النظام الدولي على صفيح ساخن
العربي الجديد/ علي العبدالله
تحرّكت روسيا لمواجهة إصرار الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (الناتو) على إدماج أوكرانيا في التحالف الغربي؛ والعمل على إقامة قواعد بحرية على البحر الأسود في رومانيا وبلغاريا؛ ونشر قوات وعتاد في دول شرق أوروبا.
سعى حلف الناتو إلى دمج أوكرانيا في صفوفه، من خلال دعمها سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وإشراك قواتها في مناورات وتدريبات برية وبحرية وتشجيعها على التعاون والتنسيق الواسع، تمهيداً لانضمامها رسمياً إلى صفوفه. شهدت الفترة الأخيرة تطوّراً ملحوظاً في قدرات الجيش الأوكراني في العدد والعتاد. زاد العدد من 120 ألفاً إلى 250 ألفاً، مع إبعاد الموالين لروسيا منه وتقويته بتجهيزه بأسلحة غربية متطوّرة؛ صواريخ دفاع جوي وراجمات صواريخ ورادارات وتقنيات مراقبة، ومسيّرات تركية من طراز بيرقدار، وإشراكه في مناوراتٍ بحريةٍ وبريةٍ مع قوات حلف الناتو لكسب الخبرات الميدانية والإدارية، دعمها “الناتو” لتتحول إلى قوة موازنة لروسيا على البحر الأسود، ما أثار حفيظة الأخيرة ومخاوفها من إحكام الطوق حولها؛ وقد عكست مطالبها من الحلف إلغاء بيانه الصادر عام 2008 بشأن انضمام أوكرانيا وجورجيا للحلف، وتقديم تأكيداتٍ ملزمة قانوناً بعدم نشر أسلحة حول روسيا، وفق بيان الخارجية الروسية، حجم هواجسها ومخاوفها من خسارتها أوكرانيا.
اعتمدت روسيا ثلاث خطوات متكاملة للضغط على الولايات المتحدة و”الناتو” لتحقيق هدف رئيس، وهو الانخراط في مفاوضاتٍ على ترتيبات جيوسياسية وجيواستراتيجية تقود، في حال الاتفاق عليها، إلى إقامة غلافٍ استراتيجيٍّ لحماية أمنها القومي. أول هذه الخطوات حشد عسكري ضخم على الحدود الروسية – الأوكرانية، قدّر العدد بـ 175 ألف جندي مع عتاد ثقيل، طوّق أوكرانيا من ثلاث جهات. ثاني هذه الخطوات رفع سعر الغاز في ذروة فصل الشتاء، إذ يرتفع الطلب عليه للتدفئة، مع نقصٍ في مخزون الدول الأوروبية منه، قدّر المخزون الحالي بـ 63% من احتياجاتها. ثالث هذه الخطوات تنظيم وإدارة عملية هجرة من دول في الشرق الأوسط إلى أوروبا، وتجميع آلاف من طالبي اللجوء على الحدود البيلاروسية – البولندية، ودفعهم إلى اقتحام الحدود إلى بولندا، ومنها إلى باقي دول الاتحاد الأوروبي، أردفتها بإجراء مناوراتٍ بحرية؛ واحدة في البحر الأسود وأخرى مع البحرية الجزائرية غرب البحر الأبيض المتوسط؛ وبدفع صرب البوسنة إلى المطالبة بالانفصال عن جمهورية البوسنة والهرسك؛ وإجراء تجارب على صاروخ “سيركون” الفرط صوتي، وتدريبات على منظومة صواريخ إس 400 في شبه جزيرة القرم، وعلى صواريخ إسكندر في مقاطعة كورسك المجاورة لأوكرانيا، وبالتنسيق مع الصين، في ضوء هدفهما المشترك: إضعاف الولايات المتحدة وكسر الأحادية القطبية، عبر إجراء دورياتٍ بحريةٍ مشتركةٍ في المحيط الهادئ، وتوقيع اتفاق عسكري للتعاون، يقضي بزيادة التدريبات والدوريات المشتركة لقوات بلديهما “رداً على نشاطات القوات الجوية الاستراتيجية الأميركية القادرة على حمل أسلحة نووية بالقرب من الحدود الروسية” وفق قول وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، وعقد قمةٍ افتراضية بين الرئيسين، الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ، ندّدا فيها بالخطاب الأميركي العدائي نحو بلديهما. الهدف المباشر من الخطوة الأولى الضغط على الولايات المتحدة وحلف الناتو لسحب دعوة أوكرانيا إلى الانضمام إلى صفوف الحلف. ومن الخطوتين الثانية والثالثة، زعزعة استقرار دول الاتحاد الأوروبي عبر إشاعة تذمر واحتجاجات شعبية على فقدان الغاز وارتفاع الأسعار الكبير الذي حصل، وبذر الشقاق بينها حول الموقف من اللاجئين وسبل مواجهتهم وتقاسم عبئهم، والخطوات الرديفة لمشاغلة “الناتو” والاتحاد الأوروبي بقضايا بجواره وفي عقر داره.
