إشكالية مفهوم الدستور
أسد خياط
الإشكالية في مفهوم الدستور وغالبية ـ إن لم نقل كل ـ مفاهيم الدولة الديمقراطية الحديثة. فهذه المفاهيم التي تتداولها الثقافة السائدة في فضائنا الشرقي، مستوردة لا تعرفها الثقافة السائدة لا بجمهورها الواسع ولا حتى النسبة الكبرى من مثقفيها لا بمدلولاتها ولا بوظائفها، فهي منتج الثورة التنويرية وما تلاها مثل الفرنسية والتي أدت إلى الدولة الحديثة . وكان كل هذا رداً على المجريات في أوروبا من ثورات جياع وفلاحين، وحروب دينية مذهبية وقومية وحكم رجال الكنيسة والملك والنبلاء الخ، والتي أودت بأوروبا أو كادت. لقد وضع هذا النموذج من الحكم أوروبا وكل الدول التي أخذت به (ولايات متحدة، كندا واستراليا.. الخ) على أعلى درجة في سلم الحضارة الإنسانية وفي كل المجالات بلا استثناء. إن ثوار الربيع العربي (شباب متعلمين ـ طبقة وسطى) وبواسطة الثورة المعرفية المعلوماتية التي وفرتها وسائل الاتصالات، والتي تطورت بشكل مذهل في السنوات الأخيرة، وعوا دلالات ووظائف مفاهيم الدولة الحديثة، وليس كما قدمتها لنا وسوقتها الطبقة الحاكمة والمستبدة والفاسدة، مفاهيم بلا أي مضمون .
ولذا طالب الثوار بقيم الدولة الحديثة، حرية، ديمقراطية، مواطنة… الخ. ولم يرفعوا شعارات دينية أو قومية لوعيهم بأن هذا النموذج للدولة هو المتاح والممكن الوحيد لانطلاق نهضتنا.
ثورات الربيع هي ثورات على كل مكونات الثقافة السائدة التي تعيق وصول الثورات إلى أهدافها.
شكلت دساتير الولايات المتحدة ـ فرنسا ـ بولونيا. في ثمانيات القرن الثامن عشر بداية لعصر دساتير الدولة الديمقراطية الحديثة. والقانون الروماني كان أرضية هذه الدساتير بينما كانت قيم الثورة التنويرية ومن ثم الفرنسية حجر الأساس فيها. وبعد الحرب الثانية، أصبح الإعلان العالمي لحقوق الإنسان العمود الفقري لكل دساتير الدولة الديمقراطية، حيث أن الديمقراطيات في تطور مستمر (مستفيدة من الخبرة والتجربة) لما فيه مصلحة المواطن، على عكس ما نطلق عليه الشرائع السماوية غير القابلة للتطور وهذه اشكالية يجب تجاوزها إن أردنا الديمقراطية. وهنا لا بد من التنويه بدور الحقوقيين السوريين من جامعة بيروت الحقوقية وجامعة روما (سوريا الجغرافية) في تطور القوانين العالمية، وعلى رأسهم إميل بابنيان، الذي ساهم هو وتلامذته لابنيان وموديستان وغايوس وباولوس بسبعة آلاف وثلاثمة مادة من أصل تسعة آلاف مادة تشكل القانون الروماني. ويزين تمثال لبابنيان بهو المحكمة العليا في روما، وتمثال آخر يزين مكتبة الكونغرس الأمريكي، وله على سبيل المثال: المتهم بريء حتى يدان، أو البينة على من أدعى. أما الرئيس اللبناني الراحل شارل مالك فكان واحد من ثلاثة أشرفوا على وضع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
بمعنى أننا أيضاً ساهمنا وبدرجة كبيرة بالحضارة الانسانية وبقيم الدولة الحديثة. إن الخطوط العريضة لكل دساتير الدول الديمقراطية هي واحدة وواضحة، ولا بأس من التذكير ببعضها مثل: الحريات العامة والخاصة، المواطنة والمساواة بين المواطنين بمفاهيمها ووظائفها العصرية. وظائف المؤسسات وفصلها ـ التكافل الاجتماعي ـ المحكمة الدستورية، لتفسر وتفصل في أي التباس في معاني ودلالات أية مادة يختلف فيها، دور المعارضة والإعلام تداول السلطة آلية انتخاب (لكل مواطن بالغ صوت) إدارة تدير شؤون الدولة، وتطبق قيم العقد الاجتماعي (الدستور). إذن الديمقراطية هي بالمقام الأول قيم مثل التي أسلفنا ذكر بعضها، وليست كما يفهمها البعض ويختصرها بآلية الانتخاب، وهنا تكمن الإشكالية الثانية.
لذا فإن كتابة الدستور لم تعد بالمهمة الصعبة، طالما أن كل شروط الديمقراطية بلا استثناء ستكون مواد دستورية، خاصة وأن هناك الكثير من دساتير الدول الديمقراطية التي يمكن الاهتداء بها. ويطرح الدستور إما على الشعب أو على نواب الشعب (البرلمان).
ويكون الانسان في الدولة الديمقراطية صاحب القيمة الأعلى في الكون (المواطن في الدولة) وهو مقياس القيم وواضعها في خدمته. فالدولة والدين والفلسفة وكل القيم هي من أجل الانسان وليس الإنسان من أجلها.
وهذه هي الأنسنة، على عكس ثقافتنا حيث يخضع الإنسان للمقدس والتراث بغض النظر إلى أين تذهب به. وهذه إشكالية ثالثة، بين الأنسنة والمقدس (على مستوى الدولة أما الأفراد فهم أحرار).
