحكومة الأفغانية إذا ما واصلت طالبان تقدمها.
دوافع متنوعة:
آثار المقترح التركي بشأن الوجود العسكري في أفغانستان وتأمين مطار كابول، بعد رحيل القوات الأمريكية وحلف “الناتو”، العديد من التساؤلات، وعلى رأسها ما يتعلق بالدوافع التركية وراء ذلك، ولعل أبرزها ما يلي:
1- تحسين العلاقات مع واشنطن: أراد الرئيس التركي من مقترح ضمان أمن مطار كابول، التقرب من الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة بايدن، وتحسين العلاقات معها. وفي هذا الصدد، يتطلع أردوغان إلى تقديم واشنطن تنازلات في ملفين مهمين لتركيا؛ الأول السماح لأنقرة بإقتناء المنظومة الصاروخية الدفاعية الروسية “إس – 400” بعد أن أعلنت الولايات المتحدة رفضها المطلق لذلك. والثاني وقف الإدارة الأمريكية دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي ترى تركيا أنها تهدد أمنها القومي. وعليه، فإن الطرح التركي لتأمين حماية مطار كابول هو ثمن للتقرب من الإدارة الأمريكية.
2- التأكيد على الدور التركي في “الناتو”: ترغب أنقرة في توجيه رسالة إلى الغرب مفادها أن الأولى ما زالت دولة تنتمي استراتيجياً لحلف شمال الأطلسي، وأن تقاربها مع روسيا كان تكتيكياً. وأراد أردوغان من هذه الرسالة التأكيد لحلف “الناتو” أن تركيا ما زالت تشكل رأس حربه للحلف في خوض أدواره الصعبة بمناطق مهمة، وأن أنقرة، من وجهة نظر أردوغان، هي الوحيدة القادرة على إيجاد حل للمعضلة الأفغانية التي عجز “الناتو” وبعد عقدين من الزمن عن إيجاد حل لها على الرغم من كل الجهود العسكرية والدبلوماسية التي بُذلت في هذا الشأن.
3- تعزيز النفوذ الإقليمي: تنظر أنقرة إلى مقترح حماية مطار كابول على أنه استراتيجية خاصة لتعزيز النفوذ التركي في الخارج، على غرار ما قامت به في دول أخرى مثل سوريا والعراق وليبيا وأذربيجان. وهذه استراتيجية يريد أردوغان منها تحقيق هدف رئيسي، وهو التسليم بأن تركيا دولة إقليمية كبرى، وأن طموحاته الجامحة قابلة للتحقيق، فضلاً عن تعبئة الشارع التركي خلف أجنداته، ومثل هذا الأمر يكتسب أهمية خاصة لحزبه الحاكم “العدالة والتنمية” الذي تتراجع شعبيته حسبما تشير استطلاعات الرأي.
حسابات أردوغان:
من الواضح أن حسابات أردوغان بشأن وجود القوات التركية في أفغانستان، تنبثق من دوافعه ورهاناته، وهو هنا يراهن على عدة عوامل، وأهمها الآتي:
1- توظيف الاعتبارات الدينية والتاريخية: يراهن أردوغان على أن تركيا دولة مسلمة، ولها علاقات تاريخية وحضارية مع الشعب الأفغاني، مع الأخذ في الاعتبار أن أردوغان يجيد استخدام هذا العامل في علاقات بلاده مع الدول العربية والإسلامية.
2- الاعتماد على الحليف القطري: يعول الرئيس التركي في تنفيذ مخططه على قطر التي لها علاقات جيدة مع حركة طالبان الأفغانية؛ وذلك لتأمين موافقة الأخيرة على دور تركي مستقبلي في رسم المشهد الأفغاني في مرحلة ما بعد انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان.
3- الاستفادة من الدور الباكستاني: يراهن أردوغان أيضاً على إشراك باكستان، المجاورة لأفغانستان والخبيرة في شؤونها، في مهمة تأمين حماية مطار كابول، خاصة في ظل العلاقات الجيدة التي تربط بين أنقرة وإسلام آباد.
4– الحصول على الدعم المالي واللوجستي: يرى أردوغان أن تنفيذ المهمة المقترحة في أفغانستان تستدعي توفير دعم مالي وعسكري واستخباراتي وغطاء جوي من حلف شمال الأطلسي للقوات التركية؛ حتى تقوم الأخيرة بضمان أمن مطار كابول. وفي هذا الإطار، وبحسب مستشار البيت الأبيض للأمن القومي، جيك سوليفان، فإن الرئيس بايدن أكد لأردوغان، خلال لقائهما الأخير في بروكسل على هامش قمة “الناتو”، يوم 14 يونيو الجاري، أنه سيتم “تقديم هذا الدعم”.
تحديات قائمة:
أمام هذه الرهانات، ثمة سؤال يطرح نفسه وهو هل تلك الحسابات التركية بشأن دورها في أفغانستان يمكن أن تكون دقيقة؟ وهنا فإن القراءة البسيطة للأوضاع في أفغانستان، وللتشابكات الإقليمية والدولية هناك، وللتعقيدات الميدانية على الأرض، تضعنا أمام مخاطر جمة بشأن التورط التركي في المعضلة الأفغانية، وذلك في ظل وجود تحديات كثيرة تواجه طموحات أنقرة في هذا الملف، ويتمثل أبرزها في الآتي:
1- رفض “طالبان” الوجود الأجنبي: أكدت حركة طالبان، التي تشعر بنشوة الانتصارات، رفضها لأي دور تركي أو أجنبي آخر في مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي والأطلسي من أفغانستان. وحذرت طالبان من أن القوات الأجنبية يجب ألا تأمل بأن تُبقي على وجود عسكري في أفغانستان، مشددة على أن أمن السفارات والمطارات سيكون من مسؤولية الأفغان. وهذا يعني أن إمكانية المواجهة العسكرية مع القوات التركية هناك قائمة، بل ومرجحة، سواء من حركة طالبان أو من أطراف أفغانية أخرى.
