لقاء موسكو السوري التركي خطوة في الفراغ
علي العبدالله
العربي الجديد:4/1/2023
شكّل اللقاء الثلاثي الذي جمع وزراء دفاع وقادة أجهزة مخابرات أنظمة روسيا وتركيا وسورية محطة فاصلة بين مرحلتي إعلان قادة النظام التركي عن استعدادهم لتطبيع العلاقات مع النظام السوري والانخراط في خطواتٍ عمليةٍ على طريق تنفيذ هذه الاستعدادات. فقد عُقد اللقاء بعد اجتماعاتٍ عديدةٍ على مستوى قادة أجهزة المخابرات واتفاقهم على تصوّر مقبول لخروج النظامين التركي والسوري من حالة العداء والمواجهة إلى علاقاتٍ طبيعيةٍ عبر تقديم كل طرف للطرف الآخر وعودا بتلبية بعض ما يريده أو كله مع ملاحظة بقاء الأجواء بينهما ملبّدة بغيوم الشك وعدم الاطمئنان، جسّدها استمرار عمليات القصف المتبادل عند خطوط التماسّ ومواصلة إعلام النظام السوري وصف القوات التركية على الأراضي السورية قوات احتلال.
جاء اللقاء العتيد في لحظة سياسية دقيقة ومفصلية للنظامين، التركي والسوري، حيث يسعى الأول إلى توفير مناخ سياسي واقتصادي داخلي وخارجي لمعركته الانتخابية، الرئاسية والبرلمانية، التي ستجري في شهر يونيو/ حزيران المقبل، عبر وضع ملف اللاجئين السوريين على طريق الحل، بعدما نجحت أحزاب المعارضة التركية في تحويله إلى ورقة انتخابية في غير صالحه بربط المشكلات الاقتصادية، التضخّم الخطير 84.4% وانهيار سعر العملة الوطنية، التي خسرت أضعاف قيمتها، تراجعت من 3.5 إلى 18.5 ليرة مقابل الدولار خلال السنوات الأخيرة، والمعيشية التي ترتّبت على انهيار الدخل وارتفاع الأسعار والبطالة، بوجود اللاجئين السوريين، من جهة، وشدّ العصب القومي التركي، عبر تضخيم خطر “الإدارة الذاتية” في شمال سورية وشمال شرقها، بذريعة تبعية حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي السوري) وجناحه العسكري، وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة، لحزب العمال الكردستاني التركي، والإعلان عن القيام بعملية عسكرية برّية ضد مواقع “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في تل رفعت ومنبج وعين العرب (كوباني) على طريق استكمال إقامة منطقةٍ آمنةٍ على طول الحدود التركية السورية، من جهة ثانية. في حين يسعى الثاني، النظام السوري، إلى إقناع راعيه الأول، روسيا، بمدّه بإكسير الحياة لمواجهة الانهيار الاقتصادي الشامل، عبر مدّه بحوامل الطاقة، لمواجهة توقف عجلة الإنتاج، وتسيير مؤسسات النظام الخدمية، الكهرباء والماء والتعليم والصحّة والنقل والاتصالات، وتمويل مشترياته من المواد الغذائية الرئيسة، الحبوب بشكل رئيس، لوقف تدهور صورته لدى مواليه وتنفيس الاحتقان الاجتماعي وتلافي ثورة جياع.
