اللامركزية والديمقراطية: ضرورة التلازم
رياض درار
التعريف السائد للامركزية أنها نموذج من الإدارة يهدف إلى عدم تركيز السلطة بمستوى إداري واحد بحيث يتم تشتيت السلطات وتوزيعها على مستويات عدة بغاية عدم التفرد، والمشاركة، وتسهيل الإجراءات، وتخفيف العبء على الإدارات العليا، والسرعة في الإنجاز، وسهولة التنسيق بين الدوائر، وضبط الرقابة في مجمل العملية الإدارية. ويكون ذلك عبر التفويض من سلطة عليا إلى سلطة أدنى، أو عبر المنح الدستوري لسلطات متعددة بين المركز والأطراف من أجل القيام بمهام ووظائف معينة. سواء على مستوى سياسي أو جغرافي أو وظيفي. فهي مرتبطة بالمركز، وتعنى بتنفيذ سياسة الدولة، وتخفف العبء على المواطنين وتشعرهم بالتشاركية في إدارة شؤون حياتهم، وتنمي الروح الديمقراطية سواء في اختيار الممثلين المباشرين أو متابعة أعمالهم اليومية وأدائهم.
وهي تطبيق للحكم المحلي بما يحقق تحديد مستويات هذا الحكم وأدوات تأديته، وتأكيد حكم الشعب في الاختيار والمشاركة والمتابعة والمحاسبة، وإذا كان مفهوم الديمقراطية يقوم على مفهوم حكم الشعب نفسه بنفسه فإن المفهوم ذاته يجب أن يسود الحكم المحلي مضبوطا بوحدة البلاد ومرجعية الدستورالعام لها، وتاليا فإن السلطات الثلاث تعمل في ظل رقابة دائمة من المستفيدين من عملها في أجزائها التنفيذية والتشريعية والقضائية.
الحاجة إلى الربط بين اللامركزية والديمقراطية هدف بحد ذاته للخروج من عسف السلطات المستبدة التي عانى منها السوريون في جميع مفاصل حياتهم، والتي مدت أذرع أجهزتها المخابراتية إلى كافة المناطق والمؤسسات والمكاتب والنفوس. وكون المركزية مرادفة للسلطوية في بلادنا فإن اللامركزية تكون مرادفة للديمقراطية، رغم أن الديمقراطية عملت في دول مركزية إلا أنها كانت داعمة للحرية والمساواة في تلك الأنحاء، لذلك تركيز اللامركزية مع الديمقراطية يهدف إلى تحقيق الحرية والمساواة والتخلص من السلطوية المركزية.
ويمكن للنظام المركزي أن يكون ديمقراطيا في حال تكون الهوية الوطنية متجانسة، لكنه في حال التنوع وتعدد الهويات وعدم التجانس، فقد يقلل أو ينفي النظام المركزي هوية أطراف وفئات من المجتمع، وفي حال التخوف من اعتبار السياسات المبنية على الهوية مسألة خطرة على وحدة الأمة فإن نوعا من اللامركزية اللامتناظرة يمكن تطبيقه لجهة ما بحيث تمنح وضعية خاصة تقترب من الحكم الذاتي من حيث الصلاحيات المنوطة بها .
إن استخدام كلمة الوحدة الوطنية في المجتمعات المتنوعة سلاح بيد الأنظمة المستبدة والسلطوية كالنظام السوري يحول دون إدراك معنى التنوع وحرمان مكونات من المجتمع من حقوقهم الأساسية. نحن نحتاج إلى نهج إدارة لمرحلة مابعد النزاع يضمن المشاركة الفعلية لكافة المكونات، وإدارة التنوع بشكل يوسع نطاق صلاحيات مؤسسة الحكم المحلي، وتفعيل التنمية عبر استيعاب أغراضها المتعددة، وتوفير الخدمات التي تحتاج إليها مختلف المناطق، ومن أجل تجاوز التحدي الوجودي يجب صوغ اللامركزية كجزء من عقد اجتماعي، وتضمين الدستور رؤية متكاملة لشكل اللامركزية وسبل إنفاذها .
