هل ما زال الحوار السوري – السوري مطلبا وهدفا للسوريين ؟؟الحوار السوري المطلوب
صلاح الدين بلال/ مجلة اسبار
عرّف الجنرال البروسي كارل فون كلاوزفيتز الحرب بأنها “امتدادٌ للسياسة بوسائل أخرى”، وتعريف كلاوزفيتز ينطبق بشكلٍ رئيس على الحروب بين الدول، لكن هذا التعريف يمكن سَحبهُ أيضاً على الحروب الداخلية، حيث تمارس الأطراف المحليّة صراعاً عسكرياً ضد بعضها البعض، بغية تحقيق انتصار سياسي، وهو ما ينطبق على الحالة السوريّة، حيث تحوّل الصراع الوطني من أجل التغيير إلى صراع مسلّح بين النظام وفصائل المعارضة المسلّحة.
من الجوانب كافة، يمكننا القول إن الخاسر الأكبر في الصراع السوري هو السوريين أنفسهم، وأن الرابح هو القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في الصراع، فكلما تداعت الدولة، تمكّنت القوى الخارجية من توسيع نفوذها، كما أن الأطراف السوريّة، من دون استثناء، لم تكن قادرة على استكمال الصراع من دون تلك القوى الخارجية،
منذ بيان جنيف1، في 30 يونيو/ حزيران 2012، أصبح واضحاً أن السوريين سلّموا بتدويل قضيتهم، وهو ما عنى فعلياً أن إمكانية الحوار والتفاوض بين القوى السورية قد انعدمت، كما أن مسار التدويل، وعبر حوالي سبع سنوات، لم ينتج تفاوضاً جديّاً ومباشراً بين النظام والمعارضة، وهو ما يمكن أن تدعوه ب “التفاوض الصفري”، حيث لا يرغب أي طرف بتقديم تنازلات مطلوبة للوصول إلى تسوية سياسية، حتى أن جولات التفاوض في جنيف تحولت إلى لا تفاوض، وكأنها مجرّد تمرير للوقت، ريثما يتّم الحسم في الميدان العسكري.
وفي الأثناء، لعبت جميع القوى المحليّة والخارجية على قضية الإرهاب، ومنذ عام 2014 أصبحت المسألة السورية، اختزالاً، قضية تتعلق بإنهاء الإرهاب، في تغافل صريح عن جوهر المسألة الوطنية نفسها، والتي لا يمكن حلّها، بشكلٍ فعليّ ومستدام، إلا من خلال السياسة، وعلى الرغم من تأكيد مختلف الأطراف على أن الحل في سوريا لا يمكن إلا أن يكون حلّاً سياسياً، لكن، في الواقع الفعلي، لم تكن ثمة رغبة فعلية ولا إرادة في الاحتكام إلى السياسة، بوصفها ممارسة عقلانية، تتيح ابتكار مخارج، وتسويات، أقل تكلفة من الحرب.
ما تغافلت عنه القوى السياسية هو مستوى التهتّك الذي أصاب المجتمع السوري، بل أن الجميع أسقط المجتمع من حساباته، مع ممارسة حالة من اللامبالاة، تجاه صعود الهويّات الفرعية، على حساب الهويّة الوطنية الجامعة، وما هو أخطر من المبالاة هو الاستثمار في الهويّات الفرعية، ما يؤكد على نقص في الوعي تجاه المسألة الوطنية، وعلى خفّة سياسية وأخلاقية في التعاطي مع قضاياها.
النتيجة المنطقية لهذا السلوك اللاسياسي للنخب السورية هو تحوّل جميع الأطراف المحلية إلى أطراف ثانوية في الصراع، فاقدة للقدرة على التأثير الجدّي في مسار الأحداث، كما أنها فقدت مصداقيتها بين مؤيديها، أو من تعتبرهم موالاتها (موالاة السلطة، وموالاة المعارضة)، مع استهلاك متكرّر للخطاب الإعلامي، والذي يفتقد أدنى مسؤولية تجاه المسألة الوطنية، مع تثمين “الانتصارات”، من قبيل “هزمنا الإرهاب”، وهو خطاب الحكومة السوريّة، ومن قبيل “انهزمت الفصائل المسلّحة لكن الثورة لم تُهزم”، في خطاب المعارضة.
ما من نقد لدى النخب السوريّة يذهب إلى العمق ومكاشفة الذات والآخرين، وعلى الرغم من كل الكوارث التي أصابت الوطن السوري، بشرياً وعمرانياً واجتماعياً واقتصادياً، إلا أن النخب مستمرّة في رفض مسار للحوار، وفي شيطنة كل من يُقدم على الحوار، وهو استمرارٌ لنهجٍ بدء مع بداية الحدث السوري، وكان يمكن فهمه، في لحظة ما، ضمن إطار رفع سقف شروط التفاوض، لكن الوقت والوقائع والنتائج تجاوزت تلك اللحظة.
ثمة مسألة أساسية ينبغي على النخب السياسية الاعتراف بها، وهي أن جميع السوريين قد هُزموا، وأنهم فشلوا في إدارة الصراع الوطني، وأنهم، وعلى اختلاف مواقعهم، هم الذين أدخلوا القوى الإقليمية والدولية على خطّ الصراع، وبالتالي فإن هذا الاعتراف هو مجرّد مقدمة أولى، وهو شرطٌ لازمٌ لكنّه غير كافٍ، من أجل استعادة هذه القضية إلى مسارها الوطني، وأن ثمة جهد كبير مطلوب بذله في هذا الاتجاه.
إن نهاية الأعمال العسكريّة، بما فيها القضاء على تنظيم “داعش” الإرهابي، من شأنها أن تدشّن مرحلة لا تقلّ صعوبة عن سنوات الحرب، حيث أننا نواجه وضعاً كارثياً غير مسبوق في تاريخ البلاد، وقضايا كبيرة تحتاج إلى معالجات، وإلى بنى تشريعية جديدة، وإلى موارد ماليّة ضخمة، لكن كل هذه القضايا وغيرها لا يمكن حلّها من دون تحوّل سياسي، وهو تحوّل لن يكون ممكناً من دون فتح باب الحوار بين السوريين، وهو الحوار الذي يجب أن يحدث اليوم قبل الغد.