أغلب الأحزاب في فضاءنا بما فيها الإسلامية، تذكر الدولة المدنية في برامجها وبعضها يضيف بمرجعية إسلامية كوضع مادة دستورية تقول الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع (أو مصدر أساس) والبعض يطالب بدين الدولة الإسلام أو دين رئيسها وهكذا.. ويغيب عنهم أن هذا نقيض للدولة المدنية، فليس من المعقول أن تضع في الدستور الشيء ونقيضه.
لقد ذكرنا أن كل مفاهيم الدولة الحديثة أتتنا من الدول الديمقراطية. ولذا علينا أن نأخذ بتعريفات هذه المفاهيم ودلالاتها ووظائفها كما وصلتنا.
الدولة المدنية، هي الدولة التي يحكمها مدنيون وليس ذوي الأزياء الرسمية والمقصود هنا رجال الدين تحديداً. فالدولة المدنية دولة غير دينية، يحكمها الناس (العالم) بقوانينهم وليس حكم رجال الدين باسم السماء.
أما العلمانية أو العالمانية (بفتح العين ـ من عالم) فهي أيضاً تصب في هذا الاتجاه فالعالم من جهة الناس أو الجمهور الذي يتميز عن رجال الدين. ومن جهة أخرى يقصد به العالم الأرضي غير السماوي. فهو مبدأ فصل الدين عن الدولة، أو لنقل حيادية الدولة تجاه الدين أو الديانات والمذاهب.
أما العلمانية (كسر العين) فهي حركة توعية شعبية للأخذ بأسباب العلم الذي يمكن البرهنة على صحته بالتجربة، وعدم الاستغراق بالمسائل والنقاشات الدينية والماورائيات والعيش على وقعها مما يبدو طاقة الجمهور، وهي ترفض تمويل الدولة لمدارس ومعاهد دينية أو بناء المعابد ولكنها تصون وتحافظ على التراثي منها من جهة ومن جهة أخرى أن تأخذ الدولة بالعلم لحل مشاكلها وليس بشفاعة ومباركة رجال الدين والعلمانية لا تعادي الدين، بل تقف منه موقف الحياد.
أما الليبرالية فهي أيضاً تريد حيادية الدولة ليس فقط من الدين بل ومن كل الحركات والأفكار الشمولية أي عدم أدلجة الدولة، والتشديد على الحريات العامة والخاصة، وفي ابتعاد الدولة قدر الامكان عن شؤون الناس، إلا للضرورة وتركهم يديرون شؤونهم بأنفسهم (المجتمع المدني).
وأخيراً عندنا مفهوم الدولة الأمة، ولقد ساهم الاشتراكيون بتطوير هذا المفهوم وخاصة النمساويين منهم مثل كارل رينَّر، ذلك أنه كان في النمسا عدد كبير من القوميات والديانات والمذاهب، وعلى سبيل المثال كانت المناهج النمساوية الدراسية في مطلع القرن العشرين تدرس بثلاثة وعشرين لغة، إذن لم يكن من المعقول أن تقوم الدولة على العرق أو اللغة أو الدين أو الثقافة وملخص هذه النظرية هو: (مثلاً) إن كل من يحمل جنسية النمسا فهو مواطن نمساوي بغض النظر عن أي اختلاف، ومجموع هؤلاء المواطنين يشكلون الأمة النمساوية، وهكذا نشأت الوطنية النمساوية، وعلى غرارها الوطنية السويسرية وهكذا في كل الدول الديمقراطية، ومفهوم المواطنة والمواطنين هذا الذي يساوي بينهم حتى في أدق التفاصيل، يجعلهم يجمعون على أن التنوع بكل أشكاله هو غنى ثقافي حضاري وتعترف الدولة بكل الديانات والمذاهب وتمول نشاطات الاتحادات والجمعيات الدينية والثقافية
إن دولنا الحالية هي دول فرض الاستعمار حدودها، وبدلاً من التفاهم مع الأتراك ورثة الخلافة العثمانية على مستقبل الولايات العربية وبدلاً من الانخراط في المشروع الحداثي في تركيا، ثار العرب ثورتهم الكبرى، النكبة التي أغلقت الحدود مع الحداثة التركية وفتحتها على البداوة والتعصب والتخلف، وجابت الدب إلى كرمها فكانت (سايكس/ بيكو). وفشلت حكومات الاستقلال بتغيير واقع التجزئة كما فشلت في إنقاذ فلسطين فانقضَّ على الحكم مغامرون سياسيون وعسكريون رافعين شعارات الوحدة العربية وتحرير فلسطين، وانتهت بلادنا إلى دول طوائف فاسدة ومستبدة جهوية ريفية (غير مدنية وغير متمدنة)، كانت تسوق لنا شكل الدولة الحديثة ومفاهيمها ولكن الخالية من أي مضمون، وحاربت الحكومات المتعاقبة (الوطنية) لصالح القومية، معتبرة (لو أخذنا سوريا مثلا) أن سوريا جزء من أمة عربية والأحزاب والحركات الإسلامية ينظرون إلى سوريا كجزء من أمة إسلامية، على الرغم من ملايين غير العرب وملايين غير المسلمين في سوريا.
وهذا ما وضع السوريين أمام مشكلة مستعصية، مشكلة الوطن أين يبدأ وأين ينتهي؟ وهل سوريا دولة وطنية؟ أم دولة مؤقتة جزء من أمة ما؟ لا أحد يعلم أين وجهتها. وهل هناك وطن بدون كيان سياسي سيادي؟.
وتم فرض هوية واحدة على الشعب السوري، ورغم أن هوية أي وطن هي مجموع هويات مكوناته أياً كانت. وأخيراً الدستور حيث أن للدستور تأثير عميق على الثقافة السائدة، فهو إما أن يرتقي بالأمة أو ينحط بها، إذ أن الدستور يحدد مسار الثقافة.