الانهيار المتسارع لليرة والتضخّم ينذران بأزمة اقتصادية غير مسبوقة في تركيا
سركيس قصارجيان
تراجع القدرة الشرائية للمواطنين الأتراك
تكبدت الليرة التركية خسائر كبيرة هذا الأسبوع، وواصلت تراجعها مستكملة مسار الانخفاض الذي تجدد مع بداية شهر أيار (مايو) الماضي. وتجاوز سعر الليرة أمام الدولار، الذي كان عند المستوى 14.70 في أيار (مايو) الماضي، عتبة 17.25 اليوم، في أسوأ أداء للعملة التركية منذ حذف أصفارها.ودفعت الأزمة الاقتصادية المتفاقمة يوماً بعد يوم بسياسيي السلطة في تركيا إلى اطلاق تصريحات متضاربة ومتناقضة، فيما انعكست نتائجها في استطلاعات الرأي على تراجع شعبية “العدالة والتنمية” والرئيس رجب طيب أردوغان، الذي شنّ هجوماً عنيفاً على منتقدي سياساته الاقتصادية متّهماً إياهم بالعمالة للغرب ودعم الإرهاب.واستغلّت جمعية الصناعيين ورجال الأعمال الأتراك (TÜSİAD) اجتماع مجلسها الاستشاري لدقّ ناقوس الخطر وإطلاق تحذيرات جادة حول مصير الاقتصاد ومستقبل البلاد.واعتبر رئيس المجلس الاستشاري للجمعية، التي تعرف بدعمها للرئيس التركي طوال السنوات الماضية، تونجاي أوزيلهان، في كلمته الافتتاحية أن “انخفاض قيمة الليرة التركية وصل إلى مستوى غير محمول، وأن التضخّم حطّم أرقاماً قياسية في تاريخ البلاد” متّهماً الحكومة التركية “بتقويض الاستثمارات من خلال الاجراءات المتخذة بشكل شبه يومي لضبط الأوضاع، والتي جعلت المستثمرين في حيرة من اصدار القرارات”.انتقد أوزيلهان أيضاً الخطاب الرسمي المصرّ على “نمو الاقتصاد التركي” بالقول، إن “اقتصادنا ينمو لكننا نزداد فقراً”.ويعتبر الاقتصاد عصب السياسة في كل دول العالم، إلا أنه يكتسب أهمية خاصة في تركيا التي تشهد واحدة من أطول عهود حكم السلطة ذاتها، حيث نجح حزب “العدالة
التنمية” في الاستمرار من خلال الرفاه الاقتصادي الذي حققه مع وصوله إلى الحكم في انتخابات عام 2002. وارتفعت حصة تركيا في الاقتصاد العالمي بين عامي 2000- 2013 من 60 بالألف إلى 1.24 في المئة، إلا أنها انخفضت إلى 80 بالألف خلال السنتين الأخيرتين.واعتبر أوزيلهان أن “التضخّم بات يهز أصحاب الدخل المحدود، وعدم المساواة في توزيع الدخل يهدد الديموقراطية، والشباب يتطلعون للهروب إلى الخارج من اجل ضمان مستقبلهم”، مطالباً بأن يكون تركيز الحكومة على محاربة التضخّم.وتشهد تركيا واحدة من أعلى مستويات التضخّم على مستوى العالم. فقد احتلّت المرتبة الأولى أوروبياً والسادسة عالمياً في لائحة الدول ذات معدّلات التضخّم القياسية للعام الحالي بعد كل من فنزويلا، والسودان، ولبنان، وسوريا، وزيمبابوي على التوالي.ووفقاً لمعهد الإحصاء التركي (TUIK)، وهي مؤسسة رسمية معنية بقياس التضخّم وتزويد الحكومة بالأرقام والاحصاءات المساعدة في رسم السياسات المالية والاقتصادية، فقد ارتفع معدّل التضخّم في تركيا في شهر أيار (مايو) بنسبة 2.98 في المئة لتصبح النسبة 107.62 في المئة على أساس سنوي، فيما أعلنت مجموعة أبحاث التضخّم (ENAG)، وهي جهة اكاديمية مستقلة، أن مؤشر أسعار المستهلك ارتفع في شهر أيار (مايو) الماضي بنسبة 5.46 في المئة على أساس شهري وبنسبة 160.76 في المئة على أساس سنوي.أظهر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رد فعل قاس على تصريحات داعميه بالأمس في الاتحاد الأقتصادي الأهم للبلاد، وذلك خلال الكلمة التي ألقاها أمام المجموعة البرلمانية لحزب “العدالة والتنمية”، التي يرأسها أيضاً، في وقت كانت جمعية الصناعيين ورجال الأعمال تواصل اجتماعها السنوي.وتجاهل الرئيس التركي كل ما تم الحديث عنه في الشق الاقتصادي مركزاً في ردّه على كلمتي رئيس الجمعية ورئيس مجلسها الاستشاري على طرحهما السياسي القائم على “ضرورة حلّ مشاكل تركيا ومطالبها في ما يتعلق بعضوية السويد وفنلندا في الناتو من خلال المفاوضات والتفاهم المتبادل وبما يتناسب مع روح التحالف”، وهي الفكرة السياسية الوحيدة التي وردت في خطابات الاتحاد التي تركّزت على الامور الاقتصادية والمالية والمعيشية.