ماذا وراء التصعيد التركي ضد اليونان ؟
خورشيد دلي
مع تصاعد وتيرة التوتر بين تركيا واليونان، لوّح الرئيس التركي أردوغان، بالحرب ضد الأخيرة، عندما ذكّرها في خطاب له، يوم السبت الماضي، بمعركة إزمير عام 1922، في إشارة إلى هزيمتها هناك، معلناً عدم اعتراف بلاده بما أسماه الاحتلال اليوناني لجُزر بحر إيجة، مستحضراً العبارة الشهيرة ( يمكننا أن نأتي على حين غرّة ذات ليلة )؛ في إشارة إلى إمكانية قيامه بعمل عسكري ضد اليونان في أي وقت.
ومع أن مثل هذه التصريحات النارية ليست بجديدة على أردوغان، إلا أنه ثمة مؤشرات كثيرة تُوحي بمشهد ساخن في العلاقات التركية – اليونانية، في المرحلة المقبلة، بعد أن فشلت كل الجهود السابقة في ايجاد حل للصراع بينهما، وهو صراع قديم، تاريخي، حضاري، يتداخل فيه القانوني بالسياسي والحضاري والأمني، ومؤخراً الاقتصادي؛ صراع يتجدّد ويقفز إلى سُدة المشهد السياسي كلما حاول أيّ من الطرفين القيام بحركة إزاء الجُزر الكثيرة في بحري إيجة والمتوسط.
تلك الجُزر التي حالت ملكيتها إلى اليونان بموجب اتفاقية لوزان عام 1923، ومن ثم اتفاقية 1947، بين إيطاليا واليونان، وعليه يمكن القول إن الصراع التركي – اليوناني، هو نتاج للصراع التاريخي المرير على الماضي من جهة، ومن جهة ثانية، للتفسيرات المتضاربة للطرفين للاتفاقيات الموقعة، وللقانون الدولي بشأن ملكية هذه الجُزر، لاسيما بعد رفض تركيا الانضمام إلى القانون الدولي للبحار؛ الذي يسمح بالولاية على المياه الإقليمية البحرية لمسافة اثني عشر ميلاً، ورفضها اعتماد اليونان هذا القانون في النزاع معها بشأن الجُزر، وهو ما جعل الصراع بينهما معقداً وكفيلاً بإفشال أي مفاوضات بهذا الخصوص.
ولكن كل ما سبق لا يُفسّر الأسباب الحقيقية لتصعيد أردوغان الأخير، ضد اليونان، وتلويحه بالحرب ضدها، وهو ما يدفعنا إلى البحث عن الأسباب المستجدة، وعن المحدّدات الجديدة لبيئة الصراع، واحتمال تحوّله إلى صدام عسكري أو حتى إلى حرب بين البلدين، فما هي هذه المحددات الجديدة؟؟:
1- منذ الحرب الروسية على أوكرانيا، أصبحت تركيا تحسُّ بأن تعزيز الولايات المتحدة لنفوذها العسكري في اليونان، وإقامة قواعد جديدة على أراضيها، ودعمها لليونان بأسلحة جديدة ومتطورة، وزيادة الأخيرة لميزانية الإنفاق العسكري بشكل كبير …؛ بأنها هي المستهدف من كل ما سبق، إلى درجة أن كتّاب ومحلّلون أتراك، ذهبوا للقول؛ إن ما تفعله الولايات المتحدة في اليونان سيدفع بتركيا إلى تكرار السيناريو الروسي – الأوكراني، في اليونان، لاسيما في ظلّ بروز قوي للتيار الأوراسي في السياسة التركية، على حساب السياسة الأطلسية التقليدية للبلاد.
2- بروز دور الطاقة كعامل مهم في زيادة التوتر بين أنقرة وأثينا، لاسيما مع إرسال تركيا، سفناً للتنقيب عن الطاقة في مناطقٍ ببحري إيجة والمتوسط، تعدُّها اليونان جزءاً من حدودها البحرية، وعليه تعتبر الممارسات التركية انتهاكاً لسيادتها ولحقوقها وللاتفاقيات الدولية، فيما من الواضح، أن الممارسات التركية هذه؛ تنبع من خشية أنقرة أن تكون اللاعب الخاسر في معركة الطاقة في المتوسط، وفرض سياسة أمر الواقع عليها، خاصة بعد استبعادها من تشكيل العديد من المنتديات والتحالفات الإقليمية والدولية بهذا الخصوص، كانت أبرزها: منتدى القاهرة الإقليمي والدولي للغاز، وعليه يمكن القول؛ إن أحد أهم أسباب التصعيد التركي ضد اليونان؛ هو رفضها لخرائط الطاقة التي تُرسم في بحري المتوسط وإيجة نحو أوروبا.
3- بناء حملة انتخابية تقوم على تحميل الغرب المسؤولية؛ إذ مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية، والتي هي انتخابات أشبه بمعركة حياة أو موت لأردوغان وحزبه الحاكم ( حزب العدالة والتنمية )، خاصة بعد التراجع الكبير في شعبيتهما، وانهيار قيمة الليرة التركية أمام الدولار، وتفاقم الأزمات المعيشية والحياتية في تركيا، وتبخُّر كل الوعود التي أطلقها أردوغان، في الحدّ من هذه الأزمات .. وسط كل هذا؛ بدأ أردوغان كما هو حال معظم الرؤساء في منطقتنا؛ ينفخ في نغمة الحديث عن المؤامرة الكونية ولكن ضد الإسلام، ولعل هذا ما يقف وراء حديثه عن تصديه لمؤامرت تقسيم العراق وسوريا، وكذلك حديثه عن محاولات إثارة فتنة سنية – علوية في تركيا، دون أن يُسمّي من يقف وراء هذه المحاولات، واتهامه لأوروبا وأمريكا بدعم اليونان ضد بلاده لأسباب حضارية في إشارة إلى الهوية الدينية ( الإسلامية ) لتركيا.
كل ذلك ليس سوى محاولات منه للتهرُّب من المشكلات الداخلية أولاً، وثانياً لكسب التيارات الإسلامية والقومية في حملته الانتخابية، بعد أن أدرك أن مواصلة حديثه عن دعم الفلسطينيين والسوريين ..؛ لم يعُد يُجدي نفعاً في ظلّ إستداراته نحو عواصم المنطقة وحكوماتها.
تهديدات أردوغان، والمحدّدات الجديدة لبيئة الصراع بين تركيا واليونان، دفعتا
دفعتا بالكثيرين إلى ترجيح وقوع صِدام أو حتى حرب بين الجانبين، رغم الحديث بأن حلف الأطلسي؛ الذي يضمّ البلدين في عضويته لن يسمح بذلك، لكن تمسُّك كل طرف بمواقفه، فضلاً عن توظيف هذا الصراع في معركة الاستحقاقات الداخلية، والتهديدات النارية المتبادلة بين الجانبين؛ كل ذلك يدفع بالمتابع إلى الاعتقاد باحتمال تقدّم الدرس الذي يمكن استخلاصه من الأزمة الروسية – الأوكرانية، فالصراعات التاريخية التي لها طابع أمني جيوسياسي قد تنفجر في أي وقت؛ خاصة مع لغة العِداء السائدة بين تركيا واليونان، وتغيير محددات عوامل الصراع بينهما.
فهل كانت تهديدات أردوغان مجرد تهديدات لتعزيز شعبيته في الداخل التركي؟ أم أنها كانت تعبير عن قرب لحظة الصِدام مع اليونان التي استعدت لذلك جيداً ؟
ADARPRESS#