أراد النظام التركي تحقيق مكسب سياسي عبر الضغط على الإدارة الأميركية لتغيير مقاربتها للوضع السياسي والعسكري في سورية، والموافقة على تنفيذ عملية عسكرية برّية ضد “قسد” أو تنفيذ بنود اتفاق عام 2019 بسحب هذه القوات بعيدا عن الحدود إلى مسافة 30 كيلومترا، عبر التلويح بمصالحة النظام السوري، والبدء بمفاوضات أمنية معه، ما يعني التطبيع مع نظامٍ محسوبٍ على روسيا، وتغيير التوازن العسكري في شمال سورية وشمال شرقها لصالح الأخيرة، قبل أن تدفعه الظروف الاقتصادية واقتراب موعد الاستحقاق الانتخابي، ورفض الإدارة الأميركية مطالبه السابقة، إلى الهروب إلى الأمام، باقتراح خطّة عمل لتطبيع العلاقات بينه وبين النظام السوري من ثلاث مراحل: اجتماع أمني عسكري على مستوى قادة أجهزة المخابرات ووزراء الدفاع، اجتماع سياسي على مستوى وزراء الخارجية، وقمّة على مستوى رؤساء الأنظمة، تلقف النظام الروسي الخطّة في ضوء حاجته لإرضاء شريكه التركي، للتخلّي عن خطته القيام بعملية عسكرية ضد مواقع “قسد”، حفاظا على الاستقرار الهشّ القائم في شمال سورية وشمال شرقها، بوضع هواجسه إزاء ملف اللاجئين على جدول أعمال المفاوضات. ووضع الخطوة في إطار مساعدته في تهيئة المناخ لفوز انتخابي حاسم، من جهة، ولتوجيه الحربة التركية نحو الطرف الأميركي، راعي “قسد” ومشروعها في شمال سورية وشمال شرقها، من جهة ثانية. وتحقيق مكاسب للنظام السوري، تساعده في حل بعض المشكلات الاقتصادية المتفجرة عبر فتح الطرق لحركة السلع من وإلى مناطق سيطرته ودخول سلع تركية إلى هذه المناطق وفتح طرق الترانزيت بين تركيا ودول الخليج العربي وتحصيل عوائد مالية، لتحسين صورته لدى مواليه وتعزيز موقفه في وجه “قسد” وفصائل المعارضة السورية المسلحة، من جهة ثالثة، فعمل، النظام الروسي، على إقناع النظام السوري بجدوى الخطّة التركية وأهميتها لخططه لوقف الانهيار الاقتصادي، وتلبية الخطة التركية بعض متطلبات ذلك.
لم يجد النظام السوري بدًّا من الانحناء للعاصفة والانصياع للرغبة الروسية والقبول بالانخراط في التصور التركي ثلاثي المراحل، والمشاركة في اللقاء الثلاثي على مستوى قادة أجهزة المخابرات ووزراء الدفاع؛ والمراهنة، في الوقت ذاته، على تأجيل الاتفاق عبر وضع عصيّ في دواليب المفاوضات، لتمرير الوقت عبر طرح مطالب كبيرة ومحرجة للنظام التركي من سحب القوات التركية من الأراضي السورية، إلى وقف دعم فصائل المعارضة المسلّحة، مرورا بفتح الطرق وتسهيل دخول السلع التركية إلى مناطقه، لتخفيف مأزقه الاقتصادي، فخيار النظام الحقيقي عدم التطبيع مع النظام التركي الحالي، انتظارا لنتائج الانتخابات التركية علّ رياحها تأتي على هوى أشرعته بفوز أحزاب المعارضة التركية التي واصلت الانفتاح عليه ووعدته بسحب القوات التركية من الأراضي السورية، في حال فوزها في الانتخابات، وتعويضه عمّا ألحقته هذه القوات بالأراضي السورية من دمار، خصوصا وأن نظرتها إلى الصراع في سورية تتطابق مع نظرته، حيث إنها لا تتبنّى أيا من مطالب المعارضة السورية في التغيير السياسي، فالاتفاق مع نظامٍ غير التركي الحالي سيكون في صالحه، خدمةً لرؤيته التي تستند إلى تعطيل كل الحلول، إلى حين حدوث تغيّرات دولية تسمح/ تقبل عودة الوضع في سورية إلى ما كان عليه قبل عام 2011، من دون أي تغيير أو إصلاح، فانخراطه في التصوّر التركي بمراحله الثلاث لا يعني، بالضرورة، قبوله المطالب التركية بشأن عودة اللاجئين والدستور الجديد وتطبيق بنود القرار الأممي 2254.
لا يشكّل الاتفاق على الانخراط في المفاوضات بمراحلها الثلاث ضمانة أكيدة للوصول إلى اتفاقات شاملة لتفاصيل الملف السوري؛ فأمام الوصول إلى اتفاقاتٍ شاملةٍ عقبات وموانع ذاتية وموضوعية، لعل أولها الخلاف المديد بين الطرفين والمستوى الذي بلغه، بما في ذلك سفك الدماء وتبادل التهم والتجريح الشخصي، وصعوبة تبرير الانتقال من موقفٍ إلى نقيضه، بسهولة، فالمواقف عالية النبرة والانخراط الشخصي للقادة في السجال الإعلامي تجعل التراجع ثقيلا ومُحرجا. أما ثاني العوامل المانعة الوصول إلى اتفاقات شاملة ونهائية، فيكمن في موقف النظام السوري من عودة اللاجئين، حيث أكّدت تجارب ومحاولات إعادة لاجئين من لبنان والأردن عدم رغبة النظام في عودتهم، فعلى الضدّ من الإعلانات الرسمية جاءت إجراءاته العملية في مواجهة من عاد لتقول للاجئين عودتكم غير مرغوبٍ فيها، خصوصا أن عودة كثيفة في فترةٍ قصيرة تفرض عليه أعباءً ماليةً وخدميةً لا يملكها.
وثالث العوامل تباين مواقف الطرفين في ملف محاربة الإرهاب، حيث ليس ثمّة اتفاق على الجهات الإرهابية المقصودة، ومعايير الحكم على الجهات السياسية والعسكرية العاملة على الأرض؛ فكل منهما له إرهابيوه ويريد من الطرف الآخر التعاون معه للقضاء عليهم، خصوصا وأن تحديد النظام الإرهابيين يرتبط بنظرته إلى الحل الشامل، بإعادة الوضع في سورية إلى ما كان عليه قبل ثورة الحرية والكرامة. لذا يضع كل فصائل المعارضة المسلحة في خانة الإرهاب، كي يبعد مطالبها بالتغيير عن المفاوضات. ورابع العوامل وأكثرها دقّة وتأثيرا على المشهد تطلع النظام التركي لموقف أميركي يبشّر أو يعد، وعدا قاطعا، بإعادة نظر حول ملفات عالقة بين الطرفين، بما في ذلك دعم “قسد”، كي يعود عن التطبيع مع النظام السوري، فالخطوات الحالية جزءٌ من استدراج عروض أميركية، والعودة عنها سهلة وفي متناول اليد بالاستناد إلى تشدّد النظام السوري، في ضوء تقديرات تقول إن الأخير سيبقى عند مواقفه المعلنة من دون تعديل أو تغيير، حتى ولو في الشكل، لأنه يتصرّف على خلفية كونه منتصرا في الصراع في سورية، وينتظر فرصة لتجيير نتائج الصراع على سورية لصالحه. وهذا يضع مصير المفاوضات ونتائجها بيد الإدارة الأميركية. وخامس العوامل موقف إيران التي تجاهلها التحرّك الثلاثي، وهي ذات ثقلٍ على الساحة السورية، ولا يمكن أن تقبل الاتفاق على حلولٍ للملفات السورية على حساب مصالحها ودورها فيها، خصوصا وقد عزّزت مكانتها لدى روسيا عبر مساعدتها للخروج من مآزقها في أوكرانيا عبر مدّها بطائراتٍ من دون طيار، وتوجهها لمدّها بصواريخ باليستية قصيرة المدى.
في الختام، وبغضّ النظر عن العوامل المذكورة أعلاه، ودورها المحتمل في عرقلة التوصل إلى اتفاقات نهائية، يبقى المأزق كامنا في طبيعة الحل الذي يمكن أن تسفر عنه المفاوضات الحالية، في حال نجاحها، فحديث أطراف اللقاء الثلاثي عن تسوية الأزمة السورية لا يعني أنها التسوية المطلوبة، حتى لو ادّعت أنها تنفذ قرار مجلس الأمن رقم 2254، لأن قراءة روسيا والنظام السوري له تُفرغه من مضمونه الحقيقي. كما أنه لا يمكن الركون إلى حلٍّ لا تشارك في الاتفاق عليه كل القوى صاحبة المصلحة في الحل، ولا يشتمل على تحقيق مطالب السوريين الذين دفعوا من دمائهم وشروط حياتهم أكلافا عاليةً من أجل استعادة حقوقهم التي استباحها النظام عقودا، فمثل هذا الحل وصفةٌ لاستمرار الصراع وتجدّده، فالمخرج المنطقي هو الذي يؤسّس لحلٍّ دائم يوفر فرص الاستقرار على قاعدة الرضا العام.