أردوغان في السعودية.. ثقة مفقودة وآمال صعبة
متخلياً عن الأوراق التي رفعها طوال السنوات الماضية في وجه السعودية وقادتها، زار الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان الرياض يومي الخميس والجمعة الماضيين، معانقاً الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، ونجله ولي العهد محمد بن سلمان، على أمل فتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين، ومن أجل ذلك، خطى أردوغان خطوة انقلابية على نفسه قبيل الزيارة، إذ أعلنت حكومته إغلاق ملف مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده بإسطنبول عام 2018، وتحويل القضية إلى القضاء السعودي، بعد أن كان أردوغان اتهم علناً القيادة السعودية بالتورط في مقتل خاشقجي، بل تقول التقارير إنه سلم شخصياً الإدارة الأميركية في عهد دونالد ترامب ملفاً خاصاً حول هذا الموضوع، يؤكد تورط ولي العهد السعودي في هذه القضية.
في الواقع، لم تكن قضية خاشقجي الورقة الوحيدة التي رفعها أردوغان ضد قادة السعودية، إذ سبق ذلك اصفطاف أردوغان إلى جانب قطر عندما أعلنت دول عربية على رأسها السعودية قطع العلاقات معها، كما سبق ذلك، دعمه لجماعات الإخوان المسلمين وجعل بلاده حاضنة لهم، وهو ما اعتبرته السعودية دعماً للجماعات الإرهابية، خاصة أنها صنفت جماعات الإخوان المسلمين في لائحة المنظمات الإرهابية، وبسبب هذه الملفات الخلافية، توترت العلاقات بين الجانبين خلال السنوات الماضية، وسط اتهامات وحملات إعلامية متبادلة، قبل أن يكتشف أردوغان انسداد سياسته هذه، ويبدأ بالانقلاب على نفسه، ويتجه نحو تحسين العلاقات مع الإمارات ومصر والسعودية وإسرائيل، على شكل وصولية سياسية في بناء العلاقات، والرهان عليها لتحقيق جملة من الأهداف الداخلية والخارجية.
دلالات الزيارة
زيارة أردوغان إلى السعودية، كانت الأولى له إلى هذا البلد منذ عام 2017، وقد حدد مسبقاً هدفها بالقول (سنحاول إطلاق حقبة جديدة وتعزيز كافة الروابط السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية) فهل فعلاً تم إطلاق حقبة جديدة في العلاقات بين البلدين؟ في الواقع، لابد للمراقب للزيارة أن يسجل الملاحظات التالية:
- لم يعقد أردوغان خلال الزيارة أي مؤتمر صحفي، وسط أنباء عن أن الجانب السعودي طلب منه عدم إطلاق تصريحات خلال الزيارة.
- رغم كل حديث أردوغان عن فتح صفحة جديدة بين البلدين، لم يتم خلال الزيارة التوقيع على أي برامج عمل، أواتفاقيات في المجالات الاقتصادية والتجارية والعسكرية، على غرار ما حصل خلال الزيارة التي قام بها أردوغان إلى الإمارات في شباط/ فبراير الماضي.
- من تابع الإعلام السعودي خلال زيارة أردوغان، سيجد أنه لم يعطي أي اهتمام يذكر للزيارة خلافاً لزيارات قادة الدول إلى السعودية ومباحثاتهم مع قادتها، ولعل هذا يشكل مؤشراً قوياً إلى عدم وجود حماس سعودي، أو لهفة لفتح صفحة جديدة مع أردوغان خاصة أن الثقة به مفقودة، فيما احتفت تركيا بالزيارة، وأبدت حماساً منقطع النظير في الحديث عن هذه الصفحة.
في الدلالات، لا بد من التوقف عند ثلاثة عوامل أساسية:
الأول: أن الزيارة جاءت في وقت تكونت قناعة سعودية – تركية مشتركة بأن السياسة الأميركية في عهد جو بايدن تتجاهل مصالح البلدين ودورهما، بل وفي كثير من الأحيان باتت تشكل خطراً عليهما، فتركيا لديها إحساس عميق بأن الإدارة الأميركية ماضية في دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) وأن هذا الدعم بات يشكل تحدياً كبيراً لسياستها الإقليمية، لاسيما في سوريا والعراق، فيما تعتقد السعودية أن الإدارة الأميركية التي رفعت ميليشيا الحوثي في اليمن من قائمة الإرهاب ضربت بثوابت العلاقات التاريخية بين الرياض وواشنطن لصالح إيران من أجل التوصل معها إلى اتفاق نووي جديد، وعليه اتخذت مواقف خارج ما تريده واشنطن إزاء الحرب الروسية على أوكرانيا.
