نشرت مؤسسة الأبحاث الأميركية «راند» تقريراً في نحو 70 صفحة يتناول مخاطر تقليل الولايات المتحدة أهمية منطقة الشرق الأوسط وتأثيرات هذه السياسة المحتملة على الأمن القومي الأميركي. واقترح التقرير نهجاً جديداً في إدارة المصالح الأمنية الأميركية في الشرق الأوسط. فهذه المنطقة تقع في مفترق طرق مصالح أميركية حيوية متعددة. والمشاكل التي تبدأ في الشرق الأوسط تتسم بقوة التأثير وسرعة الانتشار في أنحاء العالم.
وحدد التقرير عدداً من المخاطر التي قد تنجم عن التسرع الأميركي في تهميش الشرق الأوسط، سواء عبر انسحاباتٍ عسكرية جديدة أو زيادة تخفيض قواتها في مناطق الانتشار الحالية:
يمكن أن تحفّز مثل هذه الخطوة إيران لكي تصعّد هجماتها في حال رأت أن الولايات المتحدة أقل التزاماً بحماية مصالحها في المنطقة، وتزيد أنشطتها من خلال أذرعها العسكرية وحلفائها في العراق أو لبنان أو اليمن أو سوريا أو أي مكانٍ آخر. وقد تهدد إيران أيضاً شركاء الولايات المتحدة وحلفائها بالصواريخ الباليستية، وتصبح أكثر جرأة لشن ضرباتٍ إضافية على موارد الطاقة الخليجية.
يمنح الوجود الأميركي الثقة لشركائها في المنطقة ويكبح أنشطتهم العسكرية. أما إذا كانوا يعتبرون أن الولايات المتحدة أقل حضوراً أو التزاماً، فيمكنهم شن هجومٍ دفاعي ضد إيران، ما سيؤدي إلى تداعياتٍ ستعيد الولايات المتحدة مرة أخرى إلى المنطقة.
يمكن أن يخلق ضعف بعض حكومات المنطقة، في ظل وجودٍ عسكري أميركي متخفف وغير مؤثرٍ، مساحةً لظهور الإرهاب مرة أخرى، كما حدث بعد الانسحاب الأميركي من العراق.
قد يكون الحلفاء الذين دعموا الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها في الماضي، مثل الجماعات الكردية في العراق وسوريا، أقل استعداداً لتولي هذه الأدوار إن فقدوا الثقة في واشنطن كشريكٍ موثوق.
إذا نظرت حكومات الشرق الأوسط إلى الولايات المتحدة على أنها أقل موثوقية والتزاماً، فقد تلجأ أكثر إلى الصين وروسيا لمبيعات الأسلحة وأنماط التعاون الأخرى.
يمكن أن تنخفض مبيعات الأسلحة الأميركية إلى الشرق الأوسط، والتي تدعم القاعدة الصناعية الدفاعية الأميركية.
لربما تفقد الولايات المتحدة قدرتها على الرد السريع (تجاه أي تهديدٍ طارئ) إذا كان حضورها هامشياً.
من غير المحتمل أن يؤدي تقليص الوجود الأميركي في المنطقة إلى توفير نفقات دفاعية، لأن دول الخليج تتحمل، في حقيقة الأمر، الكثير من تكلفة الوجود الأميركي هناك.
وسلط تقرير «راند» الضوء على برنامج مكافحة الإرهاب تحت عنوان «الحفاظ على برنامج متكامل لمكافحة التطرف العنيف». وجاء فيه:
بينما هُزِم تنظيم داعش إقليمياً، ما زال الجهاديون السلفيون يشكلون خطراً يجب
مواجهته على المدى الطويل. وفي حين أن بعض المقاربات العسكرية ستكون ضرورية لإدارة هذه المشكلة، فإن إيلاء الاهتمام بالجانب المدني، بالتوازي مع النهج العسكري، قد يمنح القدرة على مواجهة هذه التهديدات بطريقةٍ أكثر فعّالية. وبناءً عليه، أوصى التقرير باستراتيجيةٍ منسقة مشتركة بين الوكالات تشمل وزارة الخارجية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية ووزارة الدفاع، وفق منهجيةٍ خاصة لكل بلد.
