السوريون الكرد في بازار المصطلحات: اللامركزية والفيدرالية
بينما تقرع روسيا بيد طبول الحرب في أوكرانيا في مواجهة الولايات المتحدة وأوروبا، تلوّح بيدها الأخرى، إلى الجهات نفسها، إلى إمكانية تفعيل عمل اللجنة الدستورية السورية (المعطلة منذ قرار تشكيلها في عام 2019، على رغم انعقاد جلساتها الست سابقاً)، لإقرار مسودة الإصلاحات الدستورية التي كان النظام قد رفض مناقشتها، ما يعني أننا أمام تسويةٍ روسيةٍ مكتوبة، سوّقها مبعوث الأمم المتحدة، غير بيدرسون، إلى دول فاعلة في الملف السوري، استدعت قوله سابقاً إنه “لا يوجد خلافات استراتيجية بين المعارضة والنظام”، ومنحته لاحقاً قدرة التفاؤل من جديد على عقد الجلسة السابعة في الشهر المقبل (مارس/ آذار).
واللافت في تزامن حراك بيدرسون مع حراك روسي باتجاه سورية تصريحات نائب وزير خارجية روسيا، ميخائيل بوغدانوف، عن ضرورة مشاركة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في المسار السياسي، واعتبارها حاجة، وكأنه يريد سحب الورقة الكردية من التداول على الطاولة الأميركية، وهي خطوة متقدّمة على الأميركيين بالحديث عن رؤيتها ضرورة مشاركة “قسد” في الحل السياسي وصياغة الدستور الجديد لسورية بعد الصراع.
وتنعم “قسد” بحكم مساحة واسعة من سورية تحت الحماية الأميركية من جهة، وفي مواجهة مع فصائل المعارضة المسلحة العاملة تحت الحماية التركية من جهة مقابلة، والتي استبعدتها المعارضة السياسية من التمثيل داخل كياناتها (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية وهيئة التفاوض ..”، ووسمتها بالانفصالية، ما يفتح على أسئلة من نوع: كيف يمكن لـ”قسد” أن تجلس على طاولة التفاوض الحالية؟ وإلى أي جانب سينتمي ممثلوها؟ وما هي حقيقة مطالبها وتصوّراتها لسورية؟ وهل ستنتمي إلى أحد الخيارين المعروضين من النظام والمعارضة؟
“قسد” الآن بين خيارين: السير في ركاب معارضة تتحدث عن مستقبل سورية، أو الجلوس إلى جانب النظام السوري
هل تساير موسكو ما طرحته المعارضة عن اللامركزية الإدارية في استدراج الورقة الكردية، أم أنها تفعل ذلك بالتوافق مع الإدارات الأميركية والأوروبية، والعودة إلى مقترحاتها التي عبرت عنها سابقاً في اللاورقة عام 2018، ورفضها النظام والمعارضة، حيث اعتمدت فيها رؤية الاتحاد الأوروبي التي طرحتها في ذلك الوقت مفوضة السياسة الخارجية فيه، فيديريكا موغريني، وتنصّ على اعتماد النظام البرلماني المشكل من غرفتين، تختصّ إحداهما بتمثيل كل الأقاليم (المحافظات)، وتشدّد على انتهاء النظام المركزي، وتسهيل عملية الممارسة الديمقراطية والتنمية المناطقية للأقاليم وتمثيلها السياسي في البرلمان، مع التأكيد أن لا سلطة رئاسية للرئيس لحل البرلمان، ما يعني أننا إزاء نظام برلماني ولا مركزي (فيدرالية من نوع ما) وهذا ما يتجنّب الحديث عنه كل من الأطراف السورية.
أمام “قسد” الآن خيارات كثيرة، ولكن في ظل الأطراف السورية ومصطلحاتهما هي بين خيارين: إما السير في ركاب معارضة تتحدث عن مستقبل سورية، وتوارب مصطلحاتها عن طبيعة الحكم ما بعد المفاوضات السياسية، أو ما بعد التسوية المأمولة على طاولة مفاوضات جنيف تحت مظلة القرارات الدولية والأممية من بيان جنيف1 إلى قرار مجلس الأمن 2254.
أو الجلوس إلى جانب النظام السوري الذي يؤكد، عبر كل خطاباته وخطواته التنفيذية، رؤيته المتعنتة لـ”سوريا الأسد”، بإبقائها تحت حكم مركزي مطلق ومتوارث، بكل مصابه وفساده وانهياراته، ولا يحتاج الأمر هنا إلى شرح.
لا يبتعد مصطلح اللامركزية الإدارية “الغائم” عما يروّجه النظام من تعديلات ممكنة على قانون الإدارة المحلية
وبعيداً عن موضوع كسب الورقة الكردية، يبقى السؤال هو عن السبب الذي تحاول فيه بعض المعارضة طرح رؤى غامضة لسورية، وكأنها حائرة بين إرضاء طموحها بالاستيلاء على ذات سورية “النظام” بشكلها السياسي والاستبدادي والقمعي والإفسادي، عبر تسويق مصطلحات غائمة وغير محدّدة، للرتق بين مطالب ديمقراطية محقة ومشروعة، ومعتمدة في معظم أنظمة الدول الديمقراطية المتقدّمة والمتماسكة وغير القابلة للتفتيت، ومطامع “معارضاتية” سلطوية تنافسية، يمكنها الانقلاب على بياناتها من خلال تفسير معانيها بالمعجم نفسه لدى النظام الحاكم الحالي، فحيث يمكن تسويق مصطلح اللامركزية الإدارية المطروح من المعارضة بين خيارات تعريفية كثيرة، منها ما يمكن إسقاطه على ما هو قائم حالياً من توزيع الصلاحيات على المحافظين، وصولاً إلى تعريف البنك الدولي الأوسع لهذه “اللامركزية”، والذي تعتمده دولٌ كثيرة، ويشمل مهام سياسية يجري التنازل عنها من المركز إلى مستويات أقل، وهذا ما يقف ضده كل من النظام وكيانات المعارضة الباحثة عن مستقبل سورية إلى أين؟
لا يبتعد مصطلح اللامركزية الإدارية “الغائم” عما يروّجه النظام من تعديلات ممكنة على قانون الإدارة المحلية الصادر بالمرسوم التشريعي 107 في 23 أغسطس/ آب عام 2011، يصبح من نافل القول إن الحديث عن النهج نفسه في التعامل مع سورية بواقعها الحالي والمنهار والممزّق هو “رهان على الفشل” الذي حاول نظام الأسد تسويقه وتلميعه عبر السنوات العشر الماضية، خلال حربه وتمزق سورية وفقدانه السيطرة على كثير من مساحاتها، وبعد استعادته بعض ما فقده من أراضيها، وقبلها عبر عقودٍ من النهج نفسه في التعامي عن الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لطبيعة الحكم المركزي، وأبوابه المفتوحة على الفساد، وإغلاق منافذ التنمية المتوازنة في المحافظات السورية جميعها على حد سواء، ما أنتج محافظاتٍ منسيةً ومنهوبة ثرواتها، ومفتقدة حقوق مواطنيها.
كل سنوات التجريب الفاشلة بنظام حكم مركزي أو “موهوم” بلا مركزية إدارية أو القانون 107، لم تسعف السوريين في أن يبحث لهم أي من الأطراف السورية عن طريق جديد يمشون عليه (من دون إملاءات خارجية) نحو تنمية حقيقية سياسية واقتصادية واجتماعية. وفي الوقت الذي انهارت فيه مستويات المعيشة في كل المحافظات السورية قبل 2011، ولم تتميز بكثير عنها المدن، ومنها العاصمة دمشق وحلب واللاذقية وحمص، بواقع أفضل من غيرها على الصعيدين، الاقتصادي والسياسي. ولم تتحقق التنمية المفترضة، حيث صبّت الثروات السورية في جيوب المسؤولين والمتنفذين في السلطة، بديلا عن أن تصبّ في المحافظ الاستثمارية للمحافظات 14 السورية، ولوزارات الدولة ومؤسساتها، وبقي التمثيل السياسي وشاغلوه (أعضاء مجلس الشعب) مجرّد موظفين أو مستثمرين يشترون عضويتهم التي يتم الاستفتاء عليها، وليس انتخابهم، بقوة النظام الأمني القمعي.
“غمغمة” المصطلحات والتهرّب من مواجهة الواقع السوري المتفتت بفعل تعنّت النظام من جهة، وحربه على معارضته السلمية من جهة ثانية لن تفيد في نقاش مستقبل سورية
ما يجعل التساؤل مشروعاً بشأن أسباب طرح المعارضة من جديد مصطلحات ملتبسة وقابلة لكل التفسيرات، كـ”اللامركزية الإدارية” بتنوع تعاريفها من دون تحديد واضح وصريح لها، وهي، حسب الخبراء، موزّعة على أربعة تعريفات، أحدها مشابهٌ لما يطرحه القانون 107، وهذا يعني إمكانية أن تعيد السوريين إلى المواجهة نفسها مع حكوماتهم المحتملة، وتعيد إنتاج طبقة مسؤولين قادرين على الالتفاف على متطلبات التنمية المحلية، بسبب تبعيتهم للحكومة المركزية التي لن تأخذ وقتاً طويلا في إعادة الأمور إلى الواقع السوري المتعارف عليه.
“غمغمة” المصطلحات والتهرّب من مواجهة الواقع السوري المتفتت بفعل تعنّت النظام من جهة، وحربه على معارضته السلمية من جهة ثانية، ودخوله في صراع مسلّح مع تشكيلات مسلحة متعدّدة الاتجاهات والانتماءات والمشاريع والرؤى حول النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي لسورية ما بعد الهاوية، لن تفيد في نقاش مستقبل سورية، واجتماع النسخ المتطابقة فكرياً للبحث فيه لن يقدّم جديداً على الواقع المأساوي سوى إغراقه أكثر في متاهة المصطلحات الفضفاضة، وترك باب البازار مفتوحاً على مصراعيه، لتغيير اتجاهات الصراع وأدواته.
بعد 11 عاماً من الصراع الدامي، في سورية وعليها، كان من المنتظر أن تعمل الجهات النافذة على العمل على استقطاب أوسع قوى من المجتمع السوري، والبحث عما فرّقهم لتجاوزه، ووضع كيانات معارضتهم تحت المحاسبة لعدم إنجاز مشروع واضح المعالم لكل السوريين لتأكيد وحدتهم المجتمعية قبل الجغرافية، وليس المحاصصة معهم و”الطبطبة” على فشلهم