في عداء تركيّا للانتخابات المحلّيّة للإدارة الذّاتيّة
جميل رشيد
عاودت تركيّا تصعيد اعتداءاتها وهجماتها على مناطق الإدارة الذّاتيّة، في شمال وشرق سوريّا، عبر استهداف مواقع عسكريَّة ومدنيَّة، لتوقِعَ عدداً من الضحايا، في الوقت الذي تتحضَّر فيها الإدارة لإجراء الانتخابات المحلّيّة، ولأوَّل مرة منذ تشكيلها عام 2018.
التَّهديدات التُّركيّة ضُدَّ الإدارة الذّاتيّة لم تتوقَّف منذ تأسيسها، ولكنَّ الرَّئيس التُّركيّ صَعَّدَ من لهجته مع قُرب موعد الانتخابات المحلّيّة، مهدِّداً بإفشال العمليَّة الانتخابيَّة، ومطالباً دمشق بـ”التَّعاون معها”. ولكن هل يمكن أن يذهب الرَّئيس التُّركيّ بعيداً ويوسِّعَ من نطاق هجماته، ويؤثِّرَ على الانتخابات، رغم وجود عِدَّةِ مؤشِّرات في الأفق بقرب حدوث تحوّلات وانفراجات عديدة تدفع نحو حَلِّ الأزمة السُّوريّة، أو على الأقلِّ وضعها على سِكَّةِ الحَلِّ؟
مساحة المناورة لدى الرَّئيس التُّركيّ بدأت تضيق، بعد الهزيمة المُدوّية التي مُنِيَ بها في الانتخابات المحلّيّة الأخيرة في تركيّا وباكور كردستان خلال شهر مارس/ آذار الماضي، وتراجعت حظوظ حكومته الإئتلافيَّة مع حزب الحركة القوميَّة الفاشيّ في الاستمرار، وبات أردوغان يبحث عن حلفاء جُدَد له ضمن صفوف المعارضة، خصوصاً مع حزب الشَّعب الجمهوريّ ورئيسه الجديد، في ظِلِّ الأزمة الاقتصاديَّة والماليَّة الخانقة التي تَمُرُّ بها تركيّا، وتدهور شعبيَّته إلى أدنى المستويات. فعاد مَرَّةً أخرى ليبحث عن حلول لأزمة حزبه وبلاده خارج حدود بلاده، ويلعب على الوتر القومويّ – الدّينيّ التُّركيّ، الذي طالما كان الطريق الأسهل لاستعادة حضوره الجماهيريّ، عبر إطلاق الخطب الشعبويَّة المُبتَذَلة، المُحرِّضَة للشُّعور القومويّ والدّينيّ ضُدَّ الكُرد، وكأنَّ مصدر كُلَّ أزماته هو من باشور/ جنوب كردستان وروجآفا وشمال وشرق سوريّا، فتجده يُضخِّم من خطر الانتخابات المحلّيّة، ويعتبرها مدخلاً لـ”الانفصال” عن سوريّا، في كذبة ممجوجة باتت لا تقنع أيَّ عاقلٍ.
يسعى أردوغان إلى تحويل مناطق الإدارة إلى ساحة مشتعلة، ولتصفية حساباته السِّياسيّة الدّاخليّة والخارجيّة مع خصومه، وإعادة ترميم صفوف مرتزقته، وينظر إليها – أي مناطق الإدارة – وكأنَّها الخاصرة الرخوة، يستطيع بأي وقت شاء أن يمارس فيها القتل والدَّمار والخراب، مدفوعاً بنوازعه العدائيّة والنَّرجسيَّة، وكأنَّها منطقة مستباحة ولا يَملُكُ من يديرها ويدافع عنها أيَّ أدوات ووسائل لردعه وجعله يتراجع عن غَيّهِ وجبروته المنفلت عن عقاله. فأردوغان يحاول فرض وقائع جديدة قبيل الانتخابات وبعدها، بل يسعى لأن تكون انتخابات تحت النّار والدَّمار والخوف، وهذا ديدن سياسته في سوريّا منذ بداية تدخّله فيها.
