ملف المفقـ ـودين في سوريا: الأمم المتحدة تكرر الأخـ ـطاء السابقة وتحـ ـذيرات من دوامة أستانة حقوقية
مضى عقد ونيف من الزمن على انتظار السوريين العدالة الدولية لإنصافهم في قضيتهم التي ذاقوا فيها من الويلات التي حولت سوريا إلى مذبحة لشعب بأكمله، ونكبات إنسانية باتت بحاجة إلى أشبه بالمعجزة لإنقاذ الشعب من النكبات، وتخفيف الضغوط على الدول الإقليمية التي تحتضن أعدادا كبيرة من السوريين، إلا أن العدالة الدولية لم تأت رغم ما قدمه السوريون من تضحيات في سبيل كسر قيود القمع والاستبداد، لتظهر مؤخرا بعض ملامح التغيير في الأقبية الدولية تجاه الملف السوري، وخاصة في ملف المعتقلين والمختفين قسريا على يد أطراف الصراع في البلاد.
فكانت بارقة الأمل مؤخرا في 29 من شهر حزيران/يونيو 2023 بعد أن صوتت الدول الأعضاء في الجمعية الأممية للأمم المتحدة لصالح مسودة القرار A/77/L.79 القاضي بإنشاء مؤسسة أممية مستقلة تهدف للعمل على ملف المفقودين في سوريا، وقد مرَّ القرار بأغلبية 83 دولة، ومعارضة 11 وامتناع 62 عن التصويت، ورغم التصويت لصالح القرار إلا أن الحدث الأبرز الذي حملته جلسة التصويت هو العزوف العربي عن تأييد القرار ما عدا كل من قطر والكويت.
حيث امتنعت كل من السعودية، الإمارات، البحرين، عمان، مصر، الأردن، المغرب، لبنان، تونس واليمن عن التصويت لصالح القرار الذي يهدف لتقصي ملف المفقودين في سوريا على يد أطراف الصراع، في حين لم يكن موقف النظام السوري مستبعدا، حيث رفض الوفد الممثل للأسد مشروع القرار الأممي، ووفق الإحصائيات الحقوقية لمصادر غير رسمية، فإن غالبية حالات الاختفاء في سوريا كان وراءها النظام السوري.
الآلية المشكلة وفق الشبكة السورية لحقوق الإنسان، جهة غير رسمية، سوف تقوم من دون شك بحشد الجهود الحقوقية السورية والدولية لدعم ملف المفقودين، وربما تتمكن من بناء قاعدة بيانات مركزية، وسوف تشكل منصة يمكن لعشرات الآلاف من أهالي المفقودين التواصل معها.
لكن دورها لن يكون الإفراج عن المعتقلين تعسفياً، وبشكل جازم أن النظام السوري وبقية أطراف النزاع لن يتعاونوا معها، ما يعقد من مهامها في الكشف عن مصير المفقودين، كما أن ولايتها لن تنص على محاسبة مرتكبي الانتهاكات.
156 ألف معتقل ومختف قسريا
مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني، قال لـ «القدس العربي»: الاعتقال التعسفي في سوريا ما يزال يجري ضمن سياسة مركزية من قبل النظام، الذي يقوم بإخفاء الغالبية العظمى منهم بشكل منهجي ومدروس، ويشكل الاختفاء القسري الممارس من قبل النظام جريمة ضد الإنسانية ما زالت تُمارس حتى اللحظة.
ورأى المتحدث، وجوب إعادة الدول التي قامت بإعادة علاقاتها مع النظام المتورط بإخفاء 96 ألف مواطنٍ سوري بمراجعة حساباتها والتبرؤ منه في أسرع وقت ممكن لأنه نظام متعفن غير قابل للإصلاح.
وحول الآلية الأممية المعتمدة مؤخرا للمفقودين في سوريا، قال: من أبرز المفقودين هم المختفون قسريا لكن يضاف إليهم المفقودون وهم حالة أوسع، وتشمل من قتل ولا يعلم ذويه بذلك، وكل من غرق ولم يتم العثور على جثته، وغيرها من حالات مختلفة.
لكن القسم الأكبر من المفقودين في سوريا هم المختفون قسريا، وهو ما وثقته الشبكة السورية لحقوق الإنسان منذ 12 عاما، فقال عبد الغني: لدينا تسجيل 156 ألف ما بين معتقل أو مختف قسريا، من ضمنهم 112 ألف سوري-ة مختف قسريا.
