كيف وصل الأسد الى قمة جدة؟
بعيداً عن الأسباب المباشرة التي كانت وراء قرار الدول العربية تعليق عضوية نظام دمشق في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2011، إلّا أنه يمكن التأكيد أن خطاباً إعلامياً مشتركاً لدى الأكثرية، يُفصح عن استراتيجية عربية تهدف إلى مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، ولعل أبرز علائم تلك الاستراتيجية تتمحور بالضغط على أذرع إيران والأنظمة أو الحكومات التابعة لها في المنطقة، كطريقة للحدّ من التمدد الإيراني وكبح انتشار الشر الذي تحمله سياسات إيران عبر أدواتها.
لا شك أن نظام دمشق هو في طليعة الحكومات التي تجاوزت علاقاتها بإيران المستوى القائم بين أي دولتين صديقتين، بل يمكن التأكيد أن سوريا في عهد الأسد الإبن، باتت مجالاً حيوياً للنفوذ الإيراني المباشر، بل ربما نظر إليها بعض المسؤولين الإيرانيين على أنها محافظة إيرانية ويجب أن تُدار أمورها من طهران.
ولقد تعزز هذا التصوّر الإيراني بطريقة أكثر وضوحاً منذ انطلاقة الثورة السورية في آذار/مارس 2011، إذ كانت إيران هي النصير الفعلي لنظام الأسد في مواجهة انتفاضة الشعب السوري، بل ربما بات القادة الإيرانيون هم أصحاب القرار الفعلي كما هم القادة الميدانيون في رسم استراتيجيات المواجهة والتخطيط لحصار المدن، ومن ثم إجبار سكانها على إفراغها كما فعل القائد السابق لفيلق القدس في الحرس الثوري قاسم سليماني في حصاره لمدينة داريا ومعضمية الشام صيف 2015.
وبناءً على هذا التماهي الأسدي مع السياسات الإيرانية وارتهان دمشق المطلق للسطوة الإيرانية، بنى القادة الخليجيون سياساتهم حيال الثورة السورية، ولعله من الصحيح أن تلك السياسات لم تكن لتبتعد كثيراً عن استراتيجيات الدول الكبرى وفي طليعتها الولايات المتحدة الأميركية، ولكنها من جهة أخرى كانت تنطوي ضمنياً على نزوع بالتدخل المباشر في سيرورة الصراع في سوريا، وفي جانبه الميداني على وجه الخصوص، فعمدت إلى دعم فصائل وألوية عسكرية مناهضة لنظام الأسد، وقدّمت لها كل مقوّمات القوة والسطوة، وكان اختيارها لتلك الفصائل مصحوباً بانتقائية إيديولوجية، إذ إنها دعمت الفصائل التي تحمل إيديولوجيا
السلفية العلمية” التي تقع على النقيض من الإيديولوجيا الشيعية التي تعتمدها إيران كعامل شحن وتعبئة لمشروعها التوسعي وسياساتها في التمدد، وهذا ما تجسّد في تبنّي السعودية لفصيل “جيش الإسلام” الذي كان يُعدّ القوة الضاربة في محيط مدينة دمشق.
يمكن التأكيد أن الحرب الدائرة على الجغرافية السورية منذ منتصف العام 2012 كانت تجسّد في أبعادها صراعاً إقليمياً ودولياً عبر أدوات محلية، ولم يعد نظام الأسد هو المستهدف الأول من وراء تلك الصراعات، بل ربما يصح القول: إن مجمل الأطراف الخارجية المتواجدة – عسكرياً وسياسياً – على الجغرافية السورية بدت منشغلة بإدارة الصراع واستمراره أكثر مما هي منشغلة بإيجاد حلول للقضية السورية، ما يعني أن الأهداف المعلنة لكل طرف ليست ثابتة، بل هي قابلة للتبدّل والاستدارة وفقاً لسيرورة إدارة الصراع وما تفضي إليه موازين القوى، فضلاً عن استراتيجيات الدول الكبرى التي شهدت تحولاً واضحاً منذ أواخر العام 2015، حين شكلت واشنطن “قوات سوريا الديمقراطية” وبات هدفها محاربة “داعش” بعيداً عن نظام الأسد، يوازيها مبادرة أنقرة إلى التنسيق مع فصائل سورية معارضة لمحاربة “قسد”، بعيداً عن نظام الأسد، وذلك في خطوة موازية للمبادرة الأميركية.
