سوريا: اغتيال الحلّ الأممي
محمد قواص/النهار العربي
تمتلك روسيا، من دون منازع، بوصلة الراهن في سوريا كما واجهات أي تسوية تطاول هذا البلد في المستقبل. ولئن تُنافس تركيا وإيران، بأحوال مختلفة، الدور الروسي، غير أن ذلك يظل مضبوطاً منضبطاً ولا يهدد السطّوة الروسية التي تكاد تكون نهائية. فالمنظومة الغربية برمّتها، وعلى رأسها الولايات المتحدة، ما زالت تعترف بالدور الروسي ولا تقترح أي انتقاص أو منافسة له.
تقررت الرعاية الغربية للانخراط الروسي في سوريا يوم التقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نظيره الأميركي باراك أوباما في أيلول (سبتمبر) 2015 على هامش قمة الأمم المتحدة في نيويورك. أفضت هذه القمّة إلى مسلّمتين:
الأولى، بدء الهجوم العسكري الروسي في 30 من الشهر نفسه، وبالتحديد بعد ساعات من قمة بوتين-أوباما، بما أوحى من دون لبس أن زعيم الكرملين حظي ببركة سيّد البيت الأبيض للانخراط في ورشة عسكرية في سوريا لا تريد الدول الغربية الانخراط بها.
الثانية، بدء استقالة الدائرتين العربية والغربية المتدرجة من أي دعم وازن للمعارضة السورية، كما حرمان القوات العسكرية المناهضة للنظام في دمشق من أي سلاح نوعيّ قد يشكّل عائقاً للهجمات العسكرية الروسية. بمعنى أوضح، فإن الغرب في سوريا امتنع عن مواجهة روسيا في سوريا على منوال ما فعله وأدى إلى هزيمة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي.
دعمت المنظومة الغربية روسيا في سوريا حتى لو كانت بعض المظاهر الكلامية أوحت بغير ذلك. في المقابل أجادت موسكو صيانة هذا الدعم باستباقه بالتفاهم الكامل مع إسرائيل وضمان مصالحها عبر سلسلة لقاءات، سبقت قمة نيويورك الأميركية الروسية، جمعت الرئيس الروسي برئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو. وقد حافظت موسكو على أمن إسرائيل وكانت ضالعة معها (وربما محرضة لها) على نحو مكشوف لضرب “أخطار” يفترض أنها حليفة لروسيا.
غير أن حساب حقل الحروب يختلف عن حساب بيدر التسويات. ينقلب الغرب حين يسعى الرئيس الروسي إلى تسويق بضاعته للحلّ النهائي في سوريا. تدفع موسكو باتجاه تعويم نظام دمشق ورئيسه بصفتهما قاعدة أصيلة، فيما المعارضة هوامش وفروع. وتدعم إجراء انتخابات رئاسية في 26 أيار (مايو) الماضي، تنتخب الرئيس نفسه لولاية رابعة تحت مسوغ تجنب “فراغ دستوري”. ولا تلقي بالاً للقرار الأممي 2254 الذي وضع للتسوية السورية آليات لا تعترف بالأمر الواقع وتدعو إلى واقع جديد.
والقرار صدر عن مجلس الأمن عام 2015، بالاجماع، ولم تعارضه روسيا بالفيتو الشهير. قضى القرار بضرورة إطلاق عملية سياسية انتقالية، يجريها السوريون، وتيسّرها الأمم المتحدة، وتقوم وفق دستور جديد أو معدّل يُتفق بشأنه بين المتنازعين. والقرار ما زال حتى الآن المرجعية القانونية الدولية الوحيدة، حتى بالنسبة الى الروس، تتفيأ به المنظومة الغربية كشرط للإفراج عن أي تمويل لإعادة إعمار البلد المنكوب.
لم تنجح روسيا، مغلوبة أو متواطئة، في دفع السوريين لإنتاج تسوية سورية خلاقة. أغرق وفد النظام اجتماعات اللجنة الدستورية بأطنان من الدفوع الشكلية تأجيلاً للبحث في لبّ النصّ وتجاوز القشور. ولم تُظهر موسكو ما بإمكانه إقناع المجتمع الدولي بجدية في السعي إلى إنجاز أحد الأضلاع الأساسية للقرار الأممي. والظاهر أيضاً أن الرئيس بوتين، وخصوصاً بعد قمته الأخيرة مع نظيره الأميركي جو بايدن في جنيف في 16 حزيران (يونيو) الماضي، لم يشعر بأن الدول المانحة الغربية جدية في شروطها لإطلاق التسوية السورية الكبرى.
