ما لم يأخذه فلاديمير بوتين بالحسبان
علينا أن ندرك أن الحرب الجارية هي حرب بوتين والعالم، لا دور للإستراتيجيين الروس وخبرائها ومفكريها فيما يجري، أنها حرب دكتاتور وليس حرب شعب أو قوة عسكرية متفوقة بخبرائها وجنرالاتها وإستراتيجييها، على شعب يعتبره الشعب الروسي جزء منه. هنا تتبدى الهيمنة الدكتاتورية في أوضح صورها، حيث يختلط الذكاء مع الحقد والخباثة، ويتم تهميش دور الخبراء والمفكرين في الحكم والقرارات، فمن المستبعد أن تنجر روسيا إلى هذا المستنقع، فكما نعلم من الحقبة السوفيتية رغم دكتاتوريتها؛ لم تنجر إلى مثل هذا المطب.
حتى قبل ساعات من الهجوم الروسي، المتضارب مع توقعات معظم المراقبين السياسيين، بعكس المؤشرات العسكرية، كانوا يرجحون احتمالية إدراك فلاديمير بوتين ومستشاريه لمخطط أمريكا والناتو، وعدم دفع روسيا المتفوقة عسكريا إلى مستنقع الحروب القاسية، والتي ستؤدي بها إلى مسيرة استنزاف طويلة الأمد، الإشكالية التي كان يجب عليه قبل الجميع معرفة تفاصيلها وإفشالها، والابتعاد عن المواجهة المباشرة، بل كان المتوقع أنه بعد التطوير الذي تم في المجال العسكري سيقوم بتطوير الاقتصاد، الذي ليس بقادر الأن على تحمل النزيف الذي سيرافق المواجهة الجارية.
وكان المتوقع أن الاستراتيجيين الروس سوف يقنعون الرئيس بعدم المغامرة، خاصة وقد كانت لديهم خيارات عديدة لتنفيذ ما يطلبه، وتحقيق نفس النتائج وبدون هدر الدماء، وتدمير البنية التحتية لأوكرانيا ومعها قطاعات رئيسة من الاقتصاد الروسي، وإبعاد الأصدقاء، لكن الهيمنة الدكتاتورية غيبت الأحكام المنطقية عن الساحة.
فما يتبين أن بوتين لا يزال من الحرس القديم، ولا يؤمن إلا بفوهة البندقية، وفضلها على الأساليب الرخوة في الحصول على مبتغاه، وتمكن من فرض رأيه على مستشاريه، مع ذلك المقارنة بينه وبين هتلر منافية للمنطق، رغم أن حزبه قومي لكن ليس بمتطرف كما كانت عليها النازية، مثلما المقارنة الشخصية بينهما من حيث التراكمات النفسية في المرحلة السابقة للمواجهة جدلية لا يمكن الحكم فيها، حتى ولو كانت النتائج الأولية شبه متقاربة، علما أن الفرق بين ما بلغته ألمانيا قبل الحرب، وحيث تشكيلة دول المحور والتي جمعت ثلاث دول كبرى في العالم، تختلف ما حصلت عليها روسيا في الأسبوع الأولى من الهجوم، وحيث العزلة شبه المطلقة عالميا، حتى الصين المتوقعة أن يشكلا القطب المنافس للناتو وأمريكا، وقفت على الحياد المبطن بعدم القناعة بما أقدم عليه، باستثناء بعض الأنظمة الغارقة في التخلف والإجرام كالنظام السوري وكوريا الشمالية وكوبا.
بعض المحللين يرجحون أسباب تبجح بوتين، إلى النجاح السريع في عمليات تطوير بعض الأسلحة الإستراتيجية، والإحساس بالتفوق في المنافسة العسكرية، على دول الناتو، وهي نفس الحالة التي أصابت أردوغان وأدت به لمواجهة الناتو وأمريكا وحتى روسيا في بعض المناطق، ونجاح روسيا النظري في حربها ضمن سوريا، وجغرافيات أخرى، وشبه التفكك في الناتو زمن دونالد ترمب، وانحراف تركيا عنها والتقارب من روسيا، أدت إلى تعميق المنافسة، وظهور بدايات حرب باردة جديدة بعد مجيئ إدارة جو بايدن، لكن مجرياتها ليست كما يخططه الخبراء الروس.
لذا وفي ظل المنهجية الدكتاتورية الجارية، ليست بغريبة تناسي الاستراتيجيين الروس أهمية الثقل الاقتصادي في الصراعات الدولية، ومكانة روسيا عالميا، وضعفها اقتصاديا أمام الدول الأوروبية وأمريكا، رغم غناها الهائل بالموارد الطبيعية ومساحات أراضيها الزراعية الشاسعة والتي تتجاوز مساحات أوروبا وأمريكا معاً، والتي لا تستثمر كما يجب، ولا تعطى لعلماء الاقتصاد الدور المناسب لرفع روسيا إلى المكانة الممكنة بلوغها، بالتالي لا يترافق تطورها الاقتصادي مع تفوقها العسكري، وهنا يكمن الخلل الكارثي في القوة الروسية، كدولة بإمكانها أن تكون مثال للدول السوفيتية والاشتراكية السابقة، من حيث التطور الاقتصادي ومستويات المعيشة، لتعيد الماضي بتحالفات جديدة عن قناعة، وهي الدولة التي لا تنقصها المفكرين والعباقرة والخبراء في جميع المجالات، وشعب يقف في مقدمة شعوب العالم ثقافة.
ولكن وللأسف، فإن نموها الاقتصادي كارثي مقارنة بما تملكه، والتي بإمكانها أن تكون من بين الدول الأربعة الأولى عالميا، وليست دولة اقتصادها على مستوى الاقتصاد الإيطالي، ويعيش فيها 15 مليون إنسان من أصل 144 مليون تحت خط الفقر و60% من الشعب يعيشون على خط الفقر، بناء على تقرير سنوي قدمته نائبة رئيس الوزراء للدولة عام 2021م.
لا يستبعد وبناء على مجريات الأحداث، وما بدأت تقدمه دول الناتو من المساعدات العسكرية، ومن أفضل ما تملكه تكنلوجيا، للجيش الأوكراني، أن تثبت القناعات على أن حرب فلاديمير بوتين على أوكرانيا هي بداية نزيف يشبهه البعض بما جرى للسوفييت في أفغانستان، وعلى الأرجح أن بوتين ومستشاري الدكتاتور وليس الإستراتيجيين الروس، استبعدوا المقارنة على خلفية:
1- أن طبيعة الجغرافية الأوكرانية، خالية من الجبال.
2- القوى المعارضة الأوكرانية المساندة لروسيا أو للعلاقات السوفيتية الماضية، ستلعب دورا كبيرا في حال الهجوم.
3- عدم التقدير للقوى المناهضة، داخليا وخارجيا، للهجوم الروسي على دولة ذات سيادة.
4- عدم توقعهم أن تكون المساعدات الأوروبية، خاصة العسكرية المتطورة جداً؛ بهذه السرعة.
5- عدم التقدير لمدى تأثير ثقل الحصار الاقتصادي.
6- ترجيح احتمالية الحصول على مساعدات لوجستية من الدول الصديقة كالصين.
كل هذه الأخطاء في التقدير، يرجح فشل الدكتاتور ومستشاريه فيما كان مخططا، ليس فقط في البعد القريب، بل وفي الصراع الأوسع مع الناتو وأمريكا، وهو ما يدفع بنا إلى احتمالين ستقدم عليها حكومة بوتين:
1- إما الاتفاق مع أوكرانيا على شروط فيها بعض التراجع عن مطالبها، لئلا يخسر النظام.
2- أو الاستمرار في المواجهة وعدم المبالاة بالنتائج، فيقوم بتوسيع رقعة الحرب لتشمل أوربا عامة، وهنا تكمن الكارثة العالمية.
فرغم تباطئ الجيش الروسي في احتلال العاصمة كييف، ومدينة خاركوف، أما للمقاومة الأوكرانية القوية أو لحذر الجيش الروسي، والشعور بأنها حرب على الأهل، إلا أن بوتين مصر على بلوغهما، وهذا ما تتوقعه وترغب به دول الناتو، ليتم مسيرة الاستنزاف، خاصة وأن الجيش الروسي ليس بقادر على تغطية كامل جغرافية أوكرانيا، والمعارضة المؤيدة ليست مؤهلة للهيمنة على غربها، وهنا يتم ترجيح المعادلة الثالثة والتي نوه إليها بوتين في خطابه الحاد يوم بدء الهجوم، وهي تجزئة أوكرانيا إلى دويلات، والفصل بين شرقها وجنوبها، وجعلها دولة ضعيفة غير قابلة على تمرير أجندات حلف الناتو.
فهل بوتين سيغامر بترجيح منطق (عليّ وعلى أعدائي)؟ وإلى أي مدى سيقبل الاستراتيجيون الروس، السياسيون والعسكريون، هذا الطغيان، والسماح للعابث بمقدرات الأمة الروسية السير في الدروب الكارثية المرعبة؟ والذي نأمل أن يتمكنوا بطريقة ما التخلص منه ومن النظام الدكتاتوري، والحكم المطلق، ويضعوا حداً لسلطة تهيمن على مقدراتهم لأكثر من عقدين ونصف، ولا يزال مستمرا، ولا يستبعد أن يجر روسيا بشعبها إلى كوارث مروعة متتالية.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
27/2/2022م