ما لا يمكن تجاهله أن الاستدارة التي جسدتها السياسات العربية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية وبعض الدول الأخرى، تجاه نظام الأسد في أعقاب زلزال السادس من شباط/فبراير، لم تكن بمنأى عن ظلال استراتيجيات الدول الكبرى، ولئن كانت السعودية ومعظم دول الخليج تستظل – طيلة السنوات السابقة – بخطاب أميركي مناهض لإيران، وتحاول البناء عليه في دعوتها لمواجهة الخطر الإيراني، إلّا أن الخطاب الأميركي حيال إيران باتت تخذله المصداقية الفعلية، ويتجسد هذا الخذلان بالنسبة إلى دول الخليج بحرص شديد من جانب إدارة بايدن، ومن خلفها أوروبا، على التمسك بالاتفاق النووي مع إيران، والمضيّ في نهج احتواء القوة الإيرانية والتعايش معها بدلاً من مواجهتها أو الإجهاز عليها.
بالتالي أوجب هذا الإفصاح الأميركي حيال السياسات الإيرانية عن ارتداد خليجي تقوده السعودية، يجاري سياسة المهادنة التي تنتهجها واشنطن حيال إيران، ليس رغبةً في هذه المهادنة بقدر ما هو الشعور بالتقهقر وعدم القدرة على مواجهة إيران في ظل انزياح المظلة الأميركية الأمنية عن دول الخليج، وحينئذ لا بدّ من انعطافة سياسية يواكبها مبادرات فعلية تجاه إيران، ولعل أولى تلك المبادرات هي الاتفاق الذي جرى بين الرياض وطهران بإشراف بكين، ذلك الاتفاق الذي يحمل في طياته بذور مجمل المبادرات التي قامت بها الجامعة العربية حيال نظام الأسد. ولعل الاستحقاقات التي توجبها هذه الانعطافة السياسية تتجلّى بالتخلي السعودي الكامل عن خطاب مواجهة إيران، بل بات المطلب الدائم لدول الخليج من نظام الأسد بالابتعاد عن إيران صدًى لأحاديث لا لزوم لاستعادتها.
وتأسيساً على تلك التحولات السابقة تصبح القضية السورية – وفقاً للسياسات الخليجية – جزءاً من صدى الخطاب الماضي الذي لا ينبغي أن يصبح عثرة أمام المصالح الأمنية السلطوية الضيقة لتلك الدول، ولعله من الطبيعي أيضاً في هذا السياق أن تتبدّل كل أشكال التصورات والخطابات والسلوكيات الخليجية حيال نظام الإجرام الأسدي بنقيضها من الممارسات، وبالفعل لقد حطّ (مجرم الأمس) بشار الأسد رحاله في جدة، وتم استقباله باعتباره (فخامة رئيس الجمهورية العربية السورية).
ما حصل في قمة جدة كان خرقاً لسياسة إدارة الصراعات الدولية والإقليمية، فحضور الأسد للقمة العربية يعتبر مخالفة واضحة لكل قرارات الجامعة العربية التي لم ينفذ النظام أي منها، وتجاوزاً للقرارات الدولية التي لم يلتزم بأي قرار منها، ويعتبر هذا الحضور لرأس النظام رسالة جلية وواضحة من القادة والزعماء العرب للشعب السوري، بأننا كنا سعداء بما فعله الأسد بكم خلال السنوات الإثني عشرة الماضية، وها نحن نتوّجه إكليل النصر ونحتفي به ونستقبله استقبال الأبطال.
والسؤال الموجه من الشعب السوري لهؤلاء الزعماء والقادة من أقران الأسد هو كيف لكم أن تحتضنوا وتصافحوا شخصاً ارتكب الآلاف من جرائم الحرب بحق شعبه وهجّر أكثر من نصفهم، ومعتقلاته تعج بمئات الآلاف من النساء والرجال والأطفال، وكيف تتوقعون أن يفهم الشعب السوري هذه الرسالة؟