أتاحت هذه الجملة لأردوغان الفرصة لصرف انتباه الرأي العام عن الانتقادات الموجّهة للاقتصاد، ليكيل سيلاً من اتّهامات العمالة والخيانة ودعم الإرهاب لرجال الأعمال الأترك، قائلاً: “هل سنفتح لهما (فنلندا والسويد) أبوابنا بينما تجوب المنظمات الإرهابية شوارعهما؟ يا “توسياد” يمكنك الوقوف معهما لكننا لن نخون دماء شهدائنا”.وفي حين فضّل الرئيس التركي تغيير النقاشات الاقتصادية باتجاه مواضيع لها علاقة بأمن البلاد والتوجّهات القومية للتيار اليميني في تركيا، فإن التخبّط بدا واضحاً في تصريحات وزراء حكوميين ومسؤولين حزبيين في العدالة والتنمية، ممن حاولوا التأكيد من كون الملف الاقتصادي تحت السيطرة، وتصوير التطورات على أنها خطة اقتصادية محكمة لـ”نمو البلاد”.قبل يومين، صرّح وزير الخزانة والمالية التركي، نور الدين نباتي قائلاً: “كنا على مفترق طرق، فاخترنا النمو إلى جانب التضخم، وإلا لكان في إمكاننا اتخاذ تدابير صارمة للغاية لخفض التضخم”.بينما رأى نائب أردوغان في حزب العدالة والتنمية، نعمان كورتولموش أن “الليرة التركية قيمتها عالية جداً للأسف، لذلك نحن نعمل على تخفيض قيمتها”، مردداً الخطاب الذي اعتمد عليه الرئيس التركي قبل أشهر والقائم على خفض قيمة العملة المحلية لتشجيع عملية التصدير وبالتالي انعاش الصناعة والتجارة في البلاد.ورد الخبير الاقتصادي الدكتور إبراهيم تورهان، وأحد مؤسسي حزب “المستقبل”، على خطاب الحكومة من خلال تغريدة عبر حسابه الرسمي في تويتر قال فيها، إن “التضخّم هو أكبر جريمة اقتصادية ترتكبها حكومة ما ضد شعبها. التضخم ضريبة غير مشروعة، ولا يختلف عن سرقة الأموال من جيب المجتمع بطريقة التفافية”.فيما انتقد عضو هيئة التدريس بجامعة بيلكنت وكبير الاقتصاديين في البنك المركزي التركي سابقاً الدكتور هاكان كارا، الحكومة التركية قائلاً في حسابه على تويتر: “حتى في التسعينات من القرن الماضي، التي نعتبرها سنوات ضائعة في عمر البلاد اقتصادياً، كان ترتيبنا (في لائحة التضخّم العالمي) أفضل من اليوم”.هذه التغريدات وغيرها أجبرت نباتي على التراجع عن تصريحه، معترفاً بأن “المشكلة الأكبر التي نواجهها اليوم في تركيا هي التضخّم”، فيما تؤكد أرقام البنك المركزي التركي، الذي استنزف 128 مليار دولار في محاولة فاشلة للسيطرة على سعر صرف الليرة التركية، زيف ادعاءات كورتولموش.وارتفع الدولار الذي بلغت قيمته 9.5 ليرات تركية في بداية تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، ليغلق في 20 من كانون الأول (ديسمبر) الماضي عند 17.5 ليرة تركية. هذا الصعود الخطر أجبر الحكومة التركية آنذاك على اختراع “نظام الإيداع المحمي”، بهدف ثني المواطنين عن تحويل اموالهم إلى الدولار. ولكن، على الرغم من مرور حوالى ستة أشهر على هذا الاجراء وقيام البنك المركزي ببيع 40 مليار دولار خلال تدخلاته لضبط ارتفاع الطلب على الدولار في السوق، إلا أن الليرة التركية تبدو اليوم قريبة من العودة إلى “الخط الأحمر” الذي وصلت إليه قبل أشهر، مع تحذيرات من انهيار متسارع قد يؤدي إلى تجاوزها عتبة العشرين أمام الدولار.وعلى رغم حديث الدوائر المقرّبة من السلطة عن انفراج اقتصادي في الأيام والأشهر المقبلة، مدعوماً بنشاط قطّاع الصادرات من جهة وواردات موسم السياحة في فصل الصيف، إلا أن ارتفاع الواردات بنسب أكبر من مثيلاتها في الصادرات، ونتائج الحرب الروسية – الأوكرانية وتحذيرات تل أبيب لمواطنيها بعدم التوجّه إلى تركيا لأسباب أمنية، قد تنذر بصيف يزيد فيه الغليان الشعبي في البلاد قبل الوصول إلى الانتخابات المصيرية في حزيران (يونيو) 2023.