مقالات رأي

تركيا بين اتفاقية لوزان الميثاق الملي

منذ المحاولة الانقلابية عام 2016، لا يوفر الرئيس التركي مناسبة إلا ويتحدث فيها عن أن تركيا ما بعد عام 2023 لن تكون كما قبله.

وكلما اقترب هذا الموعد زاد “أردوغان” من انتقاده لاتفاقية “لوزان” عام 1923، التي وقعت في سويسرا ورسمت الحدود الحالية للجمهورية التركية.

وبموازاة هذا الانتقاد لاتفاقية “لوزان” لا يتوقف “أردوغان” وقادة حزبه الحاكم “العدالة والتنمية” عن الحديث حول ضرورة العودة إلى الميثاق الملي “الوطني”، الرافض لحدود تركيا الحالية، والقول إن “لوزان أفقدت تركيا مساحات شاسعة من أراضيها ولا بد من استعادتها”.

ولعل هذا كان فحوى حديث الرئيس التركي في الرابع والعشرين من الشهر الجاري، أي في الذكرى الثامنة والتسعين لاتفاقية “لوزان”، عندما قال إن “النجاحات الحاسمة التي حققناها في مختلف الساحات، بدءا من سوريا وليبيا، مرورا بشرق البحر المتوسط، ووصولا إلى مكافحة الإرهاب، هي أوضح مؤشر على إرادتنا لحماية حقوق بلادنا”، وذلك في تأكيد منه أنه ينظر إلى المناطق، التي دخلتها تركيا في سوريا وليبيا وغيرها من الدول، على أنها تدخل في إطار “الحقوق التاريخية لتركيا”.

وسبق أن طالب الرئيس التركي صراحة خلال زيارته اليونان نهاية عام 2017 بتحديث اتفاقية “لوزان”، وسبق الزيارة تأكيده أن “لوزان” كانت “خسارة لبلاده”، عندما قال: “يريد بعضهم أن يقنعنا بأن معاهدة لوزان انتصار، أين الانتصار فيها؟ لقد خسرنا بعض جزُرنا في بحر إيجه لمصلحة اليونان.. مَن جلسوا إلى الطاولة في لوزان لم يتمكنوا من الدفاع عن حقوقنا”، في إِشارة إلى “أتاتورك” وتحميله المسؤولية.

ووقتها، فجّر حديثه هذا جدلا كبيرا في تركيا، إلى درجة أن البعض رد عليه بالقول إنه “لولا لوزان لما أصبحتَ رئيسا لبلدية إسطنبول ولاحقا رئيسا للجمهورية”، وذلك في إشارة إلى أن “لوزان” حفظت الحدود الحالية لتركيا بعد أن كانت معرضة للتقسيم عقب انهيار الدولة العثمانية إثر الحرب العالمية الأولى.

كانت اتقافية “سيفر” عام 1920 قد نصت صراحة على إقامة دولة كردية وأخرى أرمنية ضمن حدود تركيا الحالية، وقد تمكن “أتاتورك” من دفع الدول الغربية خلال اتفاقية “لوزان” إلى التخلص من بنود اتفاقية “سيفر” بهذا الخصوص، وهو ما يعده الأكراد “خيانة” غربية لتطلعاتهم وحقوقهم القومية، خاصة أن الحكومات التركية اللاحقة قمعت بالقوة عشرات الثورات والانتفاضات الكردية، وقد كان لافتا إصدار العشرات من المنظمات والهيئات الكردية في الذكرى السنوية لاتفاقية “لوزان” بيانات دعت فيها الأمم المتحدة وسويسرا ومعظم المنظمات الدولية الحقوقية إلى إعادة الاعتبار للبنود الواردة في اتفاقية “سيفر” بخصوص إقامة دولة كردية، والاعتراف بما أسمته “الإبادة العثمانية والتركية للأكراد” على غرار ما جرى للأرمن.

المفارقة هنا هي أن كلا من الأكراد و”أردوغان” يتفقان على انتقاد “لوزان”، لكن لكل زاويته.

وأتساءل: لماذا ينادي الرئيس التركي بالتخلص من “لوزان”؟

والجواب المختصر هو الروح الاستعمارية، إذ إن العدول عن “لوزان” والعودة إلى الميثاق الملي يعني العودة إلى احتلال تركيا أراضي شاسعة من شمال سوريا والعراق ومناطق من اليونان، بل إن تركيا تريد تطوير الميثاق الملي على شكل “عثمانية جديدة” تهدف إلى احتلال وتوسيع نفوذ تركيا في مناطق بليبيا ودول أخرى في الجوار الجغرافي، مثل شمال قبرص والقوقاز وغيرها من المناطق التي تعدها تركيا جزءا من أمنها القومي.

ولعل هذا ما يفسر النزعة العسكرية التركية في القوس الجغرافي الممتد من إدلب في شمال غرب سوريا إلى شمال العراق وإقليم كردستان، مرورا بمدن دير الزور والرقة والموصل وكركوك وصولا إلى السليمانية، إذ تتحدث تركيا عن “حقوق تاريخية” لها في هذه المناطق، ولسان حال الرئيس التركي يقول إما أن تكون هذه المناطق تحت نفوذ تركيا أو أن تقلب تركيا الحدود على أهلها، ما يوضح النزعة الاستعمارية التركية.

في التوقيت نفسه، لا يمكن فصل هذه النزعة التركية عما جرى في العالم العربي خلال العقد الماضي من تمردات وأحداث أمنية وفوضى، إذ تعتقد تركيا أن التطورات التي جرت في العالم خلال هذا العقد سنحت لحزب “العدالة والتنمية” الحاكم بإخراج أيديولوجيته من الغرف السرية إلى أرض الواقع، عبر استخدام جماعات الإسلام السياسي، وتحديدا الإخوان، لقلب المشهد السياسي في العالم، قبل أن تتلقى تركيا ضربة قاصمة لمشروعها الإقليمي في مصر، عندما انتفض الشعب المصري ضد حكم الإخوان في 2013، وصولا إلى ما يجري في تونس هذه الأيام من سقوط شعبي لحركة النهضة الإخوانية.

تتناسى تركيا أنها ليست قوة عظمى، وأنها دولة عاجزة عن حل أبسط مشكلاتها الداخلية، وعليه يمكن القول إن أوهام تركيا بالتخلص من اتفاقية “لوزان” لصالح العودة إلى الميثاق الملي، أي احتلال أراض سورية وعراقية وليبية، ليست سوى أوهام ولدتها الفوضى، فقضية تغيير الاتفاقيات الدولية أكبر من قدرة تركيا وحجمها وأحلامها، تلك الأحلام التي ورطت تركيا في حروب لا نهائية، إلى درجة ألا أحد يعرف كم حربا يحتاج إليها الرئيس التركي ليرمم شعبيته في الداخل ويفوز في الانتخابات المقررة في عام 2023، متجاهلا انهيار حزبه وتفككه، وتعالي الأصوات المطالبة في الداخل برحيله على وقع تفاقم الأزمات المعيشية وانهيار قيمة الليرة التركية مقابل الدولار.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى