أستانة 18… إعادة ترسيم النفوذ الروسي الإيراني التركي في سورية
لم تنعكس حرب روسيا على أوكرانيا، على نحو ملحوظ ومؤثر حتى الآن في سورية، وما تزال تداعياتها في حدود ضيقة، مثل انسحاب القوات الروسية من نقاط انتشارها في ريف دير الزور. وهناك أخبار في الصحافة الروسية عن نقل جزء منها إلى جبهات القتال في أوكرانيا، وهذا أمر وارد، لأنها تعد من بين قوات النخبة الروسية، وتدربت في سورية على فنون قتال الميدان. أما سياسياً، فإن الروس يتصرفون تجاه سورية كما كان عليه الأمر في السابق، ولا يزالون يلتزمون بالخطوط العريضة للسيناريو الذي وضعوه كاستراتيجية عامة، يعملون عليه، ويسهرون على تنفيذه مع أنه لا يحقق تقدماً نوعياً.
حسابات الربح والخسارة في مسار أستانة السوري
واحدة من عمليات تقاسم النفوذ في سورية، مسار أستانة، الذي انطلق في يناير/كانون الثاني 2017، من أجل حل المسألة السورية بحسب ما يناسب مصالح موسكو، بوصفها الطرف صاحب الحصة الأكبر، الذي أنقذ رئيس النظام السوري بشار الأسد من السقوط في سبتمبر/أيلول 2015.
وفي حساب الربح والخسارة، وبعد 17 جولة من أستانة، بشراكة مع تركيا وإيران ووفدي النظام والمعارضة، حققت روسيا إنجازاً مهماً، يتمثل في بسط نفوذ الأسد على الغالبية العظمى من الأراضي التي كانت تحت سيطرة المعارضة، وهي التي أطلقوا عليها مصطلح “مناطق خفض التصعيد”، وفق البيان الذي وقعته هذه الأطراف في 4 مايو/أيار 2017.
ومن أجل هذا، وللحفاظ على ما حققته ميدانياً، تعمل موسكو على إبقاء مسار أستانة حياً. ويمكن سحب هذه المعادلة على شريكيها الأساسيين، تركيا وإيران، فكل من أنقرة وطهران باتت لديها مكاسب على الأرض السورية، وفي مصلحتها إطالة عمر هذا المسار، ومدّه بالحيوية بين وقت وآخر، طالما أنه لا تلوح في الأفق فرصة لحل شامل في سورية.
قد تأتي الجولة الـ18 من مسار أستانة المقررة في نهاية شهر مايو الحالي بشيء مختلف. وهناك من يرى في طلب موسكو عقدها في هذا الظرف أمراً غير اعتيادي، في ظل الحرب التي تخوضها في أوكرانيا والخسائر الكبيرة التي تتكبدها هناك، والتي تشير التقديرات إلى أنها مرشحة لأن تتفاقم بسبب تدفق الأسلحة الغربية الحديثة إلى الجيش الأوكراني، وبداية ظهور النتائج الأولية للعقوبات الغربية ضد روسيا.
أستانة ورسائل الجولة الـ18
وينتظر أن تدخل الدولة الروسية في مرحلة من التقشف وضبط للمصاريف يترتب عليها تحديد الأولويات، وهذا سوف ينعكس على وضع عشرات الآلاف من جيشها في سورية، والمساعدات والقروض التي درجت على تقديمها للنظام السوري من أجل إبقائه على قيد الحياة.
وثمة من يرى انسحابات القوات الروسية من بعض نقاط تمركزها البعيدة عن القاعدتين الأساسيتين في مرفأي اللاذقية وطرطوس، بداية ارتدادات حرب روسيا على أوكرانيا. وقالت صحيفة “موسكو تايمز” إن روسيا بدأت بسحب جزء من وحداتها في سورية بهدف تعزيز قواتها في أوكرانيا. وأضافت أنه تم نقل العديد من الوحدات العاملة في قواعد عسكرية سورية إلى مطارات في وسط سورية، تجهيزاً لعملية نقلهم إلى أوكرانيا.