في حين أن النظام السوري هو المسؤول الأول عن عمليات الاختفاء القسري بنسبة 86 في المئة من إجمالي المفقودين في البلاد، أي أن النظام مسؤول عن اختفاء 96 ألف سوري- ة، من بينهم نساء وأطفال.
فشل أممي في إنقاذ المفقودين
المجتمع الدولي وآليات الأمم المتحدة وكل الجهود الأخرى لم تنجح وفق عبد الغني في إطلاق سراح معتقل سوري واحد من سجون النظام السوري ولم تكشف مصير المختفين قسريا، وهو ما أدى وفق مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى فشل هذه الآلية وكامل الملف عبر كل العاملين فيه.
وأشار إلى أن الآلية الأممية التي صدرت مؤخرا للكشف عن مصير المفقودين في سوريا هي آلية قديمة تعود لشهر تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2011 ولكن تم تنفيذها في عام 2023 في حين أن العدد التقريبي للمختفين في أواخر عام 2011 في عموم البلاد كان قرابة 27 ألفا، غالبيتهم أصبحوا في عتاد المفقودين والمختفين قسريا على يد النظام وهي نسبة تقارب 98 في المئة.
كما أشار عبد الغني إلى الحاجة السورية لهذه الآلية الأممية الخاصة، والتي يتوقع منها مناصرة ملف المفقودين في سوريا، وتضعه على طاولة الحل السياسي، ووفق معادلة ألا يكون هناك أي حل سياسي بدون معالجة هذه القضية الشائكة، وضرورة إبرازها إلى الرأي العام، وجمع بيانات عن أوضاعهم ومصيرهم والتواصل مع ذويهم، وأن يكون عملها كمنصة تنسق بين المنظمات الحقوقية الدولية والسورية. ونوه المتحدث إلى ضرورة الشفافية في كشف قدرات الآلية الجديدة للأمم المتحدة بما يمكنها تنفيذه وتسليط الضوء على النقاط التي تستطيع تنفيذها، حتى لا تعيش العائلات السورية آمالا زائفة، ويتم تضخيم التطورات والمبالغة مما قد ينتج عنه أضرار لقضية المفقودين.
وقال: «الآلية الأممية لن تنجح في إطلاق سراح المعتقلين، وهو ليس من مهامها» وغالبا النظام السوري لن يتعاون معها، ولا حتى بقية أطراف الصراع، وبالتالي هذه الآلية لن تتمكن من كشف مصير المفقودين، وولايتها أيضا لا تنصح على محاسبة مرتكبي الانتهاكات في سوريا.
كما تتوفر آليات أممية بقدرات أعلى من الآلية الأخيرة، وعلى سبيل المثال «لجنة التحقيق الدولية» فإن ولايتها في قضية المعتقلين أعلى من ولاية الآلية الجديدة للأمم المتحدة للبحث عن المفقودين، علما أن لجنة التحقيق الدولية موجودة وقديمة ولكنها لم تنجح في تحقيق أي إنجاز بما يخص قضية المعتقلين السوريين، علما أنها تملك خيار التحقيق، وتحدد هوية الجهة الفاعل «النظام السوري، المعارضة، قوات قسد، تنظيم الدولة، وهيئة تحرير الشام» وكان بإمكانها تحديد نوع الجريمة كـ «جريمة حرب، انتهاك فظيع، أو جريمة ضد الإنسانية» ولكن رغم ذلك لم تنجح في إنقاذ أي معتقل أو تكشف مصير أي مختف قسرا، والسبب يعود لعدم وجود أي ضغوط حقيقية من المجتمع الدولي ضد النظام السوري.
أستانة حقوقية!
ليس من باب التشاؤم، تحركات الأمم المتحدة فيما يخص المعتقلين قد لا تختلف كثيرا عن نتائج مؤتمرات أستانة التي كان ملف المعتقلين من أحد الملفات التي تناقشها، ولم تحقق أي تقدم فيه، ومن جانب آخر تجزئة المسألة السورية بهذا الشكل «معتقلين، مخدرات وضبط الهجرة» هي لصالح النظام لأنها تمنحه أوراق تفاوض هو بالأساس متحكم بها ويتعامل معها ازاء المطالب الإقليمية أو الدولية بطرق ابتزازية.