الثاني: ثمة تخوف سعودي – تركي مشترك أن أي اتفاق نووي جديد بين إيران والولايات المتحدة، سيطلق يد إيران في المنطقة، لاسيما في سوريا والعراق واليمن ولبنان، وهذه ملفات مشتركة بين السعودية وتركيا، ولعل ثمة إحساس مشترك بأن التقارب بينهما في هذه المرحلة سيخلق حالة من التوازن الإقليمي في مواجهة النفوذ الإيراني الصاعد في المنطقة.
الثالث: أن تركيا في اندفاعتها نحو السعودية ومصر والإمارات وإسرائيل بعد سنوات من التوتر معها، تبدو محكومة بالعامل الاقتصادي الداخلي، في ظل التراجع الكبير في قيمة العملة التركية أمام الدولار، وارتفاع معدلات التضخم والبطالة وهروب الاستثمارات، كل ذلك وسط تراجع شعبية أردوغان وحزبه في ظل الاستعداد لانتخابات مصيرية لحكومة حزب العدالة والتنمية الحاكم، حيث يراهن أردوغان على انفتاحه على هذه الدول في منع حصول انهيارات لاقتصاده، وجلب الاستثمارات والسواح وإطلاق التجارة والمشاريع التي من شأنها تحسين شعبيته في الداخل.
محددات مختلفة
رغم وجود توافقات مشتركة بين الجانبين السعودي والتركي، ورغبة كل طرف في الاستفادة من الآخر لتقوية موفقه إزاء العديد من القضايا الإقليمية إلا أن ثمة محددات مختلفة تؤثر على مدى التعاون بينهما، وعلى الثقة في اتخاذ خطوات مشتركة، خاصة أن السعودية التي تدرك الأهمية الإقليمية لتركيا قد لا تحبذ أن يكون ذلك من خلال أردوغان بسبب فقدان الثقة به، ولعل لهذا السبب بدت زيارة أردوغان وكأنها من دون نتائج عملية مباشرة، ربما في انتظار معرفة من سيحكم تركيا بعد الانتخابات المقبلة، فالمشروعان التركي والسعودي يبدوان وكأنهما في صراع على قيادة العالم السني، ولكل طرف أدواته الايديولوجية والسياسية المختلفة مهما تم التقليل من شأن ذلك، أو القول إن تركيا بدأت تتخلى عن جماعات الإسلام السياسي، في الوقت الذي يعرف الجميع أن حزب العدالة والتنمية الحاكم هو نفسه من هذه الجماعات التي لها مشروع سياسي يطمح إلى الهيمنة والسيطرة، لاسيما أن تركيا مازلت تحتل مناطق واسعة من سوريا والعراق، وتقيم قواعد عسكرية في ليبيا وقطر والصومال، وهو ما ترفضه السعودية.
وعليه مهما جرى الحديث عن أهمية فتح صفحة جديدة بين البلدين تبدو محددات الخلاف بينهما قائمة وقوية، فضلاً عن ذلك، فإن الحسابات والأولويات الخاصة للطرفين مختلفة، وتاريخ الدبلوماسية التركية يشهد المزيد من الانقلابات في هذه السياسة، وفي ضوء ذلك من يضمن أن أردوغان لن يصطف إلى جانب إيران على حساب السعودية إذا تم التوصل إلى اتفاق نووي جديد؟ معادلة ربما تجعل من زيارة أردوغان إلى السعودية ليست أكثر من محاولة من قبل الأخيرة لاستكشاف نياته، وانتظار ما سيرسي عليه المشهد التركي بعد الانتخابات، أي أن الأهداف التي يتطلع إليها أردوغان في الرهان على هذه الزيارة وغيرها، لتسحين موقعه الداخلي قد لا تتحقق وإن ساعدته على منع الانهيار الاقتصادي.