إغواء الأكراد بلسان لافروف
عمر قدور
جانَبَ الحظ وزيرَ الخارجية الروسي سيرغي لافروف، فلم تُحدِث أقواله يوم الجمعة الماضي الدويّ المطلوب، ولم يزحف أكراد سوريا “جماعات وفرادى” إلى دمشق أو موسكو للحصول على ترجمة ملموسة لوعوده. كان لافروف، في مؤتمره السنوي الصحفي عن حصيلة أعمال وزارته خلال السنة الفائتة، قد أشار إلى أن سوريا يمكن أن تستفيد من تجربة العراق في حل المسألة الكردية، وهذه أقوى رسالة روسية إذا أخذنا في الحسبان تجربة إقليم كردستان العراق التي تجاوزت الحكم الذاتي إلى تنظيم استفتاء على الاستقلال، وكان ذلك سيصبح واقعاً لولا الظروف الدولية والإقليمية التي حالت دون الأخذ بنتائج الاستفتاء المؤيدة للاستقلال.
في الرد على وزير الخارجية الروسي، قالت سما بكداش المتحدثة باسم حزب الاتحاد الديموقراطي PYD: “لنا الحق في الاستفادة من تجربة بني جلدتنا، لكن سورية ليست العراق، ودمشق ليست بغداد. ورؤيتنا للحل السوري مختلفة، لذلك سيكون الحل في سوريا مختلفاً عنه في العراق”. والطريف من حيث الظاهر أن المتحدثة، التي يسيطر حزبها على الإدارة الذاتية الكردية، ترفض العرض الروسي بآفاقه التي تذهب أبعد مما يطالب به تنظيمها. فالحكم الذاتي لإقليم كردستان العراق هو بموجب الدستور العراقي، ومن حيث التنفيذ، يمنح أكراد العراق استقلالية أكبر مما يطالب به الفرع السوري لحزب العمال في أطروحاته عن اللامركزية.
قد تفسِّر العداوة بين قنديل وأربيل رفض بكداش التجربة العراقية أو التشبه بها، مع أنها تطالب الجانب الروسي بإقناع سلطة الأسد من أجل الحوار مع حزبها، وكان لافروف في المؤتمر الصحفي نفسه قد أشار إلى تحفظ تلك السلطة إزاء الأكراد، موضحاً أنها لم تنسَ لهم اتباعهم نهجاً معارضاً في مراحل سابقة من النزاع. كان يجدر بالمتحدثة الثناء على أفق الحل الذي يقترحه لافروف، مع مطالبتها بجَسر المسافة الشاسعة بين ذلك الأفق ورفض الأسد مجرد النقاش في اقتراحات أدنى قدّمتها الإدارة الذاتية في جولات سابقة فاشلة من الحوار بين الطرفين.
لا نعلم ما الذي تقوله موسكو لوفود الإدارة الذاتية التي لم تنقطع عن زيارتها، لكن نستبعد أن تكون قد طرحت على تلك الوفود تصوراً للحل مشابهاً للنموذج العراقي. خلف أبواب القاعات المغلقة، من المرجح أن تكون الدبلوماسية الروسية “بلباقتها ولطفها المعروفين!” قد حاولت إقناع الإدارة الذاتية بالتخلي عن العديد من مطالبها كي يقبل الأسد بالحوار معها، ولا يُستبعد إطلاقاً أن يكون لافروف ومعاونوه قد أخبروا وفود الإدارة أنهم لا يستطيعون ممارسة أي ضغط على الأسد لتقديم “تنازلات”، وأن الحل ينبغي أن يكون سورياً وبقيادة سورية…إلخ.
في التشبيه بالنموذج العراقي، يتناسى لافروف ويتناسى من رحبوا بتصريحه ومن تحفظوا عليه من الأكراد أن تجربة إقليم كردستان العراق تطورت إلى شكلها الحالي بتدخلين دوليين حاسمين، أولهما فرض منطقتي الحظر الجوي على صدام حسين، واحدة منهما تشمل الإقليم، وثانيهما الغزو الأمريكي وما تلاه من تغيير جذري في الواقع وفي السلطة. وإذا جاز تشبيه المظلة الأمريكية الحالية للإدارة الذاتية بتجربة الحظر الجوي في العراق فإن إسقاط بشار غير مطروح على غرار إسقاط صدام، بل حذّرت مراراً دوائرُ صنع القرار في واشنطن من تكرار النموذج العراقي باعتباره خطأ كارثياً.