هناك نقطتان أساسيتان على جدول أعمال أستانة: الأولى هي قيام المليشيات الإيرانية بملء الفراغ الذي يتركه انسحاب القوات الروسية من ريف دير الزور ومناطق غرب الفرات، وهذا أمر لا يبدو أنه يلقى ارتياحاً تاماً لدى روسيا التي تفضل أن تكون قوات تابعة للنظام السوري هي التي تحل مكانها على الأرض التي تخليها.
وتتصرف موسكو من جهة أنها لا تريد زيادة نفوذ إيران في سورية، وتحاول عدم إغضاب إسرائيل القلقة جداً من تنامي الوجود الإيراني العسكري في سورية، وخصوصاً في مناطق الشرق المحاذية للعراق، حيث تنتشر قواعد للحرس الثوري الإيراني والمليشيات الموالية لإيران من عراقية وباكستانية وأفغانية هناك في “قاعدة الإمام علي” في البوكمال. وكان الحرس الثوري الإيراني قد بدأ بإنشاء هذه القاعدة في عام 2018، وتعد أهم قاعدة إيرانية خارج الأراضي الإيرانية، وتتمركز فيها قوة صاروخية إيرانية مهمة جداً.
ودرجت إسرائيل والتحالف على توجيه ضربات جوية وصاروخية للمليشيات التابعة للحرس الثوري بصورة متكررة، من بينها الغارة التي جرت في السابع من مايو الحالي على “حويجة كاطع” في دير الزور، وأدت إلى مقتل 9 من عناصر المليشيات.
الأمر الذي استجد في الثاني عشر من الشهر الحالي هو قرار الولايات المتحدة باستثناء قطاعات ومناطق في شمال شرقي وشمال غربي سورية من عقوبات “قانون قيصر”، وهو أمر يصب في تقوية “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، ومن شأنه أن يثير ردود فعل من قبل تركيا وروسيا وإيران. وترى أوساط سورية أن الخطوة الأميركية موجهة ضد ثلاثي أستانة، ومن المتوقع أن تأخذ هذه المسألة قسطاً أساسياً من الاجتماع، وربما تغير ترتيب الأولويات.
أما النقطة الثانية فهي تتعلق بتركيا، التي قررت في نهاية الشهر الماضي إغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات الروسية المدنية والعسكرية التي تقلّ جنوداً، والمتوجهة إلى سورية، وهذه هي الخطوة الثانية على هذا الصعيد. ففي بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، كانت أنقرة قد طبقت اتفاقية “مونترو”، ومنعت مزيداً من السفن الروسية من العبور إلى البحر الأسود، فيما قالت على الطرف المقابل إنها لا تنوي فرض عقوبات على موسكو، ولن تغلق مجالها الجوي.
وبقي مسار العقوبات هو الوحيد الذي لم تسلكه أنقرة تجاه موسكو حتى الآن، ويقترن ذلك بموقف تركي واضح يقوم على احترام أراضي أوكرانيا ووحدتها واستقلالها. وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان صريحاً في رسم حدود الموقف التركي على مسافة واحدة من موسكو وكييف، حين قال “لن نتنازل عن مصالحنا الوطنية مع مراعاة التوازنات الإقليمية والعالمية، ولذلك نقول إننا لن نتخلى لا عن أوكرانيا ولا عن روسيا”.
ولكن هذا الأمر لا يمكن أن يرضي روسيا، وإن كانت لم تعلن عن موقف واضح منها، فإن إغلاق الطرق البحرية والأجواء من شأنه أن يعقّد مهمتها في أوكرانيا، وزيادة الضغط عليها في المفاوضات معها.
وعلى الرغم من أن وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو قال إن إغلاق المجال الجوي التركي أمام الطائرات الروسية المتجهة إلى سورية تم بالتفاهم، فإن تركيا الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي “ناتو”، تتعرض لضغوط غربية كبيرة منذ بداية الحرب على أوكرانيا لاتخاذ موقف أكثر صرامة من روسيا.
