عن نقد المعارضة السورية
جاد الكريم الجباعي
تواترت المقالات الصحفية التي تنتقد “المعارضة السوريّة”، من مواقع مختلفة وزوايا نظر مختلفة أيضاً، تتّفق كلها على أهمية النقد وضرورته واعتباره “من أهم العمليات التي يُفترض بالحركات السياسية أن تقوم بها، سواء في المؤتمرات الدورية أو في سياق العمل اليومي”، مثلما تتّفق على أهمية “التفكير النقدي”، الذي يُفترض أن تشجّعه الحركات السياسية، التي تستحق اسمها.
الحركات السياسية تستحق النقد، لأن كلاً منها تشغل حيّزاً من الحقل العام، أو مما يُفترض أنه حقل عام، نعني الحقل السياسي، الذي ليس من حق أحد أن يحتكره، فمن حق النقد، بل من واجبه، أن يتناول هذه الحركات بأدواته المعرفية ومنهجياته مُدعّماً بالبيانات والوقائع. ومن البديهي أن غاية النقد بصورة عامة، والنقد السياسي بصورة خاصة هو الإصلاح أو عدم الحؤول دونه أو التمهيد لثورة جذرية تقلب الأوضاع القائمة رأساً على عقب. أي إن النقد يتوخّى الخير العام والنفع العام والمصلحة العامة، انطلاقاً من الشعور بسموّ الرابطة الإنسانية، وسموّ الرابطة الاجتماعية أو الرابطة الوطنية، وسموّ القانون، وليس ترفاً “نقدياً” أو تنصّلاً من المسؤولية ومحاولة لتبرئة الذات والحكم على ما عداها ومن عداها.
وإذ نتّفق مع كتاب المقالات “النقدية” وكاتباتها على أهمية النقد وضرورته، نتناول في هذه المقالة نموذجاً من نماذج نقد المعارِضات والمعارضين لـ “المعارضة السوريّة” ، ونطرح بعض الأسئلة حول أدوات النقد ومنهجياته، بصيغة الجمع، لأننا افترضنا اختلاف مواقع الكتاب والكاتبات واختلاف منظوراتهم أو منظوراتهن، فإن اختلاف هذه وتلك يشير بالضرورة إلى اختلاف المصالح والغايات.
السؤال الأول: هل يفضي نقد “الحركات السياسية” بأدواتها المعرفية نفسها ومنهجياتها وخلفياتها النظرية نفسها إلى إصلاحها أو تغييرها؟
والسؤال الثاني: إذا كان مفهوم المعارضة يستدعي مفهوم السلطة القائمة بالفعل، لأن المعارضة سلطة بالقوة، بالمعنى الأرسطي، أي إنها قد تتسلّم السلطة أو تستولي عليها أو تشارك فيها، ألا ينبغي أن يذهب النقد عميقاً إلى قواعد تشكُّل السلطة وأشكال ممارستها المحكومة بهذه القواعد، على اعتبار السلطة ممارسة، حسب ميشيل فوكو؟
والسؤال الثالث: هل يمكن أن يصبّ نقد المعارضة، بأدوات المعارضة نفسها ومنهجياتها نفسها، بمعزل عن نقد قواعد تشكل السلطة وأشكال ممارستها، في مصلحة النظام التسلّطي وسلطاته الغاشمة، سواء قصد “النقد” ذلك أو لم يقصده؟
ما يسوّغ هذا السؤال الأخير أن مفهوم المعارضة في الحالة السورية شديد الغموض والالتباس، ويشمل أطيافاً مختلفة ومتخالفة من المعارضة السياسية و”المعارضة المسلحة”، على افتراض أن الناقدات والنقاد لا يسلكون تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة في سلك “المعارضة”، على مبدأ “عدوّ عدوّي صديقي”. هذا المبدأ يزيح الفعل السياسي، المدني بالضرورة، والسلمي بالضرورة أيضاً، من حقل المعارضة إلى حقل العداوة، ومن حقل السياسة إلى حقل الحرب، ومن الفضاء الوطني العام إلى الفضاءات الإثنية أو المذهبية الخاصة.
السياسة شأن مدني عام، ليست امتداداً للحرب بوسائل أخرى، كما اقترح ميشيل فوكو، والحرب ليست امتداداً للسياسة بوسائل أخرى، حسب مأثور كلوزفيتز. فمن غير المنطقي ومن غير الأخلاقي أيضاً إدراج الجماعات المسلحة، على اختلافها، في المعارضة السياسية.
