( التداعيات الجيوسياسية والداخلية لزلزال تركيا وسوريا )
ستكون هناك تداعيات سياسية، داخلية واقليمية ودولية، للزلزال الرهيب الذي ضرب تركيا وسوريا وخلّف كارثة إنسانية واقتصادية ضخمة. ستهتزّ الحسابات الانتخابية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي أعلن عدم تأجيل موعد انعقادها منتصف أيار (مايو) وأرفق ذلك بفرض قانون طوارئ قال انه سيكون مفيداً في مكافحة مثيري الفتنة والتجار والفاسدين- فيما وجده آخرون إجراءً قد ينعكس سلباً على أردوغان وطموحاته الرئاسية. أما الرئيس السوري بشار الأسد فإنه لن يتلقى إعادة التأهيل السياسي له ولنظامه كإفرازٍ جانبي للتعاطف الدولي والعربي مع نكبة السوريين الزلزالية. فأوروبا لن تهرول الى التطبيع معه والولايات المتحدة ستصّد محاولات تجاوز العقوبات المفروضة على النظام. روسيا مكبّلة بحربها في أوكرانيا ومع حلف شمال الأطلسي، لكنها ستساعد بقدر المستطاع -وهو ليس بحجم الاحتياجات السورية- ثم إنها ستكون حذرة مع تركيا لا سيما أمام ما قد تراه أنقرة استفزازات إيرانية كزيارة قائد “فيلق القدس” اسماعيل قآني الى حلب والتصريحات التي أدلى بها. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحتاج الرجلين في أنقرة ودمشق كما أنه في حاجة إلى طهران- لذلك إبحاره سيكون شقيّاً.
حلب جرح مفتوح لأنها المدينة العريقة التي دُمَّرت قبل الزلزال وعانت عبر السنوات من قصف روسي وبراميل متفجرة شاركت إيران ووكلاؤها في إعدادها. إنها على حدود تركيا، وأنقرة لا يعجبها أن تتوجه إيران اليها بعد الزلزال بعنجهية رسالة نحن هنا، ونحن نسيطر. إنها بذور لمواجهة تركية – إيرانية ضحيتها حلب وجوارها وأهاليها.
قد تتحسن العلاقة التركية – السورية اضطراراً بسبب الكارثة التي أصابت الشعبين، لكن الحديث عن تقارب تركي – سوري على مستوى القيادتين سيتراجع على الأرجح، ليس فقط بسبب الانشغال بالنكبة الإنسانية وإنما أيضاً بسبب المنافسة بين العنجهية الإيرانية والعنجهية التركية في وقتٍ حساس بامتياز، لا سيما أن النظام في دمشق يقع تحت سيطرة إيرانية.
إيران ستضطر لأخذ تأثير الزلزال في تركيا وسوريا على مشاريعها وخياراتها الإقليمية في الاعتبار- وقد تتأنّى. فهذه الكارثة ليست إنسانية فحسب وإنما تداعياتها الإقليمية والجيوسياسية تتطلّب العودة الى طاولة رسم السياسات والسيناريوات. سوريا فائقة الأهمية في قائمة “الممتلكات” الإقليمية لدى قادة النظام في طهران. إنها أولوية استراتيجية ضرورية للمشاريع الإيرانية. وطهران عازمة على منع التسلل الى تقويض سيطرتها على سوريا والتي أتت بوكالة روسية. فالزلزال وجّه الأنظار الى سوريا والى القبضة الإيرانية على سوريا برضا النظام في دمشق.
الكونغرس الأميركي الذي يسيطر عليه الحزب الجمهوري اليوم سيكون بالمرصاد للمشاريع الروسية والإيرانية في سوريا كما لأيّ محاولة لتعويم نظام الأسد أو لتجاوز العقوبات. إنه أيضاً بالمرصاد لإدارة الرئيس جو بايدن لعلّها تسمح باستثناءات لقانون قيصر الذي أصدره الكونغرس ويستهدف الأفراد والشركات التي تقدم التمويل أو المساعدة للرئيس السوري وللكيانات الإيرانية والروسية التي تقدم الدعم لحكومة الأسد.
إدارة بايدن والكونغرس على السواء ليسا في وارد رفع العقوبات عن النظام في دمشق بدافع الكارثة الإنسانية. فالولايات المتحدة تبحث في آليات مكمِّلة لآليات المنظمات الدولية للإغاثة، مثل المنظمات التابعة للأمم المتحدة، وهي لن توافق على التعاقد مع النظام في دمشق لإيصال المساعدات إلى المناطق المتضررة سواءً أكانت تحت سيطرة النظام أو المعارضة.
فالعقوبات الأميركية أصلاً لا تُطبَّق على المساعدات الإنسانية، والكونغرس لن يسمح باستغلال الكارثة الإنسانية لفك العزلة عن بشار الأسد أو لتطبيع الأمر الواقع معه. واشنطن تدرك أن الدول العربية ستشعر بالنخوة نحو الشعب السوري وبعضها قد يتحمس لكسر طوق العقوبات، إلا أن الكونغرس الأميركي لن يسمح بأن تنجر الولايات المتحدة والدول الأوروبية الى استفادة نظام الأسد من الكارثة.
وكمثال، إن الكونغرس في صدد تشديد عزمه على منع مشروع الغاز والكهرباء من مصر إلى الأردن فسوريا ولبنان والذي كان في ذهن إدارة بايدن بذريعة مساعدة لبنان. هذا المشروع تطلّب استثناءً لقانون قيصر. تطلّب أيضاً دوراً أساسياً للبنك الدولي. لكن البنك الدولي تردّد منذ البداية بأن يكون طرفاً في عملية قفز على قانون قيصر حتى وإن كان بطلب من إدارة بايدن وهو أوضح أخيراً أنه ليس في صدد التورط في استثناءٍ لقانون للكونغرس من دون موافقة الكونغرس.
هناك تحرك آخر يقوم به الحزب الجمهوري في الكونغرس ليضمن فصل المساعدات الإنسانية والإغاثة الى سوريا عن النظام في دمشق، ولتجاوز الفيتو الروسي على فتح المعابر الى المناطق المنكوبة الواقعة خارج سيطرة النظام. رأيه أن آليات المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة وغيرها ليست كافية، وأن هناك حاجة لآليات جديدة للتنسيق بين القوات الأميركية في سوريا وبين الجيش التركي، لا تمر عبر الحكومة السورية، لتأمين المساعدات عبر المعابر الى المناطق المتضررة وذلك عبر خطة مستدامة تتطلّب البدء بالعمل الآن ومن دون انتظار موافقة حكومة الأسد.
بكلام آخر، ما قد تسمح به إدارة بايدن سيواجه تعطيلاً من الكونغرس الرافض أن تكون الكارثة وسيلة لتعويم بشار الأسد. وهناك تحرك داخل الكونغرس لإصدار قوانين إضافية تحول دون استفادة الأسد وإيران و”حزب الله” من الكارثة التي خلّفها الزلزال.
الزلزال قد يرطّب أجواء العلاقات الأميركية مع الرئاسة التركية لأن الاحتياجات التركية ضخمة وتتطلّب من الرئيس أردوغان النزول من أعلى السلم على عدّة أصعدة.
فتركيا في حالة اقتصادية حرجة جداً، مدن كبرى فيها دُمِّرت بما يتطلّب مليارات الدولارات التي لن تسددها المساعدات الفورية بملايين الدولارات. أوروبا مكبّلة بمشاكلها وبحربها مع روسيا التي قد تتخرّج من اللامباشر الى حرب أوروبية بل وعالمية. أميركا غير متحمّسة لتقديم المليارات إلا إذا كان الثمن المقابل يستحقها على نسق تسلّق رجب طيب أردوغان نزولاً من سلّم المكابرة بالذات في مسألة عضوية فنلندا والسويد في حلف شمال الأطلسي (ناتو) الذي تنتمي تركيا اليه والذي يتطلّب إجماع جميع أعضائه للقبول بعضوية دول جديدة.
ماذا سيفعل رجب طيب أردوغان بما تعتبره أوروبا والولايات المتحدة غطرسة فوق العادة في مواقفه نحو فنلندا والسويد واليونان في زمن حاجة تركيا الماسة الى مساعدات بمستوى الكارثة الكبرى الناتجة من الزلزال؟ لعلّه يكابر، ولعلّه يعيد الحسابات بما في ذلك حسابات علاقاته مع فلاديمير بوتين والتي هي المنفذ الرئيسي للرئيس الروسي لكسر طوق العزل الغربي عليه وللشريان الاقتصادي لروسيا المكبلة بالعقوبات.
