قراءة في مفاجأة أردوغان السورية.. “إعادة العلاقات مع الأسد مؤجلة”
سمير صالحة
تحول الملف السوري إلى عبء ثقيل على كاهل تركيا لا يفارقها منذ عقود، بعد اندلاع الثورة في سوريا راهنت أنقرة على سقوط سريع لبشار الأسد، وكانت تملك الكثير من الفرص والثقل العسكري والسياسي لتأخذ ما تريد بالتنسيق مع قوى المعارضة السورية، لكنها أهدرت العديد من الأوراق التي تحولت إلى أعباء أمام التدخلات الإقليمية وتشابك المسار، بما خدم تطلعات وأهداف لاعبين آخرين بنوا منظومة علاقات وتمدد وتوغل سياسي وعسكري أضر بنفوذها ومصالحها هناك.
مشكلة تركيا في سوريا اليوم تتعقد وتتشعب على أكثر من جبهة: خطة وحدات الحماية الكردية المدعومة أميركيا في شرق الفرات والتي تراهن على حكم ذاتي مشابه للحالة العراقية. ملف داعش الذي يضيق الخناق على حلفائها في إدلب وجوارها. جمود مشروع المنطقة الآمنة التي تتحدث عنه على طول الحدود التركية السورية المشتركة. ورطة مئات الآلاف من اللاجئين السوريين الذين كانت تعول على عودتهم إلى الجانب الآخر من الحدود لسحب هذه الورقة من يد أحزاب المعارضة التركية في الانتخابات المرتقبة. انسداد في آلية عمل أستانا الثلاثية التي لم تحقق أي إنجاز يذكر ويسهم في حلحلة الأزمة السورية.
متطلبات المرحلة بشقها الميداني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي داخل تركيا وخارجها، هي التي فتحت الطريق حتما أمام التوقف عند ضرورة مراجعة تركيا لسياستها السورية، والدعوة إلى الحوار السياسي بين النظام والمعارضة وبحث سبل ذلك من خلال محادثات مطولة بين جهاز الاستخبارات التركي وأجهزة النظام الأمنية في دمشق.
عادي إذا أن يكشف وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو النقاب عن حوار بدأ مع النظام في دمشق من خلال لقائه بفيصل المقداد في العاصمة الصربية بلغراد على هامش اجتماع حركة عدم الانحياز في تشرين الأول من العام المنصرم. وأن يتحدث عن “ضرورة ووجوب تحقيق مصالحة بين المعارضة والنظام في سوريا بطريقة ما، لأنه لن يكون هناك سلام دائم دون ذلك”.
وعادي أيضا أن يكون الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أكثر وضوحا وهو يردد بعد عودته من زيارة لأوكرانيا في آب المنصرم “أن موضوع التسوية مع حكومة الأسد، تم طرحه وأن هناك اتصالات تدور بين أنقرة وكل من طهران وموسكو في هذا الشأن”.
لكن ما هو غير عادي بالنسبة للكثيرين خصوصا في دمشق أن يقول أردوغان في تشرين الأول الماضي، أن لقاءه مع بشار الأسد، غير وارد في الوقت الحالي وأن ذلك سيكون ممكنا عندما يحين الوقت المناسب. وأن يزيد عليه قبل أيام موقفا يعيد الحوار التركي مع دمشق إلى خط البداية” يمكن لنا أن نعيد النظر في علاقاتنا مع سوريا، بعد الانتخابات المقبلة في حزيران 2023.
صحيح أن الرئيس التركي أبقى الباب مفتوحا بقوله “ليس هناك خلاف وتباعد دائم في السياسة ويمكن إعادة تقييم الوضع عندما يحين الوقت”. لكنه قلب الطاولة التي كانت تراهن على تقارب تركي روسي يفاجىء الجميع في سوريا. وها هو يغازل واشنطن مجددا ليبقي لعبة التوازنات قائمة مع الجانبين.
المسألة إذا أبعد من موضوع الرهان على تغيرات محتملة في سياسة تركيا السورية نتيجة تغيير فريق العمل الدبلوماسي وما قابله من عملية نقل نائب وزير خارجية النظام بشار الجعفري إلى موسكو كسفير جديد هناك. فلماذا قررت أنقرة إرجاء مفاوضاتها مع دمشق إلى ما بعد الانتخابات التركية؟ وكيف ستكون عملية الربط بين ما أعلنه أردوغان والعودة للحديث عن عملية عسكرية تركية مرتقبة في شمالي سوريا بعد التفجير الإرهابي في تقسيم وتحميل أنقرة لحزب العمال وامتداداته في شرق الفرات مسؤولية هذا العمل؟
أوجز رئيس البرلمان التركي مصطفى شنطوب، الحراك التركي الجديد في التعامل مع الملف السوري بقوله إن تركيا تقع وسط جغرافيا محاطة بصراعات وحالة من عدم الاستقرار الإقليمي، وتسعى وسط هذه الأجواء لإنهاء المأساة الإنسانية في سوريا. تميل الإبرة في صفوف الحكم والمعارضة التركية نحو دخول البلاد في قراءة جديدة مغايرة حيال التعامل مع ملف الأزمة السورية. لكن تصريحات أردوغان قطعت الطريق على رهانات حدوث اختراق سياسي لناحية مراجعة سريعة للعلاقة مع النظام وأن المسألة ستبحث بعد الانتهاء من الانتخابات التركية في حزيران القادم، وهو يعرف تماما أن نتائج الانتخابات غير مضمونة لحزبه بحسب الكثير من استطلاعات الرأي.
