لم تكن قمة طهران الثلاثية، التي جمعت الرئيس الروسي بنظيريه الإيراني والتركي الأسبوع الفائت، مصممة في الأصل، لتكون ردا على سلسلة القمم الثنائية والمتعددة، التي عقدها الرئيس الأميركي، جو بايدن، في كل من القدس وبيت لحم وجدة، لكن مصلحة طرفين منها: روسيا وإيران، التقت على الحاجة لتبديد نتائج جولة بايدن الشرق أوسطية، وإلقاء ظلال كثيفة من الشك والتشكيك بأهمية تلك النتائج، لا سيما وأن القمة في طهران جاءت بعد أيام قلائل من جولة بايدن وقمة جدة و”إعلان القدس” على وجه الخصوص.
القمة الثلاثية كانت مقررة مسبقا، وبهدف رئيس: درء الانهيار الأمني في شمال سوريا، في ضوء تطورات الوضع الميداني وتهديدات أنقرة بتنفيذ اجتياح خامس للمنطقة، وإنشاء حزام أمني على حدودها الجنوبية مع سوريا، وهي جاءت من ضمن “مسار أستانا”، وحملت “الرقم 7” في سلسلة من القمم المماثلة، لكنها سرعان ما ستصبح محمّلة بدلالات وأهداف أخرى.
في مضمون القمة وعلى هامشها، يمكن القول، إن الاجتماعات الثنائية التي أجراها القادة، والتي تركزت على العلاقة الثنائية بين بلدانهم، لم تكن أقل أهمية من اللقاء الثلاثي ذاته، والذي وإن نجح في إبعاد شبح اجتياح تركي فوري للشمال السوري، لم يبدد الخلافات والمخاوف بين الأطراف، لا سيما في دمشق، الحاضر الغائب عن القمة، بدلالة أن أردوغان، وفور عودته لبلاده، أعاد التأكيد مجددا، بأن العملية العسكرية التركية ما زالت خيارا مطروحا على الطاولة، برغم التحذيرات الروسية، وبالأخص الإيرانية، الصارمة من مغبّة الإقدام على خطوة من هذا النوع.
في الجانب الثنائي، الروسي الإيراني، بدا واضحا إن البلدين الذين يواجهان أشد العقوبات الأميركية والغربية عموما، وجدا نفسيهما في وضعية هبوط اضطراري على مدارج التنسيق والتعاون الثنائي، لكأن تطورات الأزمة الأوكرانية، تدفع بهما دفعا، لتعزيز التلاقي وتحييد قضايا الخلاف. ولقد توقعنا في بواكير الأزمة الأوكرانية، أن تتخفف موسكو من حذرها في مدّ يد التعاون مع طهران، وفي شتى المجالات، دون حساب للمخاوف والتحذيرات الغربية، ونقول اليوم، إن إيران إذ تذهب بعيدا في انفتاحها على موسكو في حقل الطاقة (صفقة الأربعين مليار دولار) وفي ميدان السلاح (الطائرات المسيّرة) وفي مجالات النقل والترانزيت والربط الإقليمي، فإنها تستشعر “فائض قوة” يُمكّنها من إدارة ملف مفاوضات فيينا مع المجتمع الدولي، من موقع أفضل.
في المقابل تجد تركيا، “العضو الناشز” في حلف الناتو، نفسها من جديد، أمام لحظة افتراق مع دول الحلف ومرجعياته. فهي لا تأبه للعقوبات الدولية – الأميركية، بخاصة المفروضة على إيران، وتفاخر باتفاق رئيسها مع نظيره الإيراني على رفع التبادلات التجارية بين البلدين من سبعة مليارات إلى ثلاثين مليار دولار في المستقبل القريب، ولا تمانع في إصدار بيانات التنديد بمنظومة العقوبات الدولية بين الحين والآخر، لا سيما حين تصدر عن جانب واحد، في إشارة حصرية للولايات المتحدة.
