عودة “داعش” في ذكرى رحيله
منير أديب/ النهار
أيام قليلة ونحتفل بذكرى سقوط دولة “داعش”، تلك التي سبق الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) في الإعلان عن زوالها في 22 آذار (مارس) من عام 2019. مرت ثلاث سنوات ولا يزال التنظيم موجوداً ربما بصورة تبدو أخطر من تلك التي كان عليها، إذ تحولت الدولة التي أنشأها خلايا منفردة ومتفردة بعد “الزوال”، بعضها كان نشطاً والبعض الآخر كان خاملاً، كل هذه الخلايا مثلت خطورة على الأمن، ليس فقط في الأماكن التي كان يحتل التنظيم أراضي فيها، بل على أمن العالم بأكمله.
هذا العالم تساهل كثيراً مع التنظيم قبل إعلان دولته في 29 حزيران (يونيو) من عام 2014 وعندما أقام دولته أيضاً، إذ استمر التحالف الذي تم تشكيله من أكثر من ثمانين دولة يواجه “دولة التنظيم” خمس سنوات كاملة! كانت مواجهة منقوصة حيث واجه التحالف الذي قادته واشنطن “تنظيم الدولة” من خلال السموات المفتوحة فقط، بينما لا عمليات فعلية على الأرض وهي الأهم، وهو ما أنتج لنا وضعاً أمنياً في منتهى الخطورة في العراق وسوريا؛ تنظيم يبدو أنه غير موجود بالعين المجردة، ولكنه موجود بالفعل من خلال عملياته العسكرية.
كنّا دائماً نردد عبارة “هل ذهب داعش” حتى نتحدث عن عودته من جديد، عندما كان يوجَّه لنا سؤال عن إمكان عودة التنظيم الأكثر تطرفاً بعد سقوط مملكته، كنّا نحاول أن نصوّر من خلال هذه المقولة في النقاشات المفتوحة أن التنظيم لا يزال موجوداً ويمثل خطراً كبيراً على الأمن والسلم، كنّا نريد أن نقول إن معدل خطر “داعش” يزداد وفق الإحصاء التحليلي والمعلوماتي، كنّا ندق ناقوس الخطر، ولكن رفضت معظم دول العالم التزام تعهداتها في مواجهة التنظيم ولم ينصت لنا أحد.
من الأدوار التي كان يجب على دول العالم القيام بها هو استقبال هؤلاء المتطرفين الذين باتوا أسرى السجون الكردية؛ كان يجب على هذه الدول استقبال متطرفيها والتعامل معهم وفق ما يمثلونه من خطورة، فكل دولة أولى بما أنتجته، بخاصة أن “قوات سوريا الديموقراطية” ليست لديها القدرة الأمنية والعسكرية لحماية هذه السجون، فضلاً عن خطورة هؤلاء السجناء، فكيف يتم تجميعهم بهذه الصورة في مكان واحد! ويقف عليه بعض الجنود بأسلحة وخبرات تبدو محدودة ومتواضعة.
لك أن تتخيل عزيزي القارئ أن سجن الصناعة في مدينة الحسكة السورية يحوي قرابة 3500 سجين من “داعش”، وهو أكبر سجن يحوي هذا العدد من المتطرفين في العالم، الشديدي الخطورة. نجحت خلايا “داعش” الخاملة في تنفيذ عمل عسكري ضد السجن بالاتفاق مع السجناء في داخله، وهو ما أسفر عن قتلى بالعشرات من قوات الأمن الداخلي و”داعش”، فضلاً عن هروب عدد غير محدود من هؤلاء السجناء وسيطرة عدد آخر على مباني السجن الأخطر في العالم.
كمحاولة لتقريب الصورة، فإن ثمة تشابهاً بين سجن ننغرهار في أفغانستان، وسجن الصناعة في حي غويران في الحسكة، فكل منهما تم اقتحامة من “داعش” بالطريقة نفسها، الأول عام 2020، بينما تم اقتحام الثاني عام 2022؛ وهذا يأتي ضمن استراتيجية أوصى بها خليفة التنظيم “المقتول” أبو بكر البغدادي، وشدد عليها الخليفة “القائم” أبو إبراهيم القرشي.
ترك العالم “قوات سوريا الديموقراطية” بمفردها في معركتها مع “داعش”؛ فلا هي لديها جهاز استخبارات قوي نجح في رصد الخلايا “الخاملة” أو “النشطة” للتنظيم في الخارج، ولا هي قادرة على حماية سجن غويران الأكبر من نوعه، وبالتالي بات العالم أكثر تهديداً بعد عملية الاقتحام التي تبدو “نوعية”، والأكبر بين مثيلاتها من العمليات التي قام بها التنظيم منذ سقوط دولته.
لا يمكن أن نتحدث عن عدد القتلى ولا عن عدد الذين فروا على وجه الدقة من سجن الصناعة، ولا عن خطورة هؤلاء في ظل شح الأخبار التي تأتينا من شمال شرقي سوريا أو عدم دقتها على وجه التحديد، فالأمر يحتاج إلى معلومات دقيقة تقودنا إلى رؤية للمواجهة حتى لا يتكرر الاقتحام مرة ثانية لسجون أخرى تحوي قرابة 19 ألف داعشي، ولا بد للمجتمع الدولي من النظر إلى وضع هؤلاء السجناء بصورة مختلفة، فهم كانوا وما زالوا بمثابة قنبلة موقوتة، وقد انفجرت ووصلت شظاياها إلى كل دول العالم. لا يزال طنين القنبلة يدوّي في الآذان، ولا تزال شظاياها تجرح الأبدان. على العالم أن يبحث عن نزع الفتيل قبل أن تنفجر باقي القنابل الموقوتة في المكان الموبوء من العالم.