وفي هذا الصدد، قال الباحث في مركز جسور للدراسات رشيد حوراني لـ «القدس العربي»: يمكن الضغط على النظام السوري من خلال ملفين، الأول قانوني، ويتمثل برفع الدعاوى القضائية أمام المحاكم الدولية المعنية لملاحقته بشأنهم.
أما الملف الثاني، فهو سياسي، ويمكن العمل عليه خلال رفض مشاركة ممثلي النظام السوري وعدم قبولهم في الهيئات الأممية إلى أن يبدي تجاوبا ملحوظا في التعامل بما يتعلق بالمسألة السورية بشكل عام والمعتقلين بشكل خاص.
ويمكن أيضا فتح قنوات اتصال معه بشأن إطلاق المعتقلين من خلال التشكيلات العسكرية للمعارضة السورية التي تأسر عددا من عناصر جيش النظام السوري، وكانت قد تمكنت من أسرهم خلال محاولات تقدمهم إلى المنطقة في شمال غرب سوريا.
وأشار الحوراني إلى معاناة من أبشع صور وأساليب التعذيب النفسي والجسدي، تصل إلى حد التصفية الجسدية. كما يعاني أهالي المعتقلين من عدم القدرة للوصول إلى أبنائهم المعتقلين ومعرفة مكان اعتقالهم في «أي فرع أمني» والاحتجاز من دون مذكرة توقيف.
آمال ضئيلة والعرب يدعمون الأسد
قال عضو مجلس نقابة المحامين الأحرار في حماة المحامي عبد الناصر حوشان لـ «القدس العربي»: الآمال حول المؤسسة الأممية المستقلة الخاصة للعمل على ملف المفقودين في سوريا أشبه بالمعدومة، كونها لا تتمتع بالصفة الإلزامية، وهذا مخرج للنظام للتهرب والتحايل على الإرادة الدولية.
مشيرا إلى إمكانية إحداث أثر أكبر للمؤسسة الأممية في حال تعززت مخرجاتها بقرارات صادرة عن مجلس الأمن الدولي في المدى المنظور، وفي ذات الوقت لا يمكن رفع سقف التوقعات كون مهمتها محصورة في الكشف عن مصير المفقودين في سوريا ومساعدة ذويهم في ذلك.
ورغم أهميّة إنشاء لجنة البحث والكشف عن مصير المختفين والمعتقلين قسريّاً والمفقودين إلا أن حصر عملها بالجانب الإنساني فقط، دون تحديد المسؤول عن جرائم الإخفاء القسريّ والاعتقال التعسّفي، والقتل خارج القانون، والقتل تحت التعذيب، سيكرر نفس الأخطاء التي ارتُكِبت عند إنشاء بعثة تقصي الحقائق التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية في عام 2014 والتي تم إنهاء تفويضها في عام 2017 وثم إنشاء آلية التحقيق المشتركة بين منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والأمم المتحدة، بموجب قرار مجلس الأمن الدولّي رقم 2235 لعام 2015.
ومن ثم إنشاء فريق التحقيق وتحديد الهوية في عام 2019 وهو مسؤول عن تحديد مرتكبي استخدام الأسلحة الكيميائية في الجمهورية العربية السورية.
الأمر الذي تسبب بمنح النظام السوري فرصة لطمس الأدلّة والتهرّب من المسؤوليّة عن كثير من الهجمات الكيميائية الأمر الذي اضطر الأمم المتحدة إلى إنشاء فريق التحقيق وتحديد الهوية التابع لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية.
أمّا إذا بقيت بتفويض من الجمعيّة العامة فإن قراراتها لن تكون ملزمة للنظام وإنما سيبقى له الحق برفض التعاون معها أو وضع شروطه الخاصّة للتعاون بما يحقق له أهدافه في التملّص من المسؤوليّة عن جرائم الاختفاء القسري، ويتيح له فرصة التلاعب بالأدلة والوثائق والبيانات، من خلال اللجان والمكاتب والمديريّات
وأشار حوشان إلى أن عزوف غالبية الدول العربية ما عدا قطر والكويت عن التصويت لصالح القرار، يأتي من مواقفهم السياسية تجاه النظام السوري وتوجههم نحو تطبيع العلاقات معه.
القدس العربي/حسام محمد
ADARPRESS #