والحال أن سوريا ملف توتر سياسي، لكنها ليست أولوية داهمة على الأجندة الدولية هذه الأيام. لم تتجاوز المأساة، في قمّة جنيف كما في التوافق الروسي الأميركي لفتح معبر باب الهوى الحدودي لإدخال المساعدات الأممية، البعد الإنساني حصرياً، على نحو هدفه تخفيف المعاناة الداخلية ومنع انتاجها لتدفقات من اللاجئين صوب أوروبا. وفي ظل هذا الواقع تلا الرئيس بشار الأسد خطاب تنصيبه في 17 تموز (يوليو) الجاري.
يقوم نصّ الخطاب على معطى غياب أي معالم لتسوية جدية يسعى اليها المجتمع الدولي، على عكس ما يحاول مبعوث الأمم المتحدة غير بيدرسون الإيحاء به. وتنهل مواقف الأسد من اكتفاء بايدن بما حققه في باب الهوى، وبالتالي من انعدام أي ضغوط جديدة من واشنطن بعد تراجع ضغوط قديمة لا تزيد عما وفّره قانون قيصر. لا يضير دمشق ما يصدر عن الإدارة الأميركية والأوروبيين من عدم اعتراف بشرعية الأسد ونزاهة الانتخابات (أعلن فوزه بها بنسبة 95.1 في المئة)، فذلك يعزز من مشروع النظام، مدعوماً بحلفائه، من أجل الإدلاء بدلو واحد لا تعارضه موسكو وتأتي بكين في يوم التنصيب لرفده ورعايته من خلال زيارة وزير الخارجية الصيني دمشق في هذا اليوم بالذات.
يصوّب الأسد في خطابه نيراناً باتجاه مشروع قيام دستور جديد. فوفد المعارضة في اللجنة الدستورية، بالنسبة اليه، “عميل لتركيا”، ودور الأمم المتحدة “مرحب به ما دام يحترم سيادة البلد”. يغتال الأسد الورشة الإصلاحية الدستورية التي يُشتم منها نقيض لحكمه وولايته الرابعة. حتى نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف كان قال في 3 حزيران (يونيو) الماضي (أي بعد أسبوع على الانتخابات الرئاسية الأخيرة)، إن إجراء انتخابات مبكرة في سوريا خيار محتمل في حال نجاح الحكومة والمعارضة هناك في تنسيق وإجراء إصلاح دستوري.
بعد مرور عشر سنوات على الصراع في سوريا يمتلك الأسد من المعطيات هذه الأيام ما يجعله يسوّق لخطاب ينكر فيه وجود معارضة، وبالتالي وجود أزمة سياسية دستورية، ويرفض فيه الذهاب إلى تعديلات في نصوص الحكم. لم يرَ الرئيس السوري في خطابه احتلالاً إسرائيلياً. حتى تكاد تكون الضربات الإسرائيلية تفصيلاً لا يستحق الذكر. بل رأى “احتلالاً للإرهابيين المدعومين من تركيا وأميركا”، على نحو يوحي بتأثره بـ “الستايل” الروسي في مقاربة الأزمة.
لم يعترف الأسد أمام الرأي العام الداخلي والخارجي بأن أزمة حكم تسبب انهياراً اقتصادياً. عزا المأزق المالي إلى مليارات تجمّدها مصارف لبنان، ولبنان من دون غيره، بما يوحي بأن خلاص سوريا مرتبط بالإطلالة التي ربما يعد بها على لبنان ومصارفه. لم يتحدث إلا عن أموال سورية مودعة في لبنان، علماً أن الجلّ الأعظم من الأموال السورية الهاربة مودعة في مصارف دولية تخضع لقوانين قديمة ومستحدثة بشأن سوريا.
حتى ينقشع غبار النزال في فيينا وتظهر العلامات الواضحة لمستقبل أفغانستان ويستكين الاختلال في علاقات الغرب مع روسيا والصين، فإن دمشق ستبقى تتحدث لغتها من دون أي تأثر برياح لا تشتد قوتها. خطاب الأسد متحصّن باللحظة الإيرانية، متمسك بالحلّ العسكري من دون غيره، مستفيد من غياب تسوية دولية ترد عنها “قدر” الانتخابات الرئاسية المسبقة الذي لسعت به موسكو فرحة الرئيس بولاية رابعة.