الاحتمال الأول هو أن تصريحات أردوغان جاءت بعد وصول المحادثات بين جهازي الاستخبارات التركي والنظام في دمشق بدعم وتشجيع روسي إلى طريق مسدود.
الاحتمال الثاني هو أن حزب العدالة قرر التريث في مسألة الانفتاح على النظام في إطار تحولات إقليمية ودولية جديدة في سوريا، يدعمها عودة الحوار التركي الأميركي في الملف. وأن يكون التقارب بين أنقرة وموسكو لم يكتمل وأنه فشل في تجاوز العقبة الأميركية والإيرانية في سوريا. احتمال ثالث أن نتائج قمة الجامعة العربية في الشق المتعلق بسوريا هي التي دفعت القيادة السياسية التركية للتروي في مسألة التطبيع مع النظام، بانتظار تفاهمات عربية عربية ثم تفاهمات عربية تركية حول الموضوع. هذا إلى جانب ضرورة عدم تجاهل ارتدادات أي تفاهمات تحققها أنقرة مع النظام دون موافقة ودعم شركائها المحليين في سوريا الذين تنسق معهم منذ سنوات.
التقى الرئيس التركي بنظيره الأميركي على هامش أعمال قمة الدول العشرين الأخيرة في بالي. الاجتماع لم يكن مقرراً بين الرئيسين ويبدو أنّ تفجير إسطنبول هو الذي فرضه. فما الذي دار بينهما من نقاش حول ردة الفعل الأميركية إذا ما قال أردوغان إن بلاده حسمت موقفها وستشن عمليتها العسكرية ضد مجموعات “قوات سوريا الديمقراطية ” التي تتحمل مسؤولية هذا الهجوم
أوصت الخارجية الأميركية مواطني بلادها بعدم السفر إلى شمال سوريا والعراق، في ظل عمل عسكري محتمل من جانب تركيا هناك، قد يبدأ في غضون أيام. يبدو أنّ محاولات صالح مسلم رمي الكرة خارج الملعب وحديثه عن “مؤامرة نظمتها إدارة الحرب” التابعة للحكومة التركية ردا على اتهامات أنقرة لمجموعات قسد ومسد بتنفيذ الهجوم في شارع الاستقلال بإسطنبول لم يكن لها مفعولها. يبدو أيضاً أن أنقرة لا تعول كثيراً على نتائج اجتماعات أستانا المرتقبة لحسم موقفها إذا ما كانت قررت القيام بعمليتها العسكرية التي تحدثت عنها أكثر من مرة في شرقي الفرات.
ما ستأخذه أنقرة قد يكون أكبر من تمسك واشنطن برفض الانفتاح على النظام في دمشق أو محاولات التطبيع الإقليمي التي تجري معه مقابل تجاهل أميركي لعملية عسكرية تركية محدودة في شمال شرقي سوريا.
اتصالات أردوغان بنظيريه الأميركي والروسي في الأيام الأخيرة والتي تأتي في أعقاب محادثات أمنية استخبارية رعتها هي في أنقرة، بين مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفن ونظيره الروسي نيكولاي باتروشيف، ستشكل كذلك سببا إضافيا لموقف تركي جديد فيه الكثير من المفاجآت. المسألة قد لا تكون تتعلق فقط بإعطاء أوامر تحريك القوات مجددا في الشمال السوري، بل بإعطاء واشنطن وموسكو لأنقرة ما تريده دون القيام بهذه العملية العسكرية. يبدو أن المسألة مرتبطة هنا بعمليات المقايضة والمتطلبات التي تتعلق بملفات إقليمية استراتيجية أمام طاولة مثلثة الأضلاع تحدثنا عنها أكثر من مرة دون أن تحسم ساعة الترتيب لها.
يعلن أردوغان عن إرجاء الحوار مع النظام في دمشق إلى ما بعد حزيران المقبل. هل سيكون بمقدوره مساومة واشنطن وحدها على ملف شرق الفرات متجاهلاً ضرورة إرضاء موسكو في غربه؟ أين سنضع أيضاً موضوع الغاز السوري الاستراتيجي في شرق المتوسط لناحية ترسيم الحدود البحرية مع الدول المجاورة أو خطط نقل هذه المادة الحيوية من سوريا إلى الخارج مع الاحتفاظ بحصة اللاعبين الإقليميين المؤثرين في الملف وفي مقدمتهم تركيا؟
ADARPRESS #