«تغيير النظام» في المفهوم الأمريكي: ألعاب الربح والخسارة
القدس العربي/ صبحي حديدي
خلال العام 2021 صدرت أعمال عديدة هامة حول شؤون الشرق الأوسط ضمن معادلات جيو ـ سياسية شتى، داخلية وإقليمية ودولية؛ وبالعلاقة مع القوى العظمى إجمالاً، والولايات المتحدة بصفة خاصة. وقد يكون كتاب الأمريكي فيليب غوردُن «خسران اللعبة الطويلة: الوعد الزائف لتغيير النظام في الشرق الأوسط» بين الأهمّ؛ لأسباب تتصل أوّلاً بمحتوياته واسعة النطاق، من «الخطيئة الأولى» في إيران 1953، نحو كوارث التدخل الخارجي بأشكاله المختلفة في أفغانستان والعراق ومصر وليبيا وسوريا؛ كما تعود ثانياً إلى أنّ الرجل شغل منصب المساعد الخاصّ للرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما ومنسّق البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط، خلال فترة حرجة بين 2013 و2015، شهدت الكثير من أنماط التحوّل والتقلّب في ملفات «الربيع العربي».
وحين تضحّي الولايات المتحدة بأرواح آلاف الأمريكيين وأبناء البلدان التي تشهد التدخل، وتنفق مليارات وتريليونات الدولارات، وتنفّر شركاء محتملين، وتنهك جيش الولايات المتحدة، وتنتهك القانون الدولي، وتُلهب نيران الكراهية القومية، وتدمّر دعم الراي العام لمفهوم الانخراط الدولي، فإنّ استبدال فئة من المشكلات بفئة أخرى ليس جيداً بما يكفي؛ يكتب غوردُن، منتهياً منذ السطور الأولى في المقدمة إلى أنّ «تغيير النظام» ليس مفهوماً صائباً، بدليل أنّ إدارات عديدة اعتمدته رغم اختلاف خياراتها وسياساتها، فكانت العواقب الكارثية هي المآل الصريح في كلّ الحالات. وإذْ يشير المؤلف إلى حالات أخرى خارج الشرق الأوسط، في غواتيمالا وكوبا وتشيلي ونيكاراغوا وغرينادا وبنما، فلكي يشدد على أنّ مناهضته لفلسفة تغيير النظام ليست أخلاقية الطابع بل عملية؛ ومن نافل القول إنّ أمريكا، وشعوب الشرق الأوسط قبلها، سوف تكون في حال أفضل مع وجود زعماء وأنظمة ومؤسسات من طراز مختلف، غير أنّ المسألة ليست في التمنّي ولا في السعي إلى فرض الأماني عن طريق الغزو والتغيير بالقوّة.
والحال أنّ غوردُن، وهو ربيب البيت الأبيض في نهاية المطاف، يتناسى أنّ الإدارات الأمريكية المختلفة ساندت أنظمة الاستبداد والفساد في طول الشرق الأوسط وعرضه، وتبدّلت الذرائع على مرّ العقود والمحطات الفاصلة لكنّ النفط والحفاظ على مصالح دولة الاحتلال الإسرائيلي وخرافة «الاستقرار الداخلي» ظلت قواسم مشتركة حكمت خيارات جميع رؤساء أمريكا، من دون أيّ استثناء فعلي أو ملموس. كما يتجاهل أنّ مفهوم تغيير النظام صعد من زاوية الحاجة إلى معالجة معضلة أمريكية هنا أو هناك، مع هذا النظام أو ذاك؛ وليس من منطلق كراهية مستبدّ في سوريا أو مغامر في ليبيا، وليس البتة من أجل خدمة شعب مضطهد في العراق أو معذّب في أفغانستان. وليس خافياً أنّ تركيز كتابه على الشرق الأوسط، وليس مناطق أخر ملتهبة في آسيا أو أفريقيا أو أمريكا اللاتينية، راجع إلى أنّ التأويل الأمريكي لمفهوم تغيير النظام اعتُمد، واختُبر كذلك، في هذه المنطقة تحديداً، خلال العقود الأخيرة؛ ولأنه أيضاً خضع لسجالات داخل صفوف مستشاري الإدارات المختلفة، بصدد اللجوء إليه أو الامتناع عنه، سواء بسواء.
في ابتداء الفصل الذي يعقده لسوريا، يستعيد غوردُن تصريح أوباما، يوم 18 آب (أغسطس) 2011 قبيل مغادرة واشنطن إلى إجازة صيفية: «قلنا باستمرار إنّ على الرئيس الأسد أن يقود انتقالاً ديمقراطياً أو أن يتنحى جانباً»؛ وكذلك: « لم يَقُدْ، ومن أجل الشعب السوري، آن الأوان كي يتنحى الرئيس الأسد»؛ ولكن كذلك أيضاً: «الولايات المتحدة لا تستطيع، ولن تسعى إلى، فرض هذا الانتقال على سوريا. يعود إلى الشعب السوري اختيار زعمائه، ولقد سمعنا رغبته القوية بألا يكون هناك تدخّل أجنبي في تحرّكهم». في المقابل، الولايات المتحدة «سوف تعمل الآن على إيجاد سوريا ديمقراطية، عادلة، وشاملة لكلّ السوريين. وسندعم هذه النتيجة عن طريق الضغط على الأسد كي يتنحى عن درب هذا الانتقال». ذلك التصريح لم يكن ارتجالياً بل مكتوباً، كما يشير غوردُن من باب التشديد على العناية الفائقة التي بذلها مساعدو أوباما في صياغة أقوال الرئيس الأمريكي.