إن وصف المعارضة بأنها سوريّة لا يُعيّن شيئاً سوى أنها ليست لبنانية أو عراقية .. ووصفها بأنها وطنية يعني أنها تشترك مع السلطة التي تعارضها ومن يوالونها في الفضاء الوطني العام، فلا تُخرجها ولا تُخرجهم منه، إلا إذا كانت تعتبر السلطة غير وطنية، وهذا يتوقف على تحديد معنى الوطنية، إذ لا تشير الوطنية في الخطابات السياسية السورية إلا إلى المغايرة: المتكلم وطني والآخر المغاير غير وطني، وفق التقاليد الثقافية والأخلاقية السائدة في سوريا منذ عقود. لكن وصف المعارضة بأنها ديمقراطية، هو الذي يُعيّن تفارقها عن السلطة التي تعارضها، ويُعيّن الفروق بين أطيافها المختلفة.
ومن ثم، فإن إدراك العلاقة بين الوطنية والديمقراطية، هو المدخل الضروري لنقد يمكن أن يسهم في إصلاح السياسة، باعتبارها علم إدارة الشؤون العامة، وفنّ إدارة الاختلاف، والوسيلة المُثلى لحلّ التعارضات الاجتماعية والسياسية سلمياً. بشرط أن تُدرَك الديمقراطية على أنها نظام اجتماعي – سياسي علماني، ينتجه المجتمع بنفسه ولنفسه، ولا يستند إلى أي مرجعية لاهوتية، ولا يحابي إثنية على حساب غيرها من الإثنيات أو ديناً على حساب غيره من الأديان أو مذهباً على حساب غيره من المذاهب، ولا يحابي الرجال على النساء والذكور على الإناث، وهذا هو الأهم، لأن وضع النساء في أي مجتمع رائز رئيس من روائز قوة المجتمع أو ضعفه، تماسكه أو تفككه، نموه وتقدمه أو ركوده وتفسخه.
أجل، السياسة علم إدارة الشؤون العامة، وفنّ إدارة الاختلاف، ونفي الحرب إلى خارج المدينة (الدولة)، بتعبير فلاسفة اليونان. والحوار هو أداتها الفُضلى لحلّ التعارضات الاجتماعية والسياسية بالطرق السلمية. ومن ثم، فإن استعمال القوة أو التهديد باستعمالها ليسا من السياسة في شيء، بل هما انزلاق إلى الحرب وانتكاس إلى الهمجية. السياسة هي فنّ استعمال قوة المعرفة والثقافة والاقتصاد، والتنظيم أو قوة المؤسسات والقانون، والقوة الأخلاقية الكامنة في المجتمع، وليست إستراتيجيّات عصبوية وعنصرية، إثنية كانت العصبيات أم مذهبية أم طبقية أم حزبية.
لم يتطرّق النقد السياسي، ولا سيما نقد المعارضين والمعارضات للمعارضة، إلى البنى البطركية والبطركية المحدثة، والعلاقات الشاقولية التي تنسجها، والتي لا يمكن أن تنتج سوى سلطة / سلطات شخصية مستبدة، لا تقبل المراجعة والمساءلة وتتطيَّر من النقد. ولم يتطرق إلى حقيقة أن هذه العلاقات والبنى يمكن أن تنتج سلطة مركزية صارمة ومستبدة، ولكنها لا تستطيع أن تنتج دولة وطنية حديثة. ولم يتطرق قطّ إلى اقتران الوطنية بالعلمانية أولاً وأساساً، ومن ثم، بالديمقراطية اقتراناً ضرورياً. ولم يتطرق ولو مرة إلى نماذج التفكير والإدراك والتمثُّل والتقدير والعمل الموروثة من عصور سحيقة ويُعاد إنتاجها من خلال النُّظم والإستراتيجيّات التربوية والتعليمية ومؤسسات التلقين الأيديولوجي والتنشئة السياسية.
يقول النموذج الذي اخترناه، من بين نماذج نقد المعارضات والمعارضين للمعارضة: “تُعدّ مراجعة التجربة السياسية، والقصد من ذلك المراجعة النقدية، من أهم العمليات التي يُفترض بالحركات السياسية القيام بها، في المحطات المختلفة، سواء في المؤتمرات الدورية، أو في سياق العمل اليومي. إلا أن غالبية حركاتنا السياسية، كما نعلم، لم تختبر هذه المراجعات يوماً، بل إنها، كما بيّنت التجربة، تستنكر أي ملاحظة حول مواقفها، وتأنف أي موقف نقدي لسياساتها وممارساتها، بل إنها قد تعتبر ذلك جزءاً من عملية معادية لاستهدافها، أو لإضعافها”.