بخلاف ما حدث في العراق، يُنذر لافروف في الجزء الأخير مما قاله عن الموضوع الكردي بأن الأمريكيين ليسوا من سيحدد مصير سوريا. وكان قد ذكّر بعزم إدارة ترامب على الانسحاب من سوريا، ما دفع الأكراد حينها إلى طلب مساعدة موسكو للتفاوض مع الأسد، ثم اختفى اهتمامهم بذلك بعد تراجع واشنطن عن قرارها. هذه هي العصا التي يشهرها لافروف في وجه الأكراد، من خلف جزرة الإغواء، فهو يهدد الأكراد بانسحاب أمريكي قد يحدث، وبأن واشنطن لن تقرر مصير سوريا، وهذا تهديد تعززه طريقة تعاطي ثلاث إدارات متعاقبة مع الحدث السوري.
إنما ينبغي تالياً ألا تنطلي خدعة التلويح بجزرة الحكم الذاتي لإقليم كردستان وعصا الانسحاب الأمريكي من شرق الفرات، فالحجم المبالغ فيه للجزرة ينضح بمقدار ما تخبئه من كذب. أقوال لافروف أتت فقط بعد أقل من ثلاثة أسابيع على تصريحات المبعوث الرئاسي الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف، وفيها قال الأخير: “إذا سعى شخص ما إلى هدف وضع دستور جديد من أجل تغيير صلاحيات الرئيس، وبالتالي محاولة تغيير السلطة في دمشق، فإن هذا الطريق لا يؤدي إلى شيء”. بلا لبس، كان لافرنتييف يوضح أن صلاحيات بشار الأسد خط أحمر، ومن المعلوم أن الدستور الحالي يمنحه صلاحيات واسعة جداً وفق نظام رئاسي شديد المركزية، بما يتنافى بالمطلق مع فكرة منح الأكراد حكماً ذاتياً، وحتى أدنى منه بكثير. للتذكير، أتى الحكم الذاتي لإقليم كردستان العراق مع إنهاء النظام الرئاسي والتحول إلى نظام برلماني.
وفق تجربة سنوات من التدخل العسكري الروسي، وبعيداً عن غرام بوتين بسياسة الأرض المحروقة، أفضل ما قدّمته الدبلوماسية الروسية هو الإشراف على ما سُمّي بمصالحات بين السلطة وبعض جيوب المعارضة. إما بتجاهلٍ من موسكو، أو بموافقتها التامة، تنصل الأسد من كافة تفاهمات “المصالحات”، وآخر تنصل كان في درعا وإن شذّبته قليلاً “الوساطة” الروسية.
بعبارة أخرى، من المستحيل على الدبلوماسية الروسية الخروج من جلدها لتقدّم للأكراد ما لا ينسجم مع “تقاليدها” أو مع “تقاليد” سلطة الأسد. الأقرب إلى الواقع أن الدبلوماسية الروسية، فوق أنها تنطق باسم نظام يشهر عداءه للديموقراطية، محكومة أيضاً بدعمها سلطة تشهر استعصاءها على أدنى تغيير، وأقوال لافرنتييف هي أفضل ما يعبّر عن هذا التحالف، وعن السقف السياسي الذي يمكن أن يتفق عليه طرفاه، أو أطرافه الثلاثة بضم النظام الإيراني الذي ليس لديه تصور مختلف لمستقبل سوريا.
بكذبة أكبر من أن تصدَّق، افتتح لافروف العام الجديد، وهو الذي وصِف مراراً بثعلب الدبلوماسية الروسية. قد يجد الذين يودّون امتداحه مكراً في تحميل تهديده “وهو الأصل” في طيات الإغواء، وأن غايته أولاً وأخيراً انتزاع الأكراد من أمريكا ثم الغدر بهم. إلا أن لافروف يبدو كمن قرر إعفاء مدّاحيه، إذ ظهر الثعلب كعرّاب مصالحات صغير عند الأسد.