هل يمكن اعتماد ضمانات مسبقة للوصول الى اتفاقات حول المبادئ الأساسية وتجديد المواصفات التقنية في ظل عدم التعويل على قدرة الحكومة المركزية الضعيفة والمؤسسات المتشظية والمنهارة، وعدم القدرة على السيطرة على الموارد الوطنية وفقدان الثقة بقدراتها على ذلك، عدا عن انحراف قطاعاتها الأمنية خاصة وتحولها إلى مافيات لاتختلف عن ممارسات الفصائل المسلحة في المناطق الأخرى.
حتى في طرحه لمفهوم اللامركزية فإن النظام كرس سيطرة المحافظ الذي يعين من الرئيس مباشرة وجعله مجرد انتاج للحكم السلطوي عبر إصلاحات شكلية، وحين استعاد النظام أجزاء من المناطق التي أقامت هياكل إدارة محلية، فقد أنهاها باعتبارها تهديدا لسلطته لاتقل خطورة عن الجماعات المسلحة، وخلال ذلك فرض سلطته من جديد في انتخابات محلية في أيلول 1918 قدم فيها قائمة واحدة دون منافسة باسم قائمة الوحدة الوطنية، هي صورة أخرى عن قائمة البعث باسم الجبهة الوطنية .
موقف السوريين من الحل مابعد النزاع تتنازعه حالات ارتياب من نموذج تشارك السلطة على أسس طائفية أو قومية (العراق أو لبنان)، أو نموذج فيدرالي يرونه وصفة ومقدمة للتقسيم. وهم يرون نموذج اللامركزية ممكناً كتقسيم إداري في ظل دولة موحدة. وأن ما يمنع حتى القومية الثانية في سوريا من إنشاء كانتون خاص بالكرد يتمثل في عدم وجود تجانس سكاني في مناطق مشتركة بين الكرد والعرب والسريان الآشوريين، وهذا يتطلب إيجاد سبل مناسبة لإدارة حالة التنوع في المناطق.
في سوريا بعد الدمار الذي لحق بمؤسسة الدولة نتيجة النزاع الذي يمكن أن يستمر باستمرار النظام السياسي لابد من خيار مدروس بدقة لتحقيق ماتم تطبيقه في مناطق الإدارة الذاتية بعد تطويره وهو نظام اللامركزية الديمقراطية، لقد جاء الحل من خلال عملية لم تأت صدفة ولكنها خروج من حرفية التعريفات الفقهية في القانون حول لامركزية إدارية غير منصفة لحقوق الكرد، باعتبار مرجع الخلاف فيها يعود لمحكمة إدارية لاتؤكد حقوقاً قومية ولاتنصف مبدأً إنسانياً ولاتخدم مضمون المشاركة السياسية، أو حول لامركزية سياسية يخشى السوريون من غير الكرد أن تذهب بهم إلى مطالب استقلالية وانفصالية. فالحل القادر على استيعاب مطالب الكرد وتطلعاتهم كان باجتراح مصطلح اللامركزية الديمقراطية، ونحن نحتاج إلى تأكيد هذا المصطلح في الأذهان قبل الأعيان، وذلك عبر مراحل يمكن تصميمها دستوريا لأن مرجعية أي خلاف سيكون في المحكمة الدستورية، ولذلك لابد من تفصيل المبادئ المتعلقة باللامركزية بشكل لايترك للسلطة المركزية أي تصرف مخل، وبطريقة تحمي السلطات المحلية كوجود قانوني قائم بذاته يضمن حقوق المكونات مع وحدة الأراضي السورية.
حوارات عديدة للسوريين حول مبادئ اللامركزية لكن مفهوم اللامركزية الديمقراطية ظهر بشكل مبهم عمداً في مؤتمر القاهرة 2015 كعنوان مقبول يسمح للسوريين بالتفاوض حول المضمون والذي يمكن أن يرتكز إلى قواعد محددة:
1 – يتم تطبيق نظام لامركزي ناجح بوجود دولة مركزية قوية تمارس رقابة على الهيئات المحلية عبر وسائل مقترحة وفق مبدأ الوصاية، وتمارس الدولة السلطة كاملة في العلاقات الخارجية.