وبينما تم تطوير استراتيجية مشتركة مشابهة بين الوكالات عام 2016، إلا أنها لم تنفّذ، كما خُفّضت الميزانيات الخاصة بهذا الغرض في وزارة الخارجية والوكالة الأميركية للتنمية، ما أفسح المجال للمقاربة العسكرية فقط بدلاً من معالجة القضايا الأوسع التي قد تساهم في التطرف.
واقترح التقرير عدداً من الخطوات لمعالجة الخلل، أولها: دراسة التطرف بشكلٍ عميق والبحث عن جذور الأسباب، مثل البطالة، أو التعليم منخفض الجودة، أو الرغبة في الحماية وقت الأزمات. وقد تتضمن الخطوات أيضاً تطوير أدواتٍ أفضل لمواجهة التجنيد عبر الإنترنت.
أما ثاني الخطوات، فتتمثل في التركيز بشكلٍ أكبر على دعم جهود الحكومات الإقليمية في مكافحة التطرف من خلال بناء قدرات وكالات إنفاذ القانون ومنظمات المجتمع المدني والمؤسسات الخاصة.
وثالث الخطوات، بحسب التقرير، تكمن في وجوب أخذ واشنطن زمام المبادرة في تنسيق حلٍ متعدد الأطراف لمسألة مقاتلي تنظيم داعش المسجونين وعائلاتهم في مخيمات سوريا والعراق، مثل «الهول». وسيشمل ذلك الاستمرار في تمويل أمن المخيمات والتعاون مع الحكومة العراقية، وحكومة إقليم كردستان العراق، والإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، والإدارات الأخرى المعنية، مثل الدول التي تتحدر منها العناصر الأجنبية في التنظيم داخل المخيمات. كما أن هناك حاجة إلى إنفاذ الأحكام على مرتكبي الجرائم، والتعامل مع آلاف الأطفال الذين نشأوا في هذه البيئة المتطرفة، وإعادة أولئك الذين لم يرتكبوا جرائم إلى الحياة المدنية.
إعادة النظر
وذكر التقرير بعض الحقائق التي تتطلب من الولايات المتحدة «إعادة النظر» في استراتيجيتها الخاصة بالشرق الأوسط؛ ومن أهمها أن الجماعات الإرهابية اضمحلّت، لكن ما زال لديها إمكانيات. كذلك، وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تعتمد بصورة أقل اليوم على مصادر الطاقة من الشرق الأوسط، إلا أن حلفاؤها ما زالوا يعتمدون على تلك الطاقة. كما أن منطقة الشرق الأوسط يعتبر منطقة ساخنة بالنسبة إلى الانتشار النووي، وهي مسرح للتنافس بين الدول الكبرى. ويؤدي الصراع في المنطقة إلى اضطراب النظام العالمي، وله تأثيراتٍ على الأمن الأميركي. كما أن تبعات تغير المناخ تفاقم التحديات الأمنية الأخرى.
أولوية المنطقة
وأوضح التقرير أنه على الرغم من أن تنافس الولايات المتحدة مع روسيا والصين قد أدى إلى مطالبات أميركية بأن لا يكون للشرق الأوسط
في السياسة الخارجية والأمنية، إلا أن هناك مجموعةً كبيرة من المصالح الأمنية الحيوية في تلك المنطقة لا ينبغي تجاهلها. فالتغييرات في السياق السياسي والأمني والاقتصادي في الشرق الأوسط تتطلب تعديل الأولويات الأميركية. ويرى الباحثون أنه يتعين على واشنطن ألا تتراجع عن إعطاء الأولوية للشرق الأوسط أو تنفصل عنه.
ويقول الباحثون إنه «يتعين على الولايات المتحدة من أجل تأمين مصالحها الاعتماد بصورةٍ أقل على العمليات العسكرية وزيادة الاعتماد على الدبلوماسية والتنمية الاقتصادية والمساعدات التقنية». ويمكن لأي استراتيجية أميركية جديدة تحافظ على الشرق الأوسط كأولوية وتعيد التوازن بين الآليات العسكرية والمدنية أن تساعد في نقل المنطقة من حالةٍ تشهد تعرض الولايات المتحدة إلى خسائر إلى حالةٍ أخرى تزداد فيها مكاسب الشعب الأميركي وكذلك شعوب الشرق الأوسط.
ADARPRESS#