المعارك التي تخوضها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ضد موجات “الجهاديين” التي أطلقها تنظيم داعش لتحرير معتقليه من سجن غويران، ليست سوى تمرين أول على ما يمكن أن يحصل، سواء بالنسبة إلى هذا السجن الذي يضم 3500 جهادي، أو بالنسبة إلى السجون الأخرى التي يبلغ إجمالي قاطنيها نحو 12 ألف عنصر من جيش داعش.
هذه المعارك خيضت بينما كان جيش رجب طيب أردوغان وميليشياته تهاجم مواقع قسد بقصد إضعافها وتشتيت قدرتها على حماية تلك السجون. ولا يحتاج المرء أن يكون ساذجا إلى ذلك الحد، بحيث يعتقد أن هجمات داعش وميليشيات أردوغان تمت من دون تنسيق مسبق.
قسد التي يشكل الأكراد قوتها الرئيسية تؤدي مهمة أشبه بحماية العالم من جيش جرار من الإرهابيين، وسط بيئة معادية من كل جانب.
أردوغان يريد، من الأساس، أن يفرض سيطرته على منطقة شرق الفرات. ومن خط جبهة إلى آخر ظلت قواته وميليشياته تدفع قسد إلى الوراء حتى لم يبق لها إلا المنطقة التي تقع تحت ظلال قوات التحالف الدولي والقواعد العسكرية الأميركية.
بينما تزعم ميليشيات أردوغان أنها تريد إسقاط نظام الرئيس بشار الأسد، فكلاهما يعتبر الأكراد عدوا ويسعى لهزيمته والسيطرة على المناطق التي تحكمها الإدارة الذاتية الكردية.
العداء التركي للأكراد ليس أمرا جديدا. أردوغان يخوض المعركة ضد أكراد تركيا بذات المستوى من الشراسة لحرمانهم من حقوقهم السياسية والثقافية، دع عنك حقوقهم القومية. وهو يلاحق ممثليهم في البرلمان ويملأ بهم سجونه ليس انتقاما من تقدمهم الانتخابي الذي حصدوا به نحو 12 في المئة من أصوات الناخبين، وإنما انتقاما من تطلعاتهم القومية، ومن وجودهم نفسه.
نظام الرئيس بشار الأسد لديه اعتبارات أبعد، لأنه يخشى على وجوده هو.
سلطة الاستبداد لا تريد أن يكون لها شريك، حتى ولو بالقليل. كما أنها لا تريد صوتا يطالب بحقوق ديمقراطية لكل الشعب السوري. والمسألة بالنسبة إليه مسألة حياة أو موت فعلا، لاسيما وأن تمسك الأكراد بأن تكون لهم حقوق قومية، من ناحية، وأن شيئا لن يمكنه حماية هذه الحقوق من دون مساواة في الحقوق الديمقراطية لكل الشعب السوري، من ناحية أخرى، إنما يرسي الأساس لنهاية هذا النظام.
ومن الناحية الميدانية، فثمة سباق محموم بين جيش الأسد وجيش أردوغان للسيطرة على ما تسيطر قسد عليه.
ولئن بدا جيش الأسد مشلولا بسبب ضعفه والقيود التي يحاول أن يفرضها الروس على مشاركة ميليشيات إيران في الهجمات ضد مناطق شرق الفرات، فإن جيش أردوغان يتمتع بوضع أفضل، بسبب صلاته بالولايات المتحدة، وهي صلات يستخدمها للمناورة وليس للتنسيق.
عندما بدأت هجمات داعش على سجن غويران، كانت طائرات وميليشيات جيش أردوغان تواصل هجماتها ضد قوات قسد، في دلالة على أن داعش خطط لعملياته ضد هذا السجن بينما كانت قسد تدافع عن مواقعها في “تل تمر” وغيرها. وهي بينما كانت ترسل تعزيزات إلى جبهات المواجهة مع جيش أردوغان، فقد كان الفراغ يتسع حول سجن غويران وغيره من السجون التي يُحتجز فيها الدواعش.