تباينت ردود الفعل حول الانتخابات المحلّيّة المُقرَّر إجراءها في الحادي عشر من الشَّهر الجاري. وبعيداً عن الموقف العدائي التُّركيّ المكشوف، جاء موقف الخارجيّة الأمريكيَّة أيضاً ضبابيّاً، حيث أعلن المتحدّث باسمها بأنَّ الوقت لم يحن بعد لإجراء الانتخابات، ليعزو أنَّ أيَّ انتخابات في سوريّا مرتبط بمدى تطبيق القرار الأمميّ 2254، وهو في هذا يتناغم مع الموقف التُّركيّ نوعاً ما، واستفادت تركيّا من هذا الموقف في رفع لهجة تهديداتها ضُدَّ الإدارة والانتخابات. فيما لا يزال كُلٌّ من الكونغرس والبيت الأبيض والبنتاغون يلتزم الصَّمت. فبات معروفاً لدى الرَّأي العام أنَّ الخارجيّة الأمريكية دائماً تميل للمواقف التُّركيّة، حيث لعب مبعوثها السّابق إلى سوريّا عام 2019 “جيمس جيفري” دوراً عدائيّاً ضُدَّ الإدارة الذّاتيّة ومسانداً للمواقف التُّركيّة. بالتَّزامن مع موقف الخارجيَّة؛ شدَّدت وزارة الدِّفاع الأمريكيَّة (البنتاغون) على استمرار شراكتها مع قوّات سوريّا الديمقراطية في محاربة الإرهاب، وهذا يعكس تناقضها مع الخارجيّة، حيث كان الأحرى بالأخيرة أن تنأى بنفسها عن الوقوع في المستنقع التُّركيّ، وألا تنساق وراء المطامع التُّركيّة في سوريّا، وتلعب دورها كممثّلة لدولة عظمى لها وزنها السِّياسيّ والعسكريّ والاقتصاديّ في معظم القضايا والملفّات الدّوليّة والإقليميَّة، وخاصَّةً أنَّها لا تزال تمسك بخيوط اللّعبة السِّياسيَّة في سوريّا.
التَّهديدات التُّركيّة المُبطَّنة والعلنيَّة ضُدَّ الإدارة، من جانب آخر تستجدي الحكومة السُّوريّة وتحفّزها لمناصبة الإدارة العداء، وتَحُثُّها على ضرورة التحرّك العاجل لإفشال الانتخابات المحلّيّة للإدارة، في محاولة لتعويم عدائها للإدارة الذّاتيّة، بعد أن وجدت نفسها وحيدة، ما عدا جوقة المرتزقة “السّوركيّين” التّابعين لها من جماعة “الإخوان المسلمين” وما تُسمّى “الحكومة المؤقَّتة”.
إلا أنَّ الحكومة السُّوريّة لا تزال تتّخذ موقف الصمت حيال انتخابات الإدارة، فيما صدرت بعض المواقف غير الرَّسميَّة من أشخاص محسوبين عليها، وكانت بمجملها حياديَّة نوعاً ما. وقد يكون لزيارة وفد من الإدارة الذّاتيّة ومجلس سوريّا الدّيمقراطيَّة إلى دمشق قبل أسابيع، أثر على موقف دمشق، ومن غير المستبعد أن يكون الجانبان قد توصلا إلى تفاهمات معيَّنة بخصوص بعض الملفّات، خاصَّةً أنَّ الأخيرة أيضاً مُقبِلة على إجراء انتخابات برلمانيَّة “مجلس الشَّعب” خلال الأيّام القادمة. والحديث الذي نقلته صحيفة “إندبندنت العربيَّة” عن الرَّئيس السُّوريّ بشّار الأسد أثناء الانتخابات الدّاخليَّة التي أجراها حزب البعث، بأنَّه لن “يتعامل مع الإدارة الذّاتيّة بمنطق القوَّة العسكريَّة، وأنَّه خلال أشهر وليس سنوات سيتوصَّل معها إلى تفاهمات واتّفاقيّات”، يمكن تفسيره على أنَّ توافقات ما قد جرت بينهما.
