سوريا المقسمة بين الدولة واللادولة
نصرالدين إبراهيم
تؤكد التطورات السياسية والعسكرية الحالية في سوريا أن البلاد تواجه مستقبلاً متشرذما.
باتت الضبابية السمة الأبرز لمستقبل المشهد السورين وكذلك بالنسبة للعديد من دول المنطقة، على الأقل بالنسبة للقوى المحلية المتصارعة، وللشعوب طبعاً، وذلك في ظل الكم الهائل من التداخلات الموضوعية والخارجية في مسلسل الأحداث المتسارع في تطوراته، فسوريا التي تشهد حرباً طاحنة منذ سنوات باتت تئن تحت وطأة الأزمة المستفحلة، والتي رسخت حالة انقسام مرعبة بين مكوناتها القومية والدينية و الطائفية والسياسية، فالكم الهائل من الدماء التي أريقت في طياتها، بات من شبه المستحيل تجاوز الحواجز النفسية التي وضعت وتعالت يوماً بعد يوم بين أبناء الوطن الواحد.
انطلاقاً من الأزمة السورية يمكننا الملاحظة وبوضوح انقسام المتصارعين فيها إلى معسكر أمريكي وآخر روسي، ليصطف خلفهما قوى أخرى عالمية تتخندق حسب مصالحها الأمنية والاقتصادية والسياسية، بالإضافة إلى الدول الإقليمية، وبالتحديد إيران وتركيا اللتين تتصارعان في المشهد السوري انعكاساً للصراع التاريخي “الفارسي والعثماني”، وفي خضم ذلك شكلت كل من هذه القوى تحالفات استراتيجية وتكتيكية على الأرض وفي الجوار بالاعتماد على الدول العربية وعلى القوات المحلية كشريك تنفيذي لمخططات المحور الذي تتبعه و حيث يجمعهما المصالح والتقاطعات المشتركة أيضاً.
الواقع السوري اليوم، وبعد عشر سنوات من الحرب الأهلية … يهيمن عليه التقسيم غير الرسمي، ولكنه مفروض بحكم الواقع على الأرض، في الشمال الغربي من سوريا الفصائل الراديكالية المتطرفة والمأمورة تركياً هي التي تحكم على الأرض، والتي باتت مرتعاً خصباً ووجهة سهلة للإرهابيين من مختلف أنحاء العالم، وتعارض فعلياً تبني أي نظام ديمقراطي تعددي في سوريا، حيث أن مبتغاها أولاً وأخيراً الوصول إلى سدة الحكم بآليات سماتها التطرف والتعصب والإرهاب، والتستر باسم المعارضة للنظام لا يغير من مضامين أولئك شيئاً، فهي الوجه الآخر للنظام، ولكن الفارق تبديل “نظام البعث” بنظام “الإخوان المسلمين”.
وفي الشمال الشرقي تأسست الإدارة الذاتية كمشروع (وطني سوري) تمكن لدرجة مقبولة من استقطاب مختلف شعوب المنطقة، وكمشروعٍ ( قومي كردي ) رائد في التاريخ الكردي الحديث بعد تجربتي إقليم كردستان العراق وجمهورية مهاباد في إيران عام 1946م … وهذه الإدارة تحظى بدعم أمريكي وأوربي، ولا سيما من الناحية العسكرية من قبل التحالف الدولي والذي تشكل عقب هجوم داعش على مدينة كوباني عام 2015, إضافةً إلى سيطرة الولايات المتحدة على منطقة التنف في نقطة تلاقي الحدود العراقية الأردنية السورية …. وخارج هذه المناطق ما تزال قبضة النظام الاستبدادي والعنصري تحكم البلاد، وإن كان بشكل متفاوت، حيث إن سيطرته ماتزال رخوة في عدة مناطق كالبادية في الوسط ودرعا والسويداء في الجنوب.
عموماً مناطق الإدارة الذاتية تشهد استقراراً ملحوظاً وتنمية مقبولة مقارنة مع مناطق الاحتلال التركي وما تشهدها من فوضى عارمة نتيجة الأعمال الإرهابية والانتهاكات الفظيعة بحق الشعب الكردي في كل من سري كانيه وعفرين وكري سبي، وكذلك الإرهاب الذي تمارسه الجماعات المتطرفة كحراس الدين وجبهة النصرة وفلول داعش بحق المتخالفين معهم فكراً وسياسةً وديناً في تلك المناطق. والأمرنفسه بالنسبة للمناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية فهي تشهد فلتاناً أمنياً وأزمةً اقتصاديةًخانقةً، ولا سيما بعد تطبيق قانون العقوبات الأمريكي “قيصر” إلى جانب الخلافات البينية التي تظهر داخل النظام نفسه، وبينه وبين حلفائه من الروس والإيرانيين، حيث تتضارب مصالحهما في الكثير من النقاط.