أما مع روسيا، فإن تركيا ما زالت تفضل أن تلعب دور “الوسيط”، مع أنها لا تقف على مسافة واحدة من الأطراف المتصارعة في أوكرانيا، وهي أقرب إلى كييف منها إلى موسكو، ويفاخر “بيرقدارها” بأن طائراته المسيّرة، باتت “رمزا للمقاومة الأوكرانية”. تركيا التي أخفقت وساطتها في وقف الحرب والشروع في مفاوضات سلام حول الأزمة الأوكرانية برمتها، لا تمانع في نقل هذه الوساطة إلى ميدان الحبوب و”الأمن الغذائي”، وتسعى لإنجاز ترتيبات خاصة بضمان سلاسل الإمداد وتأمين طرقه البحرية وتحديدا من الموانئ الأوكرانية وعبر البحر الأسود.
لقد خرجت أطراف القمة الثلاثة، بما جاءت من أجله. روسيا عززت قدرتها على مقاومة “الضغوط القصوى” التي تفرضها واشنطن والغرب عليها وقطعت شوطا إضافيا على طريق جذب إيران إلى دوائر تحركها ومجالها الحيوي، وضمنت تأييدا صريحا لحربها على أوكرانيا من أعلى مرجع إيراني، فيما تركيا التي تكاد تفقد دورها كمنصة وكريدور” للطاقة في ضوء العقوبات الغربية على النفط الروسي، تسعى في البحث عن خيارات بديلة، تمكنها من اجتياز ضائقتها الاقتصادية على مبعدة أقل من عام على انتخابات رئاسية حاسمة، أما إيران فقد غدت أكثر اطمئنانا لسلامة جناحيها التركي والروسي، الحاسمين لجهة ضمان قدرتها على الوقوف في وجه الضغوط الأميركية، ونجحت في تجنيب حليفها السوري، مخاطر تهديد أمني كبير من الجارة الشمالية، وإن إلى حين.
ماذا عن سوريا؟
لا نعرف الكثير مما دار خلف الأبواب المغلقة بهذا الشأن، ولا في المفاوضات التحضيرية التي سبقت القمة ورافقتها، كل ما نعرفه، أن “شبح اجتياح تركي خامس”، قد تراجع إلى الخلف، ونعرف أيضا، أن الأطراف الثلاثة، وبرغم خلافاتها، اتفقت على مطلب واحد: انسحاب القوات الأميركية من شمال سوريا الشرقي. بوتين اعتبره وجودا مزعزعا لاستقرار سوريا وسلامة أراضيها ووحدتها الترابية، فضلا عن اتهامه واشنطن بـ”سرقة” النفط والمقدرات السورية. إيران اعتادت النظر إليه كوجود احتلالي معاد لها ولحلفائها، وهي التي طالما “تحرّشت” به عبر وكلائها. أما أردوغان فلم يكتف بمطالبة واشنطن سحب قواتها، بل وأعرب عن أمله في أن تمد موسكو وطهران، يد العون له في حربه على “الإرهاب”، مع أنه في مواضع أخرى، لم يتردد عن اتهام البلدين بدعم منظمة “بي كي كي” التي تعتبرها أنقرة، التهديد الأكبر لأمنها واستقرارها.
ونقول إن لكل طرف دوافعه الخاصة، الكامنة وراء هذه المطالبة الجماعية، فموسكو في خضم حرب كونية متعددة المجالات مع واشنطن، محورها أي “نظام عالمي جديد” سينشأ بعد أزمة أوكرانيا. وطهران وضعت منذ زمن، هدف إخراج القوات الأميركية من “غرب آسيا” وليس من الشمال الشرقي لسوريا فحسب. أما تركيا، فهي غاضبة و”متضررة” من الوجود الأميركي، الحامي للكيانية الكردية في هذه البقعة من سوريا حصرا، مع أنها دولة “حاضنة” للقوات الأميركية على ترابها الوطني.
وفقا لمصادر سورية مطلعة ومقربة من النظام، فإن مداولات قمة طهران حول الأزمة السورية، ذهبت أبعد من حدود مناطق انتشار “قسد” والعملية التركية في شمال سوريا، وربما تكون قد انصبت على فتح مسار تفاوضي بين أنقرة ودمشق حول الملف السوري من مختلف جوانبه، وأن الجانبين الإيراني والروسي تعهدا لتركيا بمساعدتها على معالجة ملفات أخرى شائكة، ومن بينها سلامة الحدود وتأمينها، وتسهيل عودة اللاجئين السوريين، وهو الملف الذي بات يضغط على أردوغان وحزبه، ويتحول إلى “كرة نار” تتصدر جدول أولويات الرأي العام التركي.