نوعية العملية العسكرية الأخيرة لـ”داعش” بدت بوضوح في التفاصيل، فالأمر لم يقتصر على تفجير بعض صهاريج الوقود في الخارج أمام بوابة السجن، والتي أتاحت عملية الاقتحام بالأسلحة الخفيفة والثقيلة، ولكنها وصلت إلى عملية التنسيق والترتيب مع السجناء في الداخل، حيث بدأوا عصياناً مفتوحاً وسيطروا على الذخائر والأسلحة الموجودة داخل السجن؛ فتزامنت تحركات “داعش” في الخارج مع تحركات أخرى في الداخل حتى تمت العملية بهذه الصورة، وهو ما يعني ضعفاً في أجهزة الأمن الكردية، فضلاً عن قوة خلايا “داعش”، فمن الخطأ وصف هذه الخلايا بغير حقيقتها، فهي لا تزال قوية وقادرة على تنفيذ العمليات المسلحة بالطريقة نفسها التي كانت عليها عندما سيطرت على الرقة والموصل.
المجتمع الدولي والولايات المتحدة متورطان في ما حدث في سجن الصناعة، فهما لم يسعيا الى القضاء على “داعش” بالكامل، ولم يستمعا إلى النصائح الخاصة باستمرار المواجهة وتفكيك السجون الموجودة في شمال شرقي سوريا، فقوات “قسد” والإدارة الذاتية تُعانيان من ضعف الإمكانات العسكرية، كما يتم مواجهتهما من جانب تركيا بين الوقت والآخر باجتياحات قد أنهكتهما، ونحن هنا لسنا إزاء الحديث عن مشروعية ذلك من عدمه، ولا عن حق تركيا من عدمه أيضاً في هذه الممارسات، ولكننا إزاء واقع يعيشه الشمال السوري، والذي أصر المجتمع الدولي على أن يجعله حارساً على سجن يحوي أخطر من مارسوا العنف في العصر الحديث، ليس هذا فحسب، ولكن في مناخ قلة الإمكانات، وهنا لا نقصد بالإمكانات بعض الأسلحة والذخائر، ولكن الخبرة التي تدفع لمواجهة تنظيم يمتلك الخبرة في فنون القتال والتمويه.
أخطأت الولايات المتحدة في مواجهة “داعش” مرتين؛ إحداهما عندما واجهت التنظيم مع بداية تشكله عام 2014، حيث بدت مواجهتها هزيلة، ولم تواجه التنظيم بما ينبغي أن يكون، حتى صار التنظيم أقوى من أميركا وحلفائها، وهو ما بدا في هجومه الأخير، فهو لم يكن مجرد هجوم، ولكنه رسالة حضور قوي ورسالة للأميركيين بأن التنظيم لم يُهزم، ربما اختاروا توقيتها صحيحاً في ذكرى رحيل دولة التنظيم، ولكن هذه الرسالة بمثابة جرس إنذار لما هو أخطر. أميركا قللت من حجم قواتها في مواجهة التنظيم، فسمحت للتنظيم بالظهور من جديد.
التعامل مع حدث سجن الصناعة على أنه اختراق “داعشي” يمكن تجاوزه أمر في منتهى الخطورة، لا بد من قراءة الرسالة قراءة صحيحة والتعامل معها بالصورة نفسها، فالتنظيم لا يزال موجوداً بصورة تدعو الى القلق، وهنا لا بد من بحث آليات المواجهة الأخطر لبقايا التنظيم، مع بحث آلية تفكيك سجون “داعش” في شمال شرقي سوريا، واستقبال هؤلاء المتطرفين من دولهم، ومعاقبتهم على الجرائم التي ارتكبوها.
الولايات المتحدة تفكر جدياً في غلق سجن غونتاناموا بعد عشرين عاماً من فتحه، ولكنها لا بد من أن تنظر جدياً الى قادة “داعش” وسجنائه الذين لا يقلون في خطورتهم عن سجناء سجن غونتاناموا، فربما يكون سجناء “داعش” أكثر خطراً من سجناء “القاعدة”؛ قد تكون الشبهة هي التي حرّكت أميركا لإلقاء القبض على بعض رواد هذا السجن، ولكن سجناء “داعش” تورطوا في أنهار من الدماء. برك الدماء زكمت الأنوف واعترف أصحابها بها، وهنا وجبت المواجهة.
“داعش” عاد من جديد ولكن أقوى مما كان عليه. عاد ولكنه مستفيد مما حدث له قبل ثلاث سنوات. عودة التنظيم في هذا التوقيت لم تكن عفوية، ولا يمكن فهمها في هذا السياق إذا أردنا أن نلملم جراحنا في مواجهة أكبر وأكثر تأثيراً لهذا التنظيم، وعلى واشنطن أن تحدد أهدافها جيداً، وتعلم أن كل طلقة يطلقها “داعش” في مناطق نفوذه في الشرق الأوسط سوف تصل إليها، فالخطر يطال الجميع، وعلى الجميع أن يواجه التنظيمات المتطرفة و”داعش”، بحيث تتحول ذكرى الرحيل الثالث إلى رحيل حقيقي وليست عودة للتنظيم.
- نقلا عن “النهار”