العلماني والإسلامي في سوريا الجديدة
محمد حبش
إنه أكثر الأسئلة جدلاً في سياق الحديث عن سوريا الجديدة، ومع أننا لا نزال نعيش أسوأ واقع المأساة الإنسانية التي تسبب بها الاستبداد في سوريا، ولا يزال الخبز والماء والكهرباء حلماً يتمناه كثير من السوريين، ولا زال غيابه يحيل الحياة إلى جحيم، ولكن النزاع الإسلامي العلماني على أشده أيضاً، حيث يريد العلمانيون أن يحسموا من هذه اللحظة القطيعة الكاملة مع الدين في نص الدستور، ويريد الإسلاميون أن يفرضوا مزيداً من القواعد الدستورية للتأكيد على دور أكبر للفقه الإسلامي في التشريع.
هل المطلوب سوريا إسلامية أم علمانية؟
إن سؤالاً كهذا يفترض التناقض المسبق بين المنهجين، ولكن كاتب هذه السطور لا يفترض التناقض بين المنهجين، ويرى أن بالإمكان الاتفاق على منطقة وسطى جد كبيرة بين التيارين، تتأسس على قاعدة أنتم أعلم بأمور دنياكم، نعم قد يكون هناك تناقض في التفكير بين الفقيه والعلماني ولكنه ليس بالضرورة تناقضاً بين الإسلام والعلمانية.
وتريد هذه المقالة أن تؤسس لفهم يتجاور فيه الإسلامي والعلماني باحترام، ولا يشعر الإسلام أنه مهدد بسبب قيام العلمانية، ولا العلماني بأنه مغيب بسبب حضور الإسلام، فالإسلام والعلمانية منهجا حياة يمكن أن يعملا متجاورين يتعاونان فيما اتفقا فيه ويتعاذران فيما اختلفا فيه.
وبالقدر نفسه وبالمنطق نفسه، فألمانيا مسيحية علمانية فالحزب الحاكم هو الاتحاد المسيحي Christlich Demokratische Union Deutschlands، وفي بريطانيا فإن الملكة هي رأس الكنيسة الأنغليكانية، حيث للدولة دين ومذهب وبطريرك، وهناك 21 دولة أوروبية ترفع على علمها صورة الصليب، وبعضها ترفع صليبين وفي الحالة البريطانية أربعة صلبان، وكلها دول علمانية ومسيحية في الوقت نفسه، يعيش فيها المسلم واليهودي والبوذي بكرامة، حيث يعتبر عموم المواطنين فيها أن الدولة هي حامية الإنسان وقيم الأديان.
بالطبع ففي كل هذه الدول تيارات علمانية متطرفة تطالب بإلغاء الدين وتغيير العلم، وتيارات دينية تطالب بشروط لاهوتية في الدولة تخنق العلمانية، ولكن الديمقراطية تحدد المتطرفين دوماً في هوامشهم الضيقة، فيما يبقى السواد الأعظم من الناس منطقيين وديمقراطيين.
في سوريا مئات المفكرين يتبنون مقولة الدين لله والوطن للجميع، وهي مقولة صدح بها بعمامته الحمراء قبل قرن وربع المفكر الكبير الشيخ عبد الرحمن الكواكبي، وهو خطاب يصنف في تيارات “داعش” وتوابعه على أنه خطاب كافر، وللأسف فهو أيضاً ما يكرره رجال دين كثير، وقد سمعته مراراً من أساتذتنا في الشريعة في سياق هجومهم المستمر على العلمانية.
ليس المقصود بالطبع عقد زواج الإسلام على العلمانية، فالمنطقان متباينان ولكنهما ليسا بالضرورة متحاربين، وتحت عباءة العلمانية ينشط مفكرون كثير يعرفون الله ورسوله وكتابه، وربما كانوا أكثر التزاماً بالإسلام وقيمه، وفي ساحة عرفات يمكنك أن تلتقي مئات الآلاف من الحجاج الذين ينتمون إلى أحزاب علمانية، وربما من المؤسسين لها والمدافعين عن منطلقاتها، فأين هو مكان هؤلاء لدى أعداء العلمانية؟.
لم يتمكن الأتراك من ترشيد علمانيتهم إلا بعد أن دفعوا ثمناً غالياً، وحصدوا سلسلة انقلابات صادمة، ولا زال في الذاكرة مشهد المحاولة الأولى التي قام بها عدنان مندريس بهدف تصحيح الهوية التاريخية لتركيا ولكن المحاولة انتهت بالإخفاق حين قام العسكر بسحق الديمقراطية الوليدة وتسليم مندريس إلى مصيره الدموي، ومني المشروع الإسلامي بالإخفاق المرير، وبدا كما لو أن أي مساس بالقيم الأتاتوركية لن يأتي بأي أمل أو نور، وأحيل أربكان إلى المحاكمة ومنع من العمل السياسي، وجن جنون العلمانية الهائجة حين دخلت مروة قاوقجي إلى البرلمان بحجابها، ولم يستطع العسكر من القيام بمنعها من دخول البرلمان بل ذهبوا إلى حد نزع الجنسية التركية عنها، في سابقة مرعبة، وكانت خلاصة جريمتها أنها دخلت البرلمان بحجابها وهي معتصمة بملايين الأتراك الذين انتخبوها لتكون صوتاً لهم في البرلمان.
لست علمانياً، وأنا أناضل من أجل إقناع العلمانيين بثراء الفقه الإسلامي، وعلمية المنطق الإسلامي، والتركيز على هوية البلد الإسلامية ومركزيتها عاصمة للروح والإيمان في الأرض، وأهاجم بالتالي المنطق العلماني المتطرف الذي يرى في الحجاب على سبيل المثال قضية تهز العلمانية، وفق ما اختارته صحيفة نيويورك تايمز عنوان غلاف: to veil or not to veil ، ولكنني مع ذلك أشعر بالمرارة من الحروب التي يشنها بعض الأصدقاء على العلمانية على أنها مشروع إلحادي كافر يزدري الأديان ولا يؤمن بالديان.
لست هنا من أجل أن أشرح العلمانية أو أفسر معانيها أو اشتقاقاتها، ولكنني معني فقط بالدفاع عن أبناء وطني الذين يختارون العلمانية حلاً سياسياً لمشاكل الحياة، وهي بالتالي رسالة مزدوجة فبقدر ما نهتم بإظهار تسامح الإسلام وقبوله للآخر بقدر ما نطالب العلمانيين أيضاً أن يدركوا أنهم غير مخولين بتحديد شروط المواطنة، وأن إساءات العلمانية من قبل أتباعها ليست أقل من الإساءات التي وجهها جاهلون متطرفون لروح الإسلام المتسامحة، فكما أنه ليس من حق الأصوليين احتكار السماء فإنه ليس من حق العلمانيين احتكار الأرض.
من وجهة نظري فهذا السلوك هو المكافئ الموضوعي لما قدمه قبل نصف قرن روَّاد الإسلام السياسي حين افترضوا التناقض الحتمي بين الإسلام والديمقراطية وأطلقوا على الأولى اسم شريعة الله وعلى الثانية اسم شريعة الطاغوت!.
السؤل الآن: لماذا يختصر كثير من قادة الخطاب الإسلامي رسالتهم في شن الحرب على العلمانية، واختصار العالم بين خندقين خندق العلمانية الفاجرة وخندق الفقه الإسلامي؟.
والسؤال بنفس القدر لدعاة العلمانية العرب الذين لا يرون أولوية أهم من مواجهة الشارع الإسلامي وابتكار أشد صيغ الازدراء قسوة ضد مصطلح الإسلام السياسي بكل حمولاته.
الليبرالية والعلمانية والإسلام السياسي والاستعلاء القومي كلها تيارات سياسية موجودة في الأمم كلها، وأي محاولة لإلغاء واحد منها هو شكل من الإقصاء الذي سينعكس حتماً غضباً وتطرفاً.
إن الإيمان شرط لدخول الجنة ولكنه ليس شرطاً لدخول الوطن، فالدين لله والوطن للجميع، كما أن الإسلام ليس هنا محض قطعة من الثقافة، إنه هوية الوطن وتاريخه، وملح أرضه، ومن واجب التيار العلماني أن يدرك هذه الحقيقة، وعلينا أن نحقق المواءمة الصحيحة بين القيم الإسلامية والشرط الديمقراطي، وبالتالي أن نناضل لبناء حياة ديمقراطية عادلة في ضياء القيم الدينية النبيلة، التي هي في النهاية أنجح مشوار كفاح خاضه العرب من أجل العدالة والحب والخير