مؤتمر بروكسل لدعم سوريا: قضايا شائكة حول “التعافي المُبكر”إ
إن التوافق بين جهود “التعافي” و”التحالف الدولي” يتطلب نهجاً شاملاً يعطي الأولوية للأمن والاستقرار الاقتصادي والتماسك الاجتماعي.
درجت العادة في مؤتمرات بروكسل لدعم سوريا على عقد اجتماع وزاري عقب “الجلسة الحواريّة” مباشرة. لكن في نسخته الثامنة التي عُقدت نهاية الشهر الفائت، تم تأجيل الاجتماع الوزاري الذي من شأنه حشد الدعم المالي الحيوي لتخفيف أزمة السوريين في جميع أنحاء العالم، إلى يوم 27 مايو/أيار الجاري. أثار هذا التأجيل مخاوف عديدة بين السوريين من أن الحروب في أوكرانيا وغزة قد تلقي بظلالها على الحاجة الملحة لمساعدة اللاجئين السوريين.
واقعياً، لم تعد سوريا ضمن أولويات الأطراف الدوليّة الفاعلة، حيث تم تهميش القضية السورية بسبب طبيعة الأزمة التي تبدو مستعصية. كما فشلت المسارات التفاوضية، بما فيها مؤتمر “جنيف” منذ انطلاقه عام 2012، في وضع حدٍ لمجمل الانهيارات الاقتصاديّة والأمنية والاجتماعية الشاملة، ومواجهة التدخلات الخارجية في الشئون السورية ، ولعل هذه الأمور مجتمعة أدت إلى تغييرٍ في استراتيجية “الداعمين والمانحين” والتحول تالياً من صيغة “إعادة الإعمار” إلى “التعافي المبكر” خلال الأعوام الثلاثة الماضية.
الاتفاق الأول بين الدول المانحة لزيادة مساعدات “التعافي المبكر” بدأ في مؤتمر بروكسل السادس عام 2022 كنهج للانتقال من الاعتماد على الإغاثات الإنسانيّة، إلى الاعتماد على الذات من خلال إعادة تشغيل الاقتصادات المحليّة، وتنمية الخدمات العامة، للحدّ من الأزمة التي يعيشها السوريون، مع تنامٍ مرعبٍ في نسبة “الفقر”، حيث يعيش 90 بالمئة من الشعب السوريّ تحت خط الفقر، لاحقاً تم التركيز أكثر على هذا النهج في مؤتمر بروكسل السابع، خصوصاً بعد زلزال 2023 مع التأكيد المستمر على ضرورة إيجاد حلٍّ مستدام “للأزمة”، بينما في المؤتمر الثامن الأخير تم التركيز بشكل كبير على “نهج التعافي المبكر”.
إلى الآن لا تتوفر مرجعية دقيقة وواضحة لآلية ونسب توزيع المساعدات في المناطق السورية المختلفة. رغم ذلك، عملت منظمات دولية ومحلية، في إطار نهج “التعافي المبكر”، على دعم بعض المشاريع الصغيرة أو تقديم منح “مالية ” لتوسيع مشاريع أخرى، لكن في المجمل يصعب الحديث عن نجاح أو فشل هذا النهج أو حتى إجراء مقارنات مع عملية “إعادة الإعمار”، مقابل ذلك يمكن القول بأن العمل على النهجين لم يتم بالشكل المتوقع منه.
ثمة معضلات تواجه نهج “التعافي المبكر”، إذ يعتمد على النهوض بالأعمال التجارية القائمة والاقتصادات المحلية في المناطق التي تفتقر حتى إلى أبسط الخدمات الأساسية، علاوة على أن هذا المصطلح يفتقر لتعريفٍ دقيقٍ وموحّد. ورغم محاولات عدم تسييسه والعمل به ليصبح حلاً عمليّاً، إلّا أن السؤال المطروح هنا: عما إذا كان نهج “التعافي المبكر” قابل للتطبيق ومدى فاعليته في مواجهة التحديات التي تواجهها سوريا.