تلك، كما لا يشير غوردُن في الواقع، كانت صرخة بعيدة كلّ البعد عن تصريحات أوباما بصدد احتمال لجوء النظام السوري إلى استخدام الأسلحة الكيميائية، حين ارتجل بعيداً عن النصّ المكتوب فرسم «الخطّ الأحمر» الشهير: «عندما نرى كمية من الأسلحة الكيميائية تتحرك أو يتمّ استخدامها، فبالنسبة لكلّ القوى في المنطقة ولنا نحن هذا خط أحمر ستكون له عواقب هائلة». وحين قصف جيش بشار الأسد الغوطة الشرقية بالأسلحة الكيميائية، فجر 21 آب (أغسطس) 2013، لم يغب أوباما وحده عن شاشات الإعلام الأمريكي والعالمي، بل حذا حذوه كبار رجال الإدارة من وزراء الدفاع والخارجية والعدل إلى رئاسة الأركان المشتركة والمخابرات المركزية؛ واكتفى الجميع بالنائب الأوّل للسكرتير الصحافي فخرج الأخير للإعراب عن «قلق» الولايات المتحدة بصدد «تقارير» عن هجمات كيميائية.
ومن حيث المنطق الشكلي يتوجب أن يرحّب غوردُن بهذا المشهد، لأنه يطابق مواقفه المناهضة لمفهوم تغيير النظام، ويندرج كذلك في «عقيدة أوباما» الشهيرة التي تنفر من المغامرات العسكرية الخارجية؛ لولا أنه، في المقابل، يتجاهل عن سابق قصد وتصميم، إذْ لا يعقل أنه كان يجهل، سلسلة المباحثات المستفيضة التي انخرط فيها ضباط أمريكيون وروس؛ وانطلقت في صيف 2015، وامتدت إلى كامل سنة 2016، وكان موضوعها الأكبر أو شبه الوحيد في الواقع، هو… كيف يمكن إنقاذ نظام الأسد! هذا ما كشفته إفادة أندرو إكسوم، نائب المساعد الأسبق في وزارة الدفاع الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط خلال رئاسة أوباما الثانية، أمام لجنة فرعية في الكونغرس بحثت السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط. وقال الرجل: «كان واضحاً لنا أنّ روسيا، رغم إعلانها الانخراط في محاربة الإرهاب، كانت أكثر اهتماماً بتركيز جهودها العسكرية على تدمير ما تبقى من معارضة علمانية وإسلامية معتدلة في وجه نظام الأسد. كنّا جميعاً نعرف أين ينتشر الإسلاميون المتطرفون في مطلع 2016، أي في شرق سوريا وأطراف من شمالها الغربي حيث كانت النصرة قوية بصفة خاصة. روسيا، على العكس، كانت تركز على استرداد تلك المناطق المدينية الكبرى مثل حلب ودمشق، والتي كانت حاضنة مجموعات المعارضة الأكثر اعتدالاً».
وفي ضوء هذا الإغفال الفادح، المتعمد والمقصود، فإنّ أكثر من 12,500 كلمة يدبجها غوردُن في الفصل المكرّس لسوريا لا تفقد الكثير من مصداقيتها ضمن نطاق استعراض ما يبرر خيارات أوباما، سواء في التدخل أو في حجبه، فحسب؛ بل تنزلق أيضاً إلى مجاراة «اللعبة الخاسرة» ذاتها التي يدور الكتاب حولها. فأن ينتقد غوردُن مفهوم تغيير الأنظمة بالقوّة، ويسهب في شرح عواقبه الكارثية، شيء؛ وأن يتغافل، عامداً، عن تدخل اثنتين من القوى العظمى للحفاظ على نظام آل الأسد، بدل تغييره، شيء آخر مختلف ومناقض وفاضح. وكيف تكون الحال إذا كان غوردُن نفسه يشخّص النظام هكذا: «برهن الأسد على أنه مستعدّ للقتل، والتعذيب، وتهجير الملايين من مواطنيه، والمناورة على الطائفية بأشكال خبيثة، وتعميق اعتماد بلده على روسا وإيران».
لكنّ الافتقار إلى المصداقية هو دليل أبرز على أهمية كتاب يحتشد بتفاصيل غير معروفة، ويقدّم شهادة جديدة على كيل الإدارات الأمريكية بعشرات المكاييل إزاء مفهوم تغيير النظام، الغائم القلق الرجراج؛ عن سابق قصد وتصميم، هنا أيضاً.
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس