الحل السياسي وخصام البديهيات في سوريا
“تحرك عدد من الدول العربية لتطبيع العلاقات مع سوريا، معيدين الحديث عن الحل السياسي إلى الواجهة وهو ما تؤكده التطورات الفعلية على الأرض ومسار الأزمة خلال السنوات الماضية، ذلك أنه أمر غير ممكن فالرئيس بشار الأسد ونظامه يرفضان التفاوض مع أي شركاء سوريين، وهو ما يعرقل إيجاد حل نهائي للأزمة التي طال أمدها وأثقلت كاهل السوريين وخلفت لهم ندوبا اقتصادية ومادية لا يمكن تجاوزها”.
لندن – رغم أن الاجتماع التشاوري الذي انعقد في جدة بين وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والعراق والأردن مؤخرا، تجاهل عن قصد وعمد القرار 2254 بشأن سبل حل الأزمة في سوريا، وعرض بديلا له، إلا أن أفق عودة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية ظل مغلقا. ومن غير المرجح أن يتم إيجاد سبيل لطيّ صفحة الماضي، كما تأمل دمشق، أو لطيّ صفحة المقاطعة كما تأمل العديد من الدول العربية الأخرى. أما الحل السياسي فسوف يظل معلقا إلى وقت طويل جدا.
الجهد الذي بذلته السعودية لأجل أن تكون القمة العربية المزمع انعقادها في مايو المقبل مفتاحا لعودة سوريا إلى الجامعة، لم يذهب هباء. على الأقل، لأن زيارة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان إلى دمشق، عقب الاجتماع التشاوري، ولقاءه بالرئيس بشار الأسد، قدمت تأكيدا بأن الرياض تعتزم مواصلة هذا الجهد. وحتى يتم ذلك، فإن العلاقات الثنائية بين البلدين سوف تزداد تعزيزا.
ولقد تفهمت دمشق الأمر من زاويتها الخاصة. ذلك لأنها، مثلما رفضت الامتثال للقرار 2254، فإنها ليست في وارد القبول بالشروط التي طرحها الاجتماع التشاوري. ما يجعل توسيع مساحة تطبيع العلاقات الثنائية مكسبا كافيا، ويمكن التعايش معه لأنه على وجه التحديد أقل كلفة.
الحل السياسي يعني أن يكون هناك شركاء سوريون في هذا الحل. بينما لا تعترف دمشق بأي شركاء يمكنهم التفاوض معها
ففي حين دعا القرار 2254 إلى “إنشاء هيئة حكم انتقالية جامعة تخوَّل سلطات تنفيذية كاملة، وتعتمد في تشكيلها على الموافقة المتبادلة، مع كفالة استمرارية المؤسسات الحكومية”، فإن الاجتماع التشاوري قال إن “الحل السياسي هو الحل الوحيد للأزمة السورية”، ودافع عن “أهمية أن يكون هناك دور قيادي عربي في الجهود الرامية لإنهائها، ووضع الآليات اللازمة لهذا الدور، وتكثيف التشاور بين الدول العربية بما يكفل نجاح هذه الجهود”.
تعني فكرة أن يكون هناك حل سياسي، من ناحية أولى البديهيات، أن يكون هناك شركاء سوريون في هذا الحل. بينما لا تعترف دمشق بأيّ شركاء يمكنهم التفاوض معها على الحل. وفي بعض الأحيان، فإن الصدى الذي يتردد في دمشق، بعد المكاسب العسكرية التي حققها الجيش السوري وحلفاؤه ضد مجموعات المعارضة، ظل يقول “لا توجد أزمة لكي يكون لها حل أصلا”.
ولئن كافحت اللجنة الدستورية المشتركة على مدى تسع جولات من الاجتماعات في جنيف، بداية من 30 أكتوبر 2019، من أجل التوصل إلى اتفاق حول “القاعدة الدستورية” للحل السياسي، وليس الحل السياسي نفسه، فإن المماطلات قضت على الأمل بأن تخرج هذه اللجنة بخارطة طريق نحو الحل المنشود.
أحد الشروط التي قدمها اجتماع جدة يُعد من وجهة نظر وزراء الخارجية العرب من البديهيات. إلا أنه ليس كذلك من وجهة نظر دمشق. إذ اتفق الوزراء على “أهمية حلّ الأزمة الإنسانية، وتوفير البيئة المناسبة لوصول المساعدات إلى جميع المناطق في سوريا، وتهيئة الظروف اللازمة لعودة اللاجئين والنازحين السوريين إلى مناطقهم، وإنهاء معاناتهم، وتمكينهم من العودة بأمان إلى وطنهم، واتخاذ المزيد من الإجراءات التي من شأنها المساهمة في استقرار الأوضاع في كامل الأراضي السورية”.
وهناك وجهان للطبيعة البديهية لهذا الشرط أو الطلب. الأول، هو أن دول الجوار، ومنها الأردن، لا يجب أن تدفع ثمن وجود الملايين من المهاجرين الذين يشكلون عبئا على مواردها المحدودة. ولسان الحال في بعض هذه البلدان يقول “نحن لسنا مكبّا لأزمات الآخرين، أو لمواطنين أصبحوا فائضين عن الحاجة بالنسبة إلى بلدهم”.
أما الثاني، فهو أن عودة اللاجئين وتوفير الضمانات لأمنهم حق تكفله الشرائع الدولية والمعايير الإنسانية كافة. وحتى لئن كانت الظروف الاقتصادية السورية لا تستطيع تحمل أعباء عودة ما يقل عن ثلاثة ملايين من “الفائض” الذي لم يجد سبيلا للجوء إلى أوروبا، فإن “الدور القيادي العربي” كان يعني من باب غير خفي، أن الدول العربية هي التي سوف تنهض بتلك الأعباء.
ولكن ما ليس بديهيا بالنسبة إلى دمشق هو أن استرداد هذا العدد من البشر يعني محاولة لإعادة خلخلة الخلخلة التي أحدثتها عمليات التهجير لتغيير التوازنات الديمغرافية في البلاد. كما أنها تظل تطرح تحديا سياسيا، إن لم يكن أمنيا أيضا. فهؤلاء المواطنون سوف يريدون، في النهاية، أن ينتخبوا ممثليهم وإداراتهم المحلية، ومن ثم فقد تخرج من أوساطهم شخصيات لا تؤمن بشعار “الأسد إلى الأبد أو نحرق البلد”.
أما القضايا الأخرى المتعلقة بـ”مكافحة الإرهاب بكافة أشكاله وتنظيماته، ومكافحة تهريب المخدرات والاتجار بها، وأهمية قيام مؤسسات الدولة بالحفاظ على سيادة سوريا على أراضيها لإنهاء وجود الميليشيات المسلحة فيها، والتدخلات الخارجية في الشأن الداخلي السوري”، فهي قضايا إشكالية أيضا، وليست بديهيات. ذلك أن تهريب المخدرات على سبيل المثال تحول إلى “صناعة”، لن يسهل القضاء عليها من دون “تعويضات”. وفي حال جرى الحديث عن “إنهاء تواجد الميليشيات”، فان السؤال الذي سرعان ما يقفز إلى الاذهان في دمشق هو: “مَنْ تقصد؟”.
هناك خصام حاد في سوريا مع البديهيات، وهو ما يجعل مسألة الحل السياسي فكرة أسطورية لا تستقيم مع الواقع
أما لجهة الحل السياسي نفسه، فإنه قد يكون ما يكون، ولكن هل يشمل إقامة دولة قانون، بحيث لا يُعتقل أحد على أساس الشبهات أو على أساس اتهامات بـ”إصابة نفسية الأمة بالوهن؟”، إذا كان الجواب هو نعم، لأنه “بديهي”، فإنه ليس بديهيا من جهة التصور السائد في دمشق لنوع البضاعة الصالحة للتداول. فإذا ما أضيفت إلى ذلك أشياء من قبيل حق “المعارضين”، بالمطالبة بوقف أعمال التعذيب في السجون، أو الاعتقالات التعسفية، فإن كل ما يبدو “بديهيا” لم يكن من قبل كذلك، وهو ما كان أحد أسباب اندلاع الأزمة أصلا، ولسوف تنجم عنه تكاليف باهظة، لو تم فرضه.
وقياسا على الوضع الراهن، فإن سوريا تعاني ظروفا اقتصادية عصيبة، إلا أنها عصيبة مع “راحة بال”. لقد حققت السلطات السورية انتصارات ساحقة، ليس على فلول المعارضة، بأشكالها المختلفة فحسب، ولكنها حققت انتصارات على “المؤامرة” الأميركية أيضا. وهو ما يعني أن الحل السياسي سوف يقضم شيئا من كعكة هذه الانتصارات، بينما هي انتصارات تامة في الظرف الحالي، ولا تستدعي تغيرا.
وقعت أطراف المعارضة المدنية السورية ضحية التفتت والترهل واليأس. واستئناف السعي لحل سياسي سوف يوفر لها سبيلا لتحيي عظامها وهي رميم.
مع ذلك، فالحقيقة هي أنه لا يوجد حل من دون الأكراد. فهؤلاء هم النواة الصلبة الوحيدة الباقية في المعارضة السورية. وهم نواة صلبة، ليس لأنهم يسيطرون على نحو 20 في المئة من الأراضي السورية الغنية بالموارد، بما يشمل محافظات ريف حلب الشرقي والرقة ودير الزور والحسكة، وليس لأنهم يتلقون دعما أميركيا مباشرا، وليس لأن صفة الإرهاب لا تنطبق عليهم، لأنهم هم من أسقطوا دولة داعش، ولكن لأنهم يطرحون مطالب سياسية “بديهية” لا يستقر حل من دونها.
وقالت الإدارة الذاتية الكردية في تلك المحافظات في أعقاب الاجتماع التشاوري إنها مستعدة “للقاء حكومة دمشق، والحوار معها، ومع جميع الأطراف السورية من أجل التشاور والتباحث لتقديم مبادرات وإيجاد حل للأزمة السورية”. ودعت إلى “توزيع الثروات والموارد الاقتصادية الحالية بشكل عادل بين كل المناطق السورية، من النفط، والغاز، والمحاصيل الزراعية، لأنها ملك لجميع أبناء الشعب السوري، وضرورة مشاركتها من خلال الاتفاق مع حكومة دمشق عبر الحوار والتفاوض”. وتعهدت بـ”الاستمرار في مكافحة الإرهاب، ومواصلة الحرب على تنظيم داعش، والتنظيمات التي تهدد أمن سوريا والعالم”.
وناشدت “الدول العربية والأمم المتحدة وجميع القوى الدولية الفاعلة في الشأن السوري.. بأن يؤدوا دوراً إيجابياً وفعالاً يسهم في البحث عن حلّ مشترك مع الحكومة السورية”.
وهذه من جملة المطالب التي يصعب تجاهلها لأنها بديهيات. ولكن عندما سئل الرئيس الأسد في مقابلة خلال زيارته إلى موسكو الشهر الماضي عن موقفه من الوحدات الكردية التي تقاتل داعش، فقد قال إن “أن أيّ جهة أو فرد يعمل لصالح قوة أجنبية هو خائن وعميل بكل بساطة”. هناك خصام حاد في سوريا مع البديهيات، هو ما يجعل الحل السياسي فكرة أسطورية لا تستقيم مع الواقع.
ADARPRESS #