رفض حلف الناتو المطالب الروسية، سحب دعوته أوكرانيا إلى الانضمام إلى الحلف وتعهدات مكتوبة بعدم نشر قوات وعتاد في أراضي الدول التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي، وأعلن تمسّكه بحق أوكرانيا في الاختيار؛ وعقد اجتماعاً لوزراء دفاعه في ريغا عاصمة لاتفيا يوم 21/10/2021، وأصدر بياناً يحذّر فيه روسيا من الإقدام على غزو أوكرانيا؛ وتبنّي خطة لمواجهة هجوم روسي واسع من البلطيق والبحر الأسود؛ وتذرّع بالحشد الروسي على الحدود الأوكرانية، وبكلام الرئيس الروسي عن روسيا التاريخية التي تشمل كلّ الأراضي التي كانت ضمن الاتحاد السوفييتي، ونشر عتاد عسكري في بولندا ولاتفيا وإستونيا وليتوانيا. وقد عزّزت الولايات المتحدة موقف الحلف بإصدار تهديد لروسيا بعقوبات قاسية، أبلغها الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن، للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، خلال قمتهما الافتراضية، وإجراء مناورات وتدريبات أطلسية في مياه فرنسا وإسبانيا وإيطاليا والمياه الدولية غرب البحر الأبيض المتوسط، أكبر المناورات البحرية خلال السنوات الأخيرة، على محاربة الدول وتأمين الملاحة، وتلويح الولايات المتحدة بتعزيز الجناح الشرقي للحلف بتركيز انتشارها العسكري في أوروبا في جزئها الشرقي، وقيام طائرات أميركية بدوريات فوق البحر الأسود وعلى الحدود الشرقية لدول الحلف، وشحن أكثر من 120 مروحية وألف آلية عسكرية و1200 ناقلة جند مدرّعة من طراز إم1 117 إلى ميناء ألكساندروبولي اليوناني، تمهيداً لإرسالها إلى بلغاريا ورومانيا والمجر، والتنسيق مع أوكرانيا بتجهيز خطط لمقاومة أي اجتياح روسي لأراضيها؛ خطط حرب عصابات وحرب شوارع وعمليات مقاومة خلف خطوط العدو، لخوض حرب استنزافٍ طويلة الأمد، تنهك القوات الروسية وتدفّع روسيا، وبوتين تحديداً، ثمناً باهظاً بتكبيدها خسائر مادية وبشرية كبيرة، وتوسيع دائرة الضغط على روسيا، بالإعلان عن موقفٍ صلبٍ من التحرّك الروسي لصياغة حل للصراع في سورية وعليها، بتأكيدها أنّ قرار مجلس الأمن رقم 2254 هو الطريق الوحيد للحلّ.