حركاتنا السياسية بمعظمها للأسف تظن أنها مخلّدة، وتمتلك الحقيقة، بل إنها تعتقد أن شعاراتها وخطاباتها تعدّ من البديهيات واليقينيات، أي فوق النقاش، بدل أن تشجّع على عملية التفكير، وبالأخصّ التفكير النقدي، لذلك فليس غريباً أن نجد أغلب الجماعات الحزبية بمثابة جماعات مغلقة تتمحور حول بعضها، مثل العائلات والعشائر والطوائف، وتلتف حول حركاتها السياسية، في تماهٍ مع الأنظمة الاستبدادية التي ترى أن الشعب مجرّد جماهير ليس لها إلا أن تهزج بشعارات القائد، أو الحزب القائد”.
ويخلص إلى نتيجة مؤكدة يقيناً مفادها أن “أية حركات سياسية لا تواجه ذاتها ولا تنتقد تجربتها، هي حركات لا تستحق الحياة، إذ إنها تبدو غير واثقة من نفسها، ولا حتى من مسيرتها، فضلاً عن أن ذلك يعني أنها فقدت حيويّتها، وقدرتها على التطور والتجديد”.
إذاً، المراجعة النقدية ضرورية، وتدل على حيوية الحركة السياسية، لكن “معظم حركاتنا السياسية لم تختبر المراجعة النقدية، فهي “تظن أنها مخلّدة، وتمتلك الحقيقة، بل إنها تعتقد أن شعاراتها وخطاباتها تعدّ من البديهيات واليقينيات، أي فوق النقاش، بدل أن تشجع على عملية التفكير، وبالأخصّ التفكير النقدي، لذلك فليس غريباً أن نجد أغلب الجماعات الحزبية بمثابة جماعات مغلقة تتمحور حول بعضها، مثل العائلات والعشائر والطوائف، وتلتف حول حركاتها السياسية، في تماهٍ مع الأنظمة الاستبدادية التي ترى أن الشعب مجرّد جماهير ليس لها إلا أن تهزج بشعارات القائد، أو الحزب القائد”.
في مواجهة هذا الوضع، يقول النقد: “من المفيد أن يدخل في إدراكات المنتمين للحركات السياسية، وحتى بعض المعارضين والمثقفين (ومنهم طبعاً الصحافيون) اللامنتمين لأية حركات، أن السياسة تعني المشاركة السياسية، وحرية الرأي والتعبير والتظاهر، وتالياً النقد، وفي أساسه النقد الذاتي، لأن أية حركات سياسية لا تواجه ذاتها ولا تنتقد تجربتها، هي حركات لا تستحقّ الحياة، إذ إنها تبدو غير واثقة من نفسها، ولا حتى من مسيرتها، فضلاً عن أن ذلك يعني أنها فقدت حيويتها، وقدرتها على التطوّر والتجديد. ولذلك فإن معظمها لا تستحقّ الحياة”.
لا نؤاخذ هذا النموذج “النقدي” من حيث تعريف السياسة بأنها “المشاركة السياسية وحرية الرأي والتعبير والتظاهر، وتالياً النقد”، بل نرى في هذا النموذج من النقد موقفاً عدميّاً لا من “المعارضة السورية” فقط، بل من السياسة عموماً. هذا الموقف العدميّ، الذي يحكم على حركات سياسية، لا يسمّيها، حكماً قاطعاً بأنها لا تستحقّ الحياة هو نفسه موقف النظام التسلُّطي من السياسة عموماً ومن المعارضة خصوصاً. العدمية في الفكر والسياسة هي ما أوصل بلادنا إلى ما هي فيه.
وإلى ذلك، إن هذا النموذج النقدي لا يخبرنا شيئاً عن الحركات السياسية، التي اختبرت المراجعة النقدية فاستثناها من عدم استحقاق الحياة، بقوله: “معظم حركاتنا السياسية (لا كلها) لم تختبر المراجعة النقدية”، ما يعني أن بعضها قد اختبرت المراجعة النقدية، وتستحق الحياة. هذا المسكوت عنه يطرح السؤال عن “الفرقة الناجية” أو الفرق الناجية، التي يستثنيها النقد.
إن أكثر ما يلفت النظر في هذا النموذج من النقد هو ممارسة سلطة الحكم بالحياة أو بعدمها. وحده نظام، كنظام البعث، أو تنظيم، كتنظيم داعش، يملك مثل هذه السلطة على الحياة والموت.