من المستفيد من الحـ ـرب الروسية-الأوكرانية
إحدى أغبى الحـ ـروب في التاريخ المعاصر، الهجوم الروسي-البوتيني على أوكرانيا. سنة مرت وهي لا تزال مستعرة، الغباء يتفاقم، والكوارث تتراكم، إنها أوضح صورة عن الجدلية المتداخلة ما بين الغباء والكوارث البشرية.
لو سألوني ثانية اليوم، هل روسيا ستهاجم، لكان جوابي هو ذاته كما كان قبل سنة، بأن الاستراتيجيين السوفييت السياسيين-العسكريين، عباقرة الحرب الباردة، لن ينخدعوا بحيل أمريكا ولن يسمحوا لجيوشهم العتيدة السقوط في المستنقع، بعد الصيت العالمي، والتجارة الرابحة التي كانوا يحصلون عليها من مبيعات أسلحتهم، الأسلحة التي تبينت من خلال الحرب بأنها لم تكن على مستوى ما كان قد شاعت عنها في الإعلام. كما وبما أنهم كانوا على دراية تامة بواقع الاقتصاد الروسي مقارنة بالأوروبي والأمريكي، لو ترك لهم الخيار، لما سمحوا لدولتهم بالانجرار إلى مسيرة الاستنزاف الطويلة الأمد التي خططت لها أمريكا.
خطأي في التقدير، إنني نسيت أن جميع الطغاة والأنظمة الدكتاتورية تحمل جوانب من الغباء، وعدم التقدير للطرف الأخر، ونسيت أن العنجهية تعمي أبصار أصحابها، وهو ما كان عليه بوتين، يوم فرض رأيه، ولم يتجرأ أي من الاستراتيجيين السوفييت القدامى الاعتراض. وللأسف هذه المنهجية مترسخة في الأنظمة الروسية، ولم تتغير طوال الأحقاب الثلاث، القيصرية والسوفيتية والبوتينية.
كل القوى المتصارعة تخسر بشكل أو آخر، بشريا واقتصاديا ومن ثم عسكريا، وقريبا ستظهر تبعاتها الكارثية وبشكل جلي على الشارع الروسي، والأوروبي وحتى الأمريكي، بعدما أدت إلى ضياع نسبة عالية من الجيل الجديد، إما قتلا في ساحات الحرب، أو الخروج منها معاقون جسميا ونفسيا، إلى جانب خسارتهم للمئات من خيرة المثقفين والسياسيين الروس والأوكرانيين، وتعميق الشرخ المرعب بين الشعبين الذين كانوا على جبهة واحدة طوال قرون عديدة، إن كان سياسيا أو قوميا أو مذهبيا.
لم يتعظ بوتين من الحرب الأهلية السورية، وهو عراب النظام المجرم بشار الأسد طوال السنوات الماضية، ورأى ما حل بالشعب السوري واقتصاد الدولة والمآسي التي يمر بها الشعب والنظام والمعارضة وكل من أقحم ذاته في الصراع، ومن بينهم روسيا، ولربما لم يتعظ حتى اللحظة، ولا يهمه إن سقط بكليته في المستنقع الأمريكي – الناتو، بقدر ما يهمه رأيه وعناده وعنجهيته، وسوف لن يؤثر عليه حتى ولو بدأ الاقتصاد الروسي بالانهيار وتعالى التضخم إلى مستويات لا يحمد عقباه، بقدر ما يهمه قناعاته، على أنه يحمي الشعب الروسي من الخطر الشعب الأوكراني، وأنه يحارب العنصريين الأوكرانيين، النازية الجديدة حسب تعابيره، ولا بد من تفكيك أوكرانيا، والحد من تمدد الناتو، في الوقت الذي كان بإمكانه أن يفعل كل هذا وينجح فيها فيما لو أستمر على تطوير ترسانته العسكرية، وتحسين الاقتصاد الروسي، والخروج إلى العالم بقوة تجارية، إن كان على أكتاف مخزونه الهائل من المواد الصناعية، بدأ من النفط والغاز إلى جميع أنواع المعادن والتي بعضها عصب الحياة للمصانع الأوروبية.
خسرت أوكرانيا، بنيتها التحتية إلى جانب هجرة شعبها والألاف من خيرة شبابها، لكن خسارة روسيا لا تقل عنها فإلى جانب من قتلوا في المعارك والهجرة الواسعة إلى الخارج، تتفاقم الحالة المعنوية، وبدأ يتراجع الاقتصاد، والأخطر من كل هذا الحالة النفسية التي بدأت تسود المجتمع الروسي، المشابه لما حصل أثناء الحرب العالمية الثانية وما بعدها. فاليوم العائلة الروسية كالأوكرانية، تعيش الحداد إما على من فقدوهم أو رهبة من الفقدان، ونعلم أن الشعبين الروسي والأوكراني كانوا يعانون طوال عقود من رجحان نسبة الإناث على الذكور، اقتربت من التعادل في نهاية التسعينات، وهي الفترة التي كانت نسبة السكان الروس يتراجع، إلى أن حلت الزيادة، بعد تدخل واسع من قبل الدولة، بنسبة زهيدة، قدرت بعدة ألاف فرد طوال سنة كاملة، حصل ذلك في نهاية التسعينات من القرن الماضي.
وبالمقابل، تخسر أمريكا، عسكريا واقتصاديا، وهناك بوادر صراع سياسي بين الحزبين الحاكمين، على العديد من القضايا المتعلقة بالحرب، كالمساعدات العسكرية والمادية والمعلوماتية، وهو ما دفع بالرئيس (جو بايدن) زيارة أوكرانيا لرفع معنويات الشعب الأمريكي والأوروبي قبل الأوكراني.
وخسرت أوربا الكثير، شعوبها تعاني اليوم من التضخم، والنقص في الطاقة، إلى جانب الرهبة من الحرب وما قد تحل بالحالة المعيشية مستقبلا، وقد تم استقبال قرابة 8 ملايين أوكراني وقبلهم الملايين من سوريا وأفغانستان، وماذا لو تمددت ساحة الحرب وبلغت أراضيهم، كما حدثت في الحرب العالمية، الأولى والثانية.
كما وعانت دول وشعوب من العالم الثالث، في أفريقيا والشرق الأوسط، والتي كانت تحصل على القمح والذرة الأوكرانية والروسية، وتلك التي كانت تأتيها المساعدات الروسية من الطاقة والأسلحة وبأسعار متدنية، والرهبة من أن تؤثر استمرار الحرب على انقطاع إمدادات القمح والذرة، ومخزون معظم الدول غير كاف لفصل واحد.
قادم الدول المتصارعة، قاتم فيما لو أستمرت الحرب، وظل بوتين على عناده، ودون أن يغير من أوجه الصراع، والذي يتطلب منه الانتقال من الجانب العسكري إلى السياسي – الاقتصادي، دونها سيعاني الشعب الروسي الكثير، علما أن معاناة الشعوب بالنسبة للأنظمة الدكتاتورية لا تعني شيئا، بل تمرر على أنه الصمود في وجه الأعداء، مثلما تفعله كوريا الشمالية والنظام السوري، وأئمة ولاية الفقيه للشعوب الإيرانية، وكوبا، وغيرها من الدول، التي تفضل الصراع على مجاعات شعوبها.
أمريكا لا تزال تكسب، من البعد الاقتصادي، شركاتها وخاصة التي تصنع الأسلحة تعمل بكل طاقاتها، تربح المليارات، ونسبة البطالة في أدنى مستوياتها واقتصادها معافى رغم التضخم المتزايد، لكنها ومع ديمومة الحرب ستواجه المعارضة الأوروبية المتحالفة، وقد بدأت تظهر موجات من الانتقادات على أن أمريكا تنهبهم من خلال عملية الحصار على النفط والغاز الروسي، وبدأت تضع شروط مساعدة أوكرانيا عسكريا بمقدار المساعدات الأمريكية ذات التكنولوجيا المتطورة.
أي عمليا خسارة روسيا لن تكون أقل من خسارة أوروبا مستقبلا، وربما إلى حد ما أمريكا خاصة فيما لو نهضت الصين بشكل جدي في البعدين الاقتصادي والمنافسة العسكرية.
تركيا الدولة الوحيدة التي استفادت من هذه الحرب وبدهاء أو خباثة سياسية، لأن السياسية جلها خباثة قبل أن تكون دهاءً، مثلما استفادت وطوال السنوات الماضية من الحرب الأهلية السورية، وعرفت كيف تستغلهما لمصالحها، بوقوفها في المنطقة المحايدة، تمتص من الجهتين، مثلما فعلته مع المعارضة السورية، بإعادة تركيبتها لتكون الأداة التي تستخدمها كلما دعت الضرورة، في الوقت الذي كانت روسيا تقصفهم بالطائرات كانت هي على علاقة حميمية معها، سياسيا واقتصاديا.
قدمت تركيا ذاتها إلى العالم الثالث على أنها أنقذتها من عوزها للقمح الأوكراني والروسي، كما وعرضت خدماتها للأوروبيين بمد خطوط أنابيب الغاز والنفط من خلال أراضيها، إما من الجانب الروسي أو الأذربيجاني أو التوركمانستان، علما أنها لولا الدخل الذي تحصل عليه من هذه الخدمات، لعان اقتصادها من ركود متسارع، ولتدهورت عملتها أضعاف ما حلت بها الأن، ولتجاوز التضخم في أسواقها نسبة المائة.
كما وحصلت بوقوفها في منطقة الحياد بين المتصارعين، على الكثير من البعدين السياسي والعسكري. تمادت في عدة بلدان، دون معارضة جدية من الجانبين الأمريكي والروسي، تحتل أجزاء من سوريا، ومنعت قيام فيدرالية غربي كوردستان، وقامت بالتغيير الديمغرافي لمنطقة عفرين، وبها قطعت رابط الاتصال بين المنطقة الشرقية من غربي كوردستان وغربها وحيث جبل الأكراد والبحر المتوسط. تتحكم بمسارات السياسة في ليبيا، وتحارب اليونان للسيادة على جزرها ومساحات من مياهها الإقليمية، مثلها مع قبرص ومصر. تحكمت في الحرب الأذربيجانية الأرمنية من البعد القومي والديني، ولم تعترض عليها روسيا علما أن روسيا كانت عرابة أرمينيا، وكانت ترى ذاتها المعنية بأمر الدولتين مثلما أدعتها مع الدولة الأوكرانية وتدخلت في شؤونها تحت ذرائع وهي ذاتها التي كانت موجودة في مناطقها الجنوبية وحيث جورجيا وأرمينيا وأذربيجان، لكنها هنا لازمت جانب الصمت لئلا تخسر تركيا وهي دولة مهمة في الناتو.
لا شك الجدلية معروفة، هناك دول وشعوب تعاني من ويلات الحروب وأخرى خبيثة تكسب وتستفيد من كوارث الأخرين، أنهم دول على مقاس تجار الحروب.
تركيا اليوم تكسب، ويظل السؤال: هل ستنسى أمريكا وأوروبا وربما روسيا هذه التجاوزات والمواقف لتركيا مستقبلا؟ أم أنها كوريثة للإمبراطورية العثمانية، تعيد تاريخها، وما حل بها بعدما تمكنت فرنسا وبريطانيا من تشكيل قوة منافسة للإمبراطورية. مع ذلك فهي اليوم تكسب وتتمادى، ولولا الكارثة الزلزالية لشاهدنا مفاجئات عديدة من جانب حكومة أردوغان قبل الانتخابات، ولربما بعدها فيما لو كسبها، وبعضها تخص مستقبل الكورد في سوريا وقادم الإدارة الذاتية وقوات قسد، وربما قادم سوريا بشكل عام.
د. محمود عباس
ADARPRESS #