2 – حياد الدولة تجاه الأديان والطوائف والأقوام ولاتتسم باسم دين أو شعب من شعوب البلد (الدولة السورية هوالاسم السياسي ). وبالتالي فإن أية وظيفة في الدولة لايجب أن تتسم بصفة دين أو قوم .
3 – إنشاء فضاء مدني وإقرار قوانين تكفل حق المواطن باللجوء إليه بدلا من قانون الأحوال الشخصية لمنع تكريس الهويات في الصراع والتنافس.
4 – ضمان الحقوق الفردية للمواطن كضمان الحقوق الجماعية للمكونات في الدستور. ويمكن تشكيل البرلمان من غرفتين، مجلس وطني للعموم، ومجلس مناطق( شيوخ أو شورى) أهم أدواره ضمان التمثيل العادل لمختلف المكونات وتجنب أن يؤدي حكم الأغلبية إلى الإجحاف بحق أي مكون.
5 – ترسيم الوحدات الإدارية بناء على اعتبارات جغرافية وفق معايير تتصل بالتوزيع العادل للموارد والتنمية المتوازنة والعادلة.
6 – تشكيل المجالس المحلية بالانتخاب، وتتشكل ادارات ذاتية منتخبة في المناطق. وتمارس سلطة التصرف بالموارد المالية وفق نظام مالي يضمن تخصيص الميزانية لكل مستوى من مستويات السلطة المحلية، ويضمن وجود تصور كامل عن النظام غير الممركز وعمله بشكل متوازن.
7 – توزيع المهام الأمنية بين المركز والأطراف على أن يكون الجيش والأمن خاضعان لقانون وطني واحد وسلطة عليا واحدة. ويمكن منح سلطة معينة لقوات محلية في الدفاع والأمن وفق خطة بناء اللامركزية، متفق عليها مع السلطة المركزية.
8 – صوغ مواد قانونية تمنع تدخل دول الجوار في التيارات السياسية ( تنظيميا أو ماليا) أو ارتباط بأية جماعات خارجية. (لايمس ذلك الصلات الايديولوجية والفلسفية).
كل ذلك يتطلب إعادة تنظيم القضاء الإداري، وإنشاء محاكم جهوية، وتفعيل دور القضاء واستقلاله. ولإدراك تعقيد المسألة يمكن السير المتدرج في التطبيق وفق خطط زمنية تحدد الأهداف والتدابير، وتفعيلها عبر قانون توجيهي، ويجري تقييمها من قبل المشرعين .
اللامركزية مسار محفوف بالمخاطر ومن المهم أن تتاح فرصة لإنجاز خارطة طريق نحو الانتقال الديمقراطي الحقيقي، والتحكم بالعملية بشكل عملي ومتوازن، وإرضاء المكونات، وإقناع الكرد تحديدا بإمكانية إرضاء تطلعاتهم في إطار سوريا الموحدة. وإذا تم الاتفاق على اللامركزية الديمقراطية كعنوان لابد أن يتم تحديد تفاصيلها وتضمينها في الدستور، بحيث يتم رسم الشكل العام للنظام الجديد، وتعريف كيفية توزيع السلطات، وتحديد الآليات التي يتم بموجبها نقل الصلاحيات والمسؤوليات من المركز إلى المناطق.
إن الانتقال إلى نظام لامركزي يحمل الصفة الديمقراطية يحتاج إلى جهود كبرى يتم خلالها تعميق مستوى الثقافة السياسية، ويتطلب تكييف المناهج التعليمية والثقافية والإعلامية نحو إرساء مفهوم المواطنة الديمقراطية التي ستؤثر في جميع مجالات الحياة، وفي كيفية المشاركة والتمثيل السياسي.
- بالاعتماد على دراسة لمركز الاصلاح العربي “مسار آمن نحو اللامركزية الديمقراطية” تم صوغ هذه الورقة بتصرف