ردّت روسيا على الرفض الغربي لمطالبها بإرسال قاذفات قنابل إستراتيجية بعيدة المدى من طراز “تو-22 إم 3” للانضمام إلى دوريات حراسة المجال الجوي على طول الحدود الغربية للبلاد، حيث تقوم مقاتلات “سو – 30 إس إم” روسية وبيلاروسية بدوريات جوية مشتركة على الحدود الغربية للبلدين. وكان لافتاً قول وزارة خارجية بيلاروسيا إنّها تدرس نشر أسلحة نووية روسية على أراضيها حال تعرّضها لتهديد من “الناتو” مرفقة بدعوة من بوتين إلى حوار أمني فوري مع الحلف، وإعلان بانسحاب روسيا من معاهدة السماوات المفتوحة.
وضعت المواجهة الدائرة بمناوراتها السياسية والعسكرية مستقبل النظام الدولي على بساط البحث؛ فكلا طرفي الصراع يدير المواجهة بكل أدواتها ومستوياتها، مستغلاً كلّ نقاط قوته ونقاط ضعف خصمه، وعينه على اليوم التالي، على الانعكاسات الاستراتيجية لهذه الجولة، فالولايات المتحدة تعتبر التعاون الروسي الصيني موجّها ضد تحرّكها لاحتواء الصين، وتضع التنسيق الروسي الصيني والروسي الإيراني في خانة الصراع على واقع النظام الدولي ومستقبله. وهذا دفعها إلى تحريك الموقف شرق أوروبا لإشغال روسيا بأمنها الخاص، وإرضاء الكونغرس الذي يرى في روسيا خطراً أكبر من خطر الصين، ويضع مواجهتها في مقدمة أولويات السياسة الخارجية الأميركية، وطمأنة دول شرق أوروبا بأنّ إعطاء الأولوية للصين لا يعني غضّ النظر عن التهديدات الروسية لأمنها واستقرارها، فالنجاح في احتواء هذا الثلاثي وردعه ضرورة لتثبيت النظام الدولي الحالي الذي تجلس على قمته. والتحرّك الغربي للاستحواذ على أوكرانيا ليس جديداً أو مفاجئاً لروسيا، لكنّها انتظرت فرصةً للرد على المحاولة، وقد اعتقدت أنّها قد حانت، في ضوء انشغال الولايات المتحدة بترتيب أوراقها واستعداداتها السياسية والميدانية لاحتواء الصين، وبتبعات انسحابها الفوضوي من أفغانستان على صورتها، وقد اعتبر دليل ضعف، وعلى مصداقيتها؛ وإعادة تموضعها في الشرق الأوسط الذي أثار ردود فعل سلبية لدى حلفائها في الإقليم، دول الخليج على وجه الخصوص، وانخراطهم في مبادراتٍ سياسيةٍ تبعدهم عنها، بما في ذلك انفتاح استراتيجي على خصومها روسيا والصين وإيران، لصياغة معادلات جيوسياسية لاحتواء مفاعيل توجهها الجديد، وما يمكن أن ينجم عنه على صعيد توازن القوى وانعكاسه على أمنهم الوطني، وخلافها مع فرنسا على خلفية صفقة الغواصات الأسترالية؛ وبحالة المراوحة في مفاوضات فيينا حول البرنامج النووي الإيراني، وتبعات تآكل بنيتها التحتية ومفاعيل وباء كوفيد 19على صورتها ومكانتها الدولية. تحرّكت معتقدةً أنّ لحظة النظام أحادي القطب قد اقتربت نهايتها، وأنّ في استطاعتها رفع التحدّي في وجه حلف الناتو، ودفعه إلى التراجع عن عرضه لأوكرانيا واعتباره التراجع، إن حصل، مؤشّراً على تبدل توازن القوى، وعلى ولادة نظام دولي جديد بتوازناتٍ تكون فيها قوة موازية للولايات المتحدة؛ القوة الرئيسة في التحالف الغربي.
ADARPRESS #