صندوق ومركزيّة “التعافي المبكر”: حيث تسعى الأمم المتحدة إلى إنشاء صندوق للتعافي المبكر للسماح للداعمين غير التقليديين كدول الخليج بتقديم الدعم لسوريا. من الناحية العملية، جرت غالبية عمليات توزيع مساعدات المانحين من خلال منظمات دولية تقوم بدورها بإعطاء المنح للمنظمات المحلية في مختلف المناطق السورية، إلا أنه يمكن لصندوق التعافي المبكر العمل بآلية معاكسة، وذلك من خلال تقديم المنح بشكل مباشر للمنظمات المحلية المستهدفة مع مراعاة الدور الكبير للمنظمات الدولية الفاعلة في الشأن السوري.
ولكن حتى الآن لم يتضح بعد مقر هذا “الصندوق”. بالتزامن مع سعي روسيا لإنشائه في دمشق ليتوافق ذلك مع خطة تدخلها في سوريا، بتعويم النظام السياسيّ القائم، واستغلال ذلك للمضي في مسار تطبيع علاقات دمشق مع الدول العربية والأجنبية، وربما يلعب النظام على هذه النقطة كثيراً، سيما مع إصرار الأمم المتحدة في العمل عبر دمشق، وعليه، فإن تمكنت موسكو من تحقيق ما تسعى إليه بهذا الصدد فإنّ باقي المناطق السوريّة ستُحرم جزئياً على الأقل من وصولِ المساعدات إليها، خصوصاً أن النظام السوريّ يمتلك سجلاً حافلاً في سياسة الاحتكار واقتطاع المساعدات لمواليه، واستخدامها كورقة ضغط سياسية لصالح أجندته.
لذا فإن البحث في خيارات أخرى تأتي كأولوية ملحة، ولعل إنشاء مقر للصندوق خارج سوريا، مع ضمان عدم تسييسه في دولة مجاورة يبقى الخيار الأفضل، لكن هذا الخيار أيضاً يحتم التفكير بالدولة الأنسب، خاصة أن الجهات الفاعلة في البلدان المجاورة لسوريا لها أجندتها الخاصة ولن تقوم بتوزيع المساعدات بطريقة عادلة. على سبيل المثال، في حال إنشاء الصندوق في لبنان مثلاً، حيث يتحكم “حزب الله” بالمشهد اللبناني العام، سيتم تحويل المساعدات إلى النظام وحلفائه. وكذلك الأمر سيتم حرمان مناطق شمال وشرقي سوريا، من المساعدات إن تم إنشاء الصندوق في تركيا مثلاً، نظراً للعلاقة العدائية بين أنقرة وقوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد. وفي الواقع، قد يكون الأردن الدولة “المحايدة” الوحيدة القادرة على توزيع المساعدات بطريقة عادلة، مع ضمان عدم تسييس عملية توزيع المساعدات، أو البحث عن حلولٍ غير مركزيّة، بحيث يكون المقر الرئيسي للصندوق في الأردن، وإنشاء مراكز فرعية في مناطق النفوذ الرئيسية (النظام، المعارضة، قوات سوريا الديمقراطية).
على الرغم من أن إنشاء شبكة مساعدات غير مركزية وغير مسييسه في الأردن قد يخفف الكثير من المخاوف المتعلقة التوزيع، إلا أن هذا النهج لا يقدم الكثير لمعالجة تهديد الإرهاب والجماعات المسلحة على الأرض في سوريا، حيث يتعرض المدنيون وعمال الإغاثة الذين يعملون في المنطقة للعنف والتطرف. كما تواصل فلول “داعش” والميليشيات المدعومة من قبل إيران القتال في شرق سوريا، علاوة على تصاعد العنف بشكل كبير بسبب الحرب في غزة، حيث بدأت الميليشيات المدعومة من إيران في مهاجمة القوات الأمريكية في سوريا. وقد وفرت الفوضى التي لا تنتهي فرصة جديدة لتنظيم “داعش”، الذي زاد من نشاطه في الأشهر الأخيرة. ولأجل ذلك
يبدو من الضروريّ أن تتوازى مساعي “عملية التعافي المبكر” مع جهود التحالف الدوليّ لمحاربة “داعش” لضمان نجاح إيصال المساعدات للمناطق المتضررة من هجمات التنظيم أولاً، وتحقيق أهداف الصندوق ثانياً.
على أرض الواقع عملت منظمات دولية ومحلية خلال الأعوام السابقة على تنفيذ مشاريع ضمن إطار “التعافي المبكر” في المناطق التي ما تزال التنظيمات المتطرفة تُشكل فيها تهديداً على المجتمع وخاصةً مناطق شمال وشرق سوريا، حيث كان” تنظيم داعش” يسيطر على مجمل محافظتي الرقة ودير الزور. كما ركزت تلك المنظمات على تنفيذ مشاريع في سياق “إعادة التأهيل والدمج” لعناصر أو عائلات عناصر كانوا ضمن صفوف التنظيم عبر إعادة دمجهم في المجتمعات المحلية، ودعمهم لإنشاء مشاريع صغيرة. كما تم دعم مشاريع مجتمعية تهدف إلى تقوية الاقتصاد المحلي، ولكن كل تلك المشاريع لا تمثل إلا جزءاً بسيطاً مما يجب تقديمه في تلك المناطق على وجه الخصوص، إذ يتطلب جهود نهج “التعافي” وجهود إعادة الاستقرار عبر القنوات المحلية والتحالف الدولي تنسيقاً شريطة عدم تدخل العسكر والأطراف السياسية بالعمل الإغاثي والإنساني.
على سبيل المثال في المناطق التي يتم فيها رصد نشاط لبقايا عناصر “داعش” لا يمكن الاكتفاء باعتقالهم من ثم وضعهم في مراكز الاحتجاز، إنما العمل أكثر في تلك المناطق في سياق التوعية من جهة، وتحقيق الاكتفاء الذاتي للمجتمعات المحلية من جهة أخرى. بالتالي فإن التوافق بين جهود “التعافي” و”التحالف الدولي” يتطلب يتطلب نهجاً شاملاً يعطي الأولوية للأمن والاستقرار الاقتصادي والتماسك الاجتماعي. ومن ثم، يمكن تحقيق تلك الأهداف من خلال تقديم دعم أكبر لتقوية الاقتصاد المحلي واستدامته، وتأهيل المجتمعات المستهدفة وتقديم الاستشارات لها فيما يخص قضايا الحوكمة والإدارة المدنية وعدم تهميشها سياسياً، وكل ذلك لئلّا تستغل الجماعات المتطرفة أي ثغرة في الوضع الاقتصادي أو السياسي بالإضافة إلى حالة الاستقرار، بحيث يتم قطع أي طريق أمام إعادة إنتاج “الإرهاب”.
في العموم تركز أهداف “التعافي المبكر” بشكلٍ كبيرٍ على دعم الخدمات المحليّة والانتقال إلى مرحلة تفعيل الاقتصاد الداخليّ والقطاع العام. لكن هذه الأهداف شبه مستحيلة التحقيق ما لم يتحقق الاستقرار، وإن جزئيّاً، في كافة المناطق السوريّة وضمان سهولة الانتقال بينها. فاستمرار روسيا باستهداف مناطق شمال غرب سوريا، وإصرار تركيا على مواصلة استهداف مناطق شمال وشرق سوريا والبنية التحتيّة ومصادر الطاقة فيها، سيعيقُ أيّ تقدمٍ نحو عملية التعافي، وبالتالي ستبقى هذه المناطق معرّضة دائماً لفقدان الخدمات الأساسيّة عدا صعوبة حصولها على المساعدات الضرورية، ولذلك يتوجّب أن تشمل عملية التعافي مساعٍ سياسيّة دوليّة للضغط على كافة الأطراف لضمان عدم التصعيد، وضرورة تجنيب المدنيين، والبنى التحتيّة أيّ استهداف.
ابراهيم مراد
ADARPRESS #