2- تهديدات التنظيمات الإرهابية: يفتح الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، الباب أمام صعود الحركات المتشددة والمتطرفة في البلاد، بدءاً من حركة طالبان، ومررواً باحتمالية عودة تنظيم القاعدة، وصولاً إلى تصاعد نشاط داعش وتنظيمات إرهابية أخرى. وبالتالي ثمة شكوك قوية حول نجاح تركيا في مهمتها هذه، بينما فشل حلف “الناتو” في ذلك.
3- غموض موقف “الناتو”: على الرغم من ترحيب حلف شمال الأطلسي بالمقترح التركي للوجود العسكري في أفغانستان، فإن ثمة معضلات كبيرة تواجه تنفيذه، حيث إنه إلى الآن لم يعلن الحلف عن استعداده لتمويل القوات التركية التي ستؤمن الحماية لمطار كابول أو تأمين الغطاء الجوي لها، كما أن “الناتو” يبدي رفضه لمشاركة باكستان في تلك المهمة.
4- معارضة داخلية في تركيا: ترفض قوى المعارضة التركية وحتى أوساط من حزب العدالة والتنمية الحاكم، قيام القوات التركية بمهمة تأمين مطار كابول أو إرسال قوات تركية جديدة إلى أفغانستان أو حتى بقاء القوات التركية هناك بعد انسحاب القوات الأمريكية والأطلسي منها.
مخاطر متوقعة:
من دون شك، إذا وجد المقترح التركي بشأن الوجود العسكري في أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي، طريقه إلى النور، فإن مهمة القوات التركية لن تكون سهلة أبداً، بل يمكن القول إنها أقرب إلى مغامرة قد تفتح الباب أمام مواجهة دامية وإشعال نزاعات جديدة في هذه الساحة المليئة بالصراعات والحسابات الإقليمية المتداخلة. ففي الداخل الأفغاني، هناك خطر الصدام مع حركة طالبان ووقوع خسائر في صفوف القوات التركية، ما سينعكس سلباً على نظام أردوغان في الداخل التركي، لاسيما في ظل رفض المعارضة لقيام حكومة حزب العدالة والتنمية بهذه المهمة.
كما أن استيلاء حركة طالبان على السلطة في أفغانستان يعني أن الحكومة التركية ستكون مجبرة على التعامل مع حركة متشددة تصر على تطبيق تعاليم الشريعة الإسلامية في حالة وصولها إلى الحكم، وهو ما سيضع أنقرة أمام نارين؛ نار التعامل مع هذا التشدد، ونار الوفاء بالتزاماتها لحلف “الناتو”. كذلك فإن قضية النازحين الأفغان ستطل برأسها في تركيا، حيث يوجد ما يقرب من نصف مليون نازح أفغاني هناك، وهم يأتون في المرتبة الثانية لجهة العدد بعد النازحين واللاجئين السوريين، كما أن مخاطر تحول تركيا إلى جسر للاجئين الأفغان إلى أوروبا تظل قائمة.
وفي الخارج، يُقابل المقترح التركي بشأن الوجود في أفغانستان بحساسية روسية وإيرانية وصينية كبيرة، خاصة أن هذا المقترح يأتي في سياق بحث أنقرة عن المزيد من النفوذ الإقليمي في مناطق تعدها تلك الدول الثلاث جزءاً من أمنها ومصالحها الإقليمية، ولعل هذا ما يفسر مسارعة المبعوث الخاص للرئيس الروسي لأفغانستان، زامير كابولوف، إلى القول يوم 18 يونيو 2021 إن “خطط تركيا لضمان أمن مطار كابول تنتهك الاتفاقات المبرمة مع حركة طالبان”. وهنا الأمر بالنسبة لموسكو يتجاوز الدور التركي في أفغانستان إلى أذربيجان وأوكرانيا وغيرها من المناطق الجيوسياسية المهمة والحيوية للدولتين، حيث أصبح هذا الدور يثير الاحتكاك بين موسكو وأنقرة، خاصة بعد إعلان الأخيرة عقب توقيع “إعلان شوشة” مع أذربيجان يوم 16 يونيو الجاري عزمها إقامة قاعدة عسكرية تركية هناك، وهو ما ترفضه روسيا.
كذلك الأمر بالنسبة لإيران الجارة المهمة لأفغانستان، لأنه من شأن الدور التركي الجديد في هذا البلد إشعال نار التنافس مع إيران في الساحة الأفغانية؛ وذلك في ظل الانقسامات الطائفية والسياسية والتأثير الجغرافي الذي يؤثر على المصالح الاقتصادية للجانبين التركي والإيراني. كما أن الصين بدورها تنظر بحساسية بالغة إلى أي تحرك له علاقة بالغرب في أفغاستان، خاصة في ظل التصعيد الجاري بين واشنطن وبكين.
ختاماً، يمكن القول إن الرئيس التركي، أردوغان، أراد من مقترحه لنظيره الأمريكي، بايدن، بشأن تولي أمن مطار كابول، “اصطياد عدة عصافير بحجر واحد”، وتوظيف ذلك كورقة مساومات مع الدول الكبرى على الدور والنفوذ وعقد الصفقات. لكن واقع الحال يشير إلى أن حسابات أردوغان قد لا تكون دقيقة، وهو ما يهدد بأن تتحول أفغانستان إلى مستنقع للقوات التركية الموجودة هناك.