ولا تستبعد المصادر أن تكون الأطراف قد تداولت سيناريو عودة دمشق وأنقرة إلى “اتفاق أضنة – 1998″، أو نسخة معدلة عنه، تستجيب للتطورات الناشئة في العشرية الفائتة، وبما يضمن عودة الجيش السوري للانتشار على طول الحدود مع تركيا، ومعالجة القضية الكردية في الإطار السوري، نظير ضمانات بحفظ أمن الحدود وتسهيل عودة اللاجئين، ودونما حاجة لإنشاء منطقة آمنة أو أمنية، أو إعادة “هندسة الديموغرافيا” السورية في الشمال.
وتدلل المصادر على جدية البحث في المسألة السورية وشموله بالزيارة غير المجدولة التي قام بها وزير الخارجية السوري إلى طهران، للاطلاع من نظيره الإيراني على نتائج مداولات الزعماء الثلاثة، وتمهيد الطريق لإدماج القيادة السورية في هذا المسار لاحقا. وتكشف المصادر عن لقاءات تمت على هامش مناسبات دولية، جمعت مسؤولين سياسيين سوريين وأتراك، أما اللقاءات على المستوى الأمني، فلا أحد من الطرفين ينكر وقوعها.
في مختلف الأحوال، وبصرف النظر عن دقة التقديرات بشأن “نافذة فرص” بين دمشق وأنقرة، فإن الأطراف اتفقت على ما يبدو، على إنجاز سلسلة من الخطوات الفورية في الشمال السوري، تبدأ بالعودة إلى “تفاهمات سوتشي” 2019، و2020، والتي اقتضت انسحابا كرديا بعمق 30 كم، بما فيها من مراكز المدن، وانتشار الجيش السوري عوضا عنها، وتسليم الطريق “M4″، والمناطق الواقعة شماليه حتى الحدود مع تركيا للجيش السوري. وهي تفاهمات تعذّر تنفيذها سابقا من جانب الكرد، الذين تفصلهم عن دمشق هوة عميقة من انعدام الثقة، ورغبة دفينة في الاحتفاظ بمكتسبات العشرية الفائتة من السنوات.
الموقف من واشنطن
واشنطن واكبت عن كثب، مجريات قمة طهران وما تمخض عنها من تفاهمات واتفاقات، وهي ترقب بدقة سلوك الأطراف الثلاثة في سوريا، واشنطن أعادت تأكيد موقفها الداعم للكرد بوصفهم حليفا موثوقا في الحرب على الإرهاب. أما قائد المنطقة الوسطى الأميركية الجنرال مايكل كوريلا فقد اختار زيارة محافظة الحسكة في توقيت متزامن، والاجتماع بقائد “قسد” مظلوم عبيدي، في خطوة تبعث بمزيد من رسائل الاطمئنان لإطفاء القلق الكردي المتفاقم على وقع التهديدات التركية والتفاهمات الثلاثية في طهران.
ومما لا شك فيه، أن التفاهمات الثلاثية حول مصير الحركة الكردية والوضع في شرق الفرات والجزيرة، إن قُدّر لها الاستمرار والانتقال إلى حيز التنفيذ، ستُلقي بتحديات إضافية أمام الوجود العسكري الأميركي في المنطقة، بل وستطرح أسئلة من العيار الثقيل عن السياسة الأميركية حيال سوريا، فإن ذهبت واشنطن بعيدا في حمياتها للكرد وتسليحهم وتدريبهم، قامرت بمزيد من التأزم في علاقاتها بحليف أطلسي وازن، بحجم تركيا، مدعوما هذه المرة باثنين من أشد خصومها: إيران وروسيا، وإن قامرت بالتخلي عن الكرد، تكون قد خسرت ما تبقى من صدقيتها في الإقليم، وعززت الانطباع الراسخ في أذهان كثيرٍ من حلفائها العرب: “المتغطي بأميركا عريان”، وفقا لعبارة الرئيس المصري محمد حسني مبارك.
ADARPRESS#