ومن ناحية أخرى، فإن اتفاقية الممر الجوي العسكري الروسي في الأجواء السورية يتم تجديدها كل ثلاثة أشهر، وانتهى مفعولها في منتصف إبريل/نيسان الماضي، ولكن آثار الإغلاق كبيرة، لأنه يحتم على روسيا تغيير مسارات رحلاتها الجوية لتسلك طريقاً طويلاً يذهب نحو إيران ويمر فوق الأجواء العراقية ومن ثم شرق سورية، حيث يسيطر الطيران الأميركي على الأجواء. وباتت المهمة صعبة، في وقت لم تعد روسيا قادرة على إمداد وجودها العسكري الضخم في سورية عبر البحر، بعد إغلاق مضيق البوسفور أمامها.
الوضع على الأرض يعكس ما يدور في الكواليس. ومن الملاحظ أن روسيا تصعّد من قصفها على مناطق شمال غربي سورية، التي تنتشر فيها القوات التركية، وأجرى سلاح الجو الروسي أخيراً مناورة عسكرية في سماء إدلب، حيث زود مقاتلاته بذخائر جو – جو، وهذا يبعث رسالة إلى تركيا.
الممثل الخاص للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الشرق الأوسط وأفريقيا، ونائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، حدّد موعد اجتماع مسار أستانة، وقال: “تم الاتفاق بشكل مبدئي، وأتمنى أن يكون كل شيء على ما يرام”. ولفت المبعوث الروسي إلى أن تحديد الموعد جاء بعد مناقشات أجرتها موسكو مع أنقرة وطهران، ووفدي المعارضة والنظام.
والقصد من التمني بأن “يكون كل شيء على ما يرام”، هو إشارة إلى التفاهمات السابقة التي لم تعد تسير وفق الآليات القديمة بسبب التطورات الجديدة، والتي تبدو موسكو أكثر المتأثرين منها، وتسعى طهران وأنقرة لتوظيفها على أسس جديدة، وعلى نحو مختلف عما سارت عليه الأحوال بين أطراف مسار أستانة. وجاءت زيارة رئيس النظام السوري إلى طهران في الثامن الشهر الحالي في سياق هذه التطورات، وفي إطار محاولة إيرانية لاستباق الآثار والنتائج المترتبة على حرب روسيا على أوكرانيا.
التعليق الوحيد هو الذي صدر من المعارضة، جاء على لسان المتحدث باسم هيئة التفاوض المعارضة يحيى العريضي، الذي وصف الإعلان عن الاجتماع بـ”الانفصام عن الواقع”، لافتاً إلى أن روسيا تسبح وحدها في عالم موازٍ بعيداً عن المجتمع الدولي. وهذا يعبر عن موقف درجت عليه المعارضة منذ بداية مسار أستانة.
وعلى العموم، لا يختلف موقف المعارضة اليوم عن المرة الأولى التي شاركت في هذا المسار قبل خمس سنوات، فهي عارضت المشاركة، ومن ثم غيرت رأيها تحت الضغط التركي، وبعد ذلك اعتبرت النتائج هزيلة، على عكس الدول الثلاث التي نجحت في الحفاظ على مصالحها داخل سورية، ووقف أي احتكاكات بينها على الأرض. وهذا إنجاز كبير لكل من موسكو وأنقرة وطهران، ومعادلة حافظت عليها هذه الدول في ظل حالة الجمود الدولي التي فرضتها موازين القوى وانكفاء الدور الأميركي والأوروبي.
والغريب في الأمر هو أن المعارضة لم تستوعب مغزى استحداث هذا المسار من قبل أطرافه الثلاثة، وما تزال تتعامل معه وفق سياسة دفن الرأس في الرمال، في حين أن العالم ينظر إليه كمحفل لتنظيم ورعاية مصالح ونفوذ الدول الشريكة في المسألة السورية.
بشير البكر/ العربي الجديد