مع فوز “بايدن” في الانتخابات الأمريكية، انتعشت آمال السوريين في إمكانية إنهاء الأزمة السورية، ولكن من خلال جملة من المعطيات والأحداث على الأرض ومن خلال ملامح سياسة الإدارة الأمريكية الجديدة فإنه من المرجح أن تكون المرحلة الحالية والممتدة لفترة ليست بالقصيرة مرحلة الحفاظ على الواقع الحالي كما هو، أي سوريا “الدولة واللادولة ” في آن واحد، وبتعبير آخر سوريا المقسمة لا دستورياً.
أن إدارة بايدن وللحفاظ على تفوقها في سوريا وتنفيذاً لأجنداتها “تهدئة جبهة إيران والتصدي لتوسع النفوذ الروسي في سوريا” فقد يكون من أولوياتها دعم وتعزيز قدرات حلفائها في شمال وشرق سوريا من خلال تصديهم لداعش ومنعه من الظهور مجدداً، إلى جانب بناء نواة سوريا البديلة هناك، من خلال ترسيخ الاستقرار السياسي “تحقيق المصالحة الكردية” ومن ثم مشاركة ممثلي الكرد وممثلي الإدارة الذاتية في العملية السياسية بشكل رسمي، وكذلك تحقيق تنمية بشرية وعلمية واقتصادية، وأيضاً تقليص التواجد والنفوذ الروسي في شرق الفرات، وذلك بالعودة إلى الاتفاق الرسمي بين أمريكا وروسيا “اتفاق لافروف – كيري” الذي أبرم أثناء إدارة أوباما، وذلك بالتزامن مع تجسيد سياسية الترغيب والترهيب مع الجانب التركي، والعمل بشكل هادئ على تقليص دور تركيا في سوريا و المنطقة، وتأليب الرأي الداخلي التركي ضده “حسب ما أعلنه بايدن في برنامجه الانتخابي الرئاسي”.
ولعل تنفيذ ذلك بشكل سليم يتطلب من الإدارة الأمريكية القيام بخطوات تعزز ثقة سكان شمال وشرق سوريا وخاصةً الكرد بنوايا الإدارة الأمريكية في دعمها الحقيقي المستدام لهم، وأولى تلك الخطوات الضغط الفوري على تركيا لإنهاء أزمة مياه نهر الفرات ومحطة علوك، وصولاً إلى خطوات مصيرية بالنسبة للكرد ألا وهي إنهاء الاحتلال التركي لمناطقهم من خلال تفاهمات سياسية أو غيرها من الوسائل المتاحة أما الوجود الإيراني في سوريا فباتت الطائرات الإسرائيلية تتكفل بالأمر، حيث تقوم بمهامها بضوءٍ أخضر “أمريكي وروسي”.
على الكرد هنا أن يسابقوا الزمن لتوحيد صفوفهم وتأسيس مرجعيتهم المتماسكة “سيدة قرارها السياسي في سوريا” بعيداً عن التجاذبات الكردستانية وصراعاتها، وتبديل ذلك بأكبر قدرٍ من التنسيق الكردستاني المدروس “شمالاً وشرقاً”، وكذلك توسيع إدارتهم وتطويرها بالتشارك مع مختلف مكونات شمال وشرق سوريا، وتعزيز حالة
العيش المشترك والسلم الأهلي، وتحقيق أكبر قدر ممكن من التنمية البشرية “اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وعلمياً وعسكرياً … “.
هذه المعادلة الجديدة ستجبر النظام وحلفاءه على تقديم العديد من التنازلات سواء من حيث القبول بإضفاء الشرعية الدستورية على شرق الفرات “الإدارة الذاتية، وبالتالي الشرعية للوجود الأمريكي المستديم في سوريا، وخاصةً في سوريا المفيدة أو البديلة” شرقي الفرات، مع احتفاظ النظام السوري ببعض الأوراق الهامة للتحكم في شمال غربي سوريا ومحاولة تسييره أمريكياً، وإخراجه من تحت إمرة الأتراك.
روسيا المنشغلة بحربها في أوكرانيا ستكون مضطرة حينها للقبول بهذا الواقع بحكم أن الاستمرار في الأزمة وبهذه الوتيرة الحالية سيرهقها عسكرياً واقتصادياً وحتى سياسياً، لا سيما مع بروز انقسامات واضحة بينها وبين إيران وبين أقطاب النظام السوري نفسه، فستحاول أن تتفق مع الأمريكان بأن يكون غرب الفرات مناطق نفوذها بوجود هذا النظام أو بديله … لذلك فهي تسارع في إبرام أكبر قدر من الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية مع النظام الحالي المتهالك.
ومجمل القول إن سوريا الحاضر ستكون مقسمة بين ثلاث كيانات لامركزية، لتكون سوريا المستقبل موحدة رسمياً ودستورياً بين ثلاث كيانات أو أكثر بغض النظر عن أسماء تلك الكيانات. أما سوريا المركزية الشمولية … سوريا الماضي فقد ولت من غير رجعة.