تهافت أردوغان للانقلاب على نتائج انتخابات البلديات
جميل رشيد
تشهد تركيّا توتُّراً سياسيّاً غير مسبوق، بعد أن طوى التَّحالف الحاكم (حزب العدالة والتَّنمية وحزب الحركة القوميَّة)، صفحة “المصالحة” الدّاخليَّة، واستتباب الأمن، ولو بشكل نسبيّ، بعد الانتخابات المحلّيّة، ليشرع بانقلاب سياسيّ جديد – قديم، انتقاماً للهزيمة التي مُنِيَ بها في الانتخابات.
عاد أردوغان وحزبه للعمل بالمثل القائل “حليمة رجعت لعادتها القديمة”، فلم يكد يَمُرُّ شهران على الانتخابات المحلّيّة، حتّى عمد إلى الانقلاب على نتائجها، وإقالة رؤساء عدد من البلديّات المنتخبين من قبل الشَّعب، وتعيين وكلاء (قيوم) من حزبه أو المحسوبين عليه بدلاً منهم، في انتهاك فاضح لما يدَّعيه النِّظام التُّركيّ “الدّيمقراطيَّة”، عبر تلفيق التُّهم الواهية التي لا أساس لها من الصحّة في الواقع. فتهمة الانتماء إلى حزب العُمّال الكُردستانيّ أو القيام بأعمال الدِّعاية له، باتت شمّاعة يُعلِّقُ عليها أردوغان وحزبه كُلَّ أوزاره، وحالما يجد من يعارض قوانينه الخنفشاريَّة الجائرة، والبعيدة حتّى عن القوانين التي وضعها هو وحزبه، حتّى يلصق التُّهمة به.
كشَّرَ أردوغان عن أسنانه بعد يوم واحد من الانتخابات، عندما حاول تعيين مرشّحه المهزوم في الانتخابات بمدينة “وان”، بدلاً من الفائز من حزب “المساواة والدّيمقراطيَة للشُّعوب/ DEM”، “عبد الله زيدان”، ولكن إرادة الشَّعب الكُرديّ والتُّركيّ، وكذلك مواقف الأحزاب المعارضة التُّركيَّة، وخاصَّةً حزب الشَّعب الجمهوريّ ورئيسه السّابق كمال كليجدار أوغلو، وكذلك بعض الأصوات المعارضة من داخل حزب العدالة والتنمية، في رفض تعيين “القيّوم” بدلاً من الفائزين بشكل ديمقراطيّ في الانتخابات، والمظاهرات التي انطلقت في جميع المدن الكُرديَّة، حالت دون تمكُّن أردوغان من تعيين “القيّوم”.
عاد أردوغان إلى ممارسة سياسة العداء لكُلِّ مُنجَزٍ ومَكسَبٍ كُرديٍّ، وفي أيّ جزء من كردستان، حيث أقال رئيس البلديَّة المنتخب بشكل قانونيّ وديمقراطيّ في مدينة “جولميرك/ هكّاري”، “مُحمَّد صادق آكيش”، وعيَّن محافظ المدينة “علي تشيليك” والذي ينتمي إلى حزب العدالة والتَّنمية رئيساً للبلديَّة، ووجَّهت لـ”آكيش” تهمة الدّعاية والتَّحريض لحزب العُمّال الكُردستانيّ، رغم أنَّ “آكيش” حصل على 49% من الأصوات مقابل 46.60% لـ”تشيليك”، علماً أنَّه في هذه الحالة، وبعد أن عيَّن “القيّوم”، لا يمكن أن تُجرى جولة إعادة الانتخابات من جديد، بل يتسلّم المحافظ إدارة شؤون البلديَّة إلى حين حلول موعد الانتخابات الجديدة بعد خمس سنوات.
ردود الفعل من قبل الأحزاب والتيّارات السِّياسيَّة الكُرديَّة والتُّركيَّة، وكذلك الشَّعبيَّة القويَّة، رفضت بشكل مطلق إقدام أردوغان والحزب الحاكم ممارسة سياسة الانقلاب على نتائج الانتخابات، واعتبرته “انقلاباً على الدّيمقراطيَّة في تركيّا”. فيما عبَّر النّاخبون في “جولميرك” عن رفضهم عبر النُّزول إلى السّاحات والشَّوارع، والتمسُّك برئيسهم المُنتخَب من قبلهم. إلا أنَّ الحزب الحاكم ومن خلال سطوة السُّلطة وديكتاتوريّتها المفرطة في ممارسة أسلوب كَمِّ الأفواه وقمع كُلِّ من يعارضها، وعدم الإنصات لمطالب الجماهير المنتفضة في مدن كُرديَّة عديدة، يحاول فرض الوقائع عن طريق القوّة، وفقط القوَّة.
قرار أردوغان بتعيين “القيوم” في عدد من المدن الكردية، جاء عقب فوز حزب “المساواة والدّيمقراطيَّة للشعوب” برئاسة ومجالس البلديّات في معظم المدن الكُرديَّة، في ظِلِّ التَّصعيد السِّياسيّ والأمنيّ ضُدَّ الكُرد وممثّليهم، خاصة بعد صدور أحكام بحقِّ عدد من قيادات حزب الشُّعوب الدّيمقراطيَّة السّابق من أمثال رئيسه السّابق “صلاح الدين دميرتاش” والسِّياسيّ الكُرديّ المشهور ورئيس بلديَّة “ماردين”، “أحمد ترك” وعدد آخر من السِّياسيّين، في الدَّعوى التي أطلق عليها النِّظام التُّركيّ اسم “قضيَّة كوباني”. والأحكام الجائرة الصادرة بحقّهم، هي سياسيّة بامتياز، وليس لها أيّ مُبرِّرٍ قانونيٍّ أو دستوريٍّ، فهو من خلالها يريد الانتقام من الشَّعب الكُرديّ والانتصارات التي حقَّقها في الانتخابات المحلّيّة، وإغلاق الطريق أمام أيّ محاولة لاستئناف عمليَّة السَّلام التي أجهضها أردوغان نفسه عام 2015، عندما انقلب على نتائج الانتخابات البرلمانيَّة، بعدما فاز حزب الشُّعوب الدّيمقراطيَّة بـ/82/ مقعداً في البرلمان، ووجد أردوغان نفسه مجبراً على التَّحالف مع “HDP” لتشكيل حكومة إئتلافيَّة، وهو ما لا يرغب به