حديث الرَّئيس الأسد يقطع الطريق على أيَّ محاولات تركيّة لإعادة سوريّا إلى المربَّع العنفيّ الأوَّل وتكثيف هجماتها واعتداءاتها على مناطق شمال وشرق سوريّا. وتصريح وزير الدِّفاع التُّركيّ “ياشار غولر” قبل أيّام بأنَّ بلاده مستعدّة للانسحاب من الأراضي السُّوريّة، بعد التوصّل إلى حَلٍّ دائم في سوريّا، وضمان أمن حدودها، هو حديث حمّال للأوجه ويمنح بلاده فترة أطول لاحتلال الأراضي السُّوريَّة. ورغم أنَّه يلمح إلى فترة غير محدَّدة للانسحاب؛ إلا أنَّه في ذات الوقت يدعو الحكومة السُّوريّة إلى نشر قوّاتها على الحدود المشتركة بينهما، ويطلب مساعدتها في الإجهاز على تجربة الإدارة الذّاتيّة.
روسيّا وإيران أيضاً لم يصدر عنهما أيّ موقف معارض علنيّ وواضح حيال الانتخابات، رغم أنَّ الأخيرة مشغولة في ترميم جراحها بعد مقتل رئيسها ووزير خارجيتها، إلى جانب تحضيراتها لانتخاب رئيس جديد لها في الخامس والعشرين من الشَّهر الجاري، فظلَّت تركيّا وحيدة تعادي تجربة الانتخابات وكأنَّها تنفخ في قُربَةٍ مثقوبة، وتحاول أن تدخل في حروب دونكيشوتيَّة ضُدَّ الكُرد والإدارة الذّاتيّة. فبعد زيارة أردوغان إلى كُلٍّ من بغداد وهولير/ أربيل، وعدم تمكّنه من نيل موافقة الحكومة العراقيَّة لإشراكها في حربها ضُدَّ حزب العُمّال الكُردستانيّ في باشور/ جنوب كردستان، واستبعدت هولير من مشروع “طريق التَّنمية”، ولجوء الأخيرة إلى إيران، كردِّ فعل على الموقف العدائيّ لتركيّا، وإمكانيَّة حصول تقارب بين الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ وحزب العُمّال الكُردستانيّ، لم يعد أردوغان يملك القدرة السِّياسيَّة في شَنِّ عدوان واسع على مناطق الإدارة الذّاتيّة وكذلك على باشور كُردستان، وهو ما كشف عنه وزير دفاعه بأنَّه “ليس لديهم أيّ تحضيرات لشَنِّ هجومٍ برّيٍّ”، وأنَّ قوّاته “ستواصل ضرباتها الجوّيَّة”. وهذا يعني أنَّ الضربات محدودة المكان والزمان، هدفها تخفيف الضغوط السِّياسيّة والاقتصاديَّة التي يتعرَّض لها أردوغان وحكومته.
الثّابت أنَّ الانتخابات المحلّيّة في مناطق الإدارة الذّاتيّة ستجري في موعدها الذي حدَّدَته المفوضيَّة العليا للانتخابات، بعد أن استكملت جميع تحضيراتها الفنّيّة والتِّقنيَّة، وأنَّها – أي الانتخابات – لن تتأثَّرَ بالتَّهديدات التُّركيّة ولا تُعيرها أيَّ اهتمام، بل كُلُّ المؤشِّرات تؤكِّد أنَّ لجاناً مراقبة دوليَّة ستُشرف على حُسن سَير هذه الانتخابات، حيث نُقِلَت أنباء عن حضور السَّفيرَين الأمريكيّ والفرنسيّ في سوريّا هذه الانتخابات. وما يضفي عليها المشروعيَّة أكثر؛ أنَّ كيانات حزبيَّة ومدنيَّة تشارك فيها، رغم أنَّ بعضاً منها كانت حتَّى قبل الانتخابات تُبدي مخاوفَ من الانخراط في مؤسَّسات الإدارة الذّاتيّة.