الصلات بين جيش أردوغان وداعش ليست خفية على أي حال. فعلى امتداد سنوات الخلافة، كانت التبادلات التجارية عبر الحدود توفر لدولة داعش كل ما تحتاجه من مقومات. كما لم يكن خافيا أن تركيا ظلت تستقبل جرحى داعش في مستشفياتها. وعندما تمكن الأكراد من تحرير أول بلدة على الحدود بين تركيا وبين دولة الخلافة، فقد انتقم جيش أردوغان من كوباني بسلسلة من عمليات القصف، حتى انتهى الأمر، وفقا لسباق التسويات، بأن أصبحت البلدة خاضعة لجيش الأسد برفقة القوات الروسية. وانسحب الأكراد منها، رغم أنها كان يتعين أن تبقى أيقونة للرجال والنساء الأكراد الذين قاموا بتحريرها، وانطلقوا منها ليهزموا دولة الخلافة.
دفعُ المقاتلين الأكراد إلى إخلاء كوباني، كان يقصد محو الطابع الرمزي لتحرير هذه البلدة. وليست الرموز إلا عدو مشترك لجيش الأسد وجيش أردوغان على حد السواء. الجيش الذي ظل يهرب من أمام تنظيم داعش حتى سلّم تدمر، كان من المهم بالنسبة إليه أن يدخل كوباني لتعويض عقد الذعر (لا النقص)، ولو على حساب الذين فتحوا الطريق لتحرير تدمر.
ولكن لماذا يريد جيش أردوغان مساعدة داعش في تحرير سجنائه؟
ليست الكراهية القومية للأكراد وحدها هي السبب. ليست المكانة التي يحتلها المقاتلون الأكراد في حسابات البنتاغون وحدها هي السبب. وليست الثروات النفطية في شرق الفرات وحدها هي السبب.
هناك سبب أهم من كل هذا. وهو أن المشروع الأردوغاني ما يزال بحاجة إلى قوة قتال طليعية مثل داعش لفتح الطرق أمام نفوذه في سوريا والعراق، ولدى الولايات المتحدة.
تحرير 12 ألف جهادي من سجون الحسكة سوف يوفر لأردوغان جيشا من الانكشارية الجدد ليدفعهم من جديد، وهو من ورائهم، إلى أطراف دمشق وبغداد مثلما كان الحال في الأعوام التي تلت إعلان دولة الخلافة.
القواعد الأميركية سوف تنسحب لكي تخلي المكان لجيش أردوغان بوصفه الوريث الطبيعي لحليف في الأطلسي. ولسوف يتاح لأردوغان أن يمسك بزمام المبادرة في قيادة “التحالف الدولي ضد تنظيم داعش” بعد أن تخرج الولايات المتحدة منه عسكريا لتكتفي بدور الداعم لجيش أردوغان.
انطلاقا من هذه النقطة، سوف يتحول أردوغان المعزول والمكروه في واشنطن وباريس وبرلين وبروكسل، إلى بطل عالمي، وذلك لمجرد أنه يتصدر الجهود لملاحقة فلول تنظيم داعش. وهو، بسبب الصلات الأيديولوجية مع التنظيم، سوف يستطيع أن يحول جزءا كبيرا من جهاديي داعش إلى مرتزقة يرسلهم ليس إلى ليبيا وحدها وإنما إلى دول أخرى في القارة الأفريقية، التي يبذل من الأساس جهدا دبلوماسيا مشهودا من أجل التوسع فيها. سوف يرسلهم إلى مالي وموزمبيق وبوركينا فاسو وغيرها، ليأتي بقواته من خلفهم، لكي “يساعد” هذه الدول في التصدي للإرهاب.
كل الذين يظنون أن نزعات أردوغان التوسعية هي تطلعات رجل أحمق، في مواجهة النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط أو الفرنسي في أفريقيا، سرعان ما سوف يكتشفون أنهم هم الحمقى.
لقد دفع أردوغان بجيشه لمحاربة قسد، لتحرير جيشه الأسير في سجون الحسكة. هذا عمل ما من سبيل للنظر إليه على أنه مجرد صدفة، إلا من وجهة نظر الحماقة التي اعتبرت أردوغان شريكا في الحرب ضد الإرهاب، بينما هو شريكٌ للإرهاب في الحرب ضد الجميع.