حاجة أردوغان الى مساعدات ضخمة من الولايات المتحدة وبقية أعضاء حلف الناتو ستفرض عليه التأقلم مع المطالب الغربية- أقلّه لجهة التوقف عن استفزاز الناتو أوروبياً ومن البوابة الروسية. الأرجح أن الرئيس التركي سيتوقف عن تهديداته لليونان والسويد وفنلندا وعن خططه لتحدّي حلف الناتو. الأرجح أنه سيضطر للتواضع قليلاً- الأمر الذي يسبب له ألماً كبيراً.
هذا يعني أن على رجب طيب أردوغان أن يغيّر أسلوبه وأن ينسى أحلام إحياء العظمة العثمانية لأن ذلك الحلم مكلف بالمليارات فيما حاجة الإغاثة وإعادة البناء في تركيا بعد الزلزال ستتعدّى قدرات الاقتصاد التركي الركيك أساساً. ثم إن هذا الزلزال المرعب قد لا يكون وصل خاتمته وهناك من يتحدّث عن إمكانية حدوث زلزال آخر بقوة هذا الزلزال- عندئذ سيكون الدمار محطِّماً فوق العادة.
زلزال شباط (فبراير) سيطوّق الكثير من مشاريع أردوغان الممتدة من جيرته في آسيا الوسطى بالذات نحو أذربيجان، الى نشاطاته في ليبيا، الى تبنيه مشروع “الإخوان المسلمين”. سيفرض عليه تغيير سياساته الخارجية الى جانب التوقف عن التهديد مثلاً بفرض حزام أمني داخل الأراضي السورية.
ضرر الزلزال كبير على الرئيس التركي وكذلك على الرئيس الروسي كما على مشاريعهما التي تطلّبت استثمارات ضخمة. فلاديمير بوتين وجد نفسه مضطراً لربط مصير الاقتصاد الروسي بشخص رجب طيب أردوغان وضرورة استمراره في الحكم في تركيا.
لكن الهزة الأرضية قد تغيّر الحسابات الانتخابية التركية لعدّة أسباب من أبرزها أن الرئيس التركي كان قد اتخذ من سياساته الخارجية ذخيرة مهمة لإقناع الناخبين ببرنامجه السياسي الطموح لتركيا. اضطراره لتحويل جهوده نحو الداخل بسبب ما تتطلّبه تداعيات الزلزال سيسحب منه ورقة ثمينة كان وضعها أساساً لحملة إعادة انتخابه رئيساً.
بكلام آخر، لعل الزلزال يخدم المعارضة في تركيا التي أمامها فرصة أن تتوحّد ولربما أن تفوز في الانتخابات لأن المعركة ستكون أكثر تركيزاً على الداخل وليس على السياسة الخارجية. ثم أن فرض حال الطوارئ قد يتحوّل الى سلعة انتخابية يستخدمها أردوغان والمعارضة على السواء- وهي سيف ذو حدّين. فمزاج الأتراك قد لا يتحمل الانقلاب الكامل على الديموقراطية.
من المبكر تقويم أبعاد كارثة فتكت بالأتراك والسوريين وخلّفت أكثر من 20 ألف قتيل ودمّرت مدناً بكاملها وأبكت ملايين الناس الذين رافقوا انتشال الأطفال من تحت الركام وحاولوا أن يتصوروا حجم المأساة لعائلات تمزّقت. المؤلم أيضاً أن هذه ليس خاتمة الأحزان، وأن العالم الذي قبض على أنفاسه وهو يراقب هذه التراجيديا سينصرف قريباً الى تطورات عالمية أخرى تتربّص له- فيما معاناة الأحياء من الضحايا ستطول كثيراً حسبما يبدو الآن.
رحم الله الموتى وساعد الأحياء.
*خبيرة الشؤون الاستراتيجية الدولية وكاتبة عمود سياسي استراتيجي باللغتين العربية والإنجليزية، هي المؤسِّسة والرئيسة التنفيذية لـ”بيروت انستيتيوت” – المؤسَّسة الفكرية للمنطقة العربية ذات البعد الدولي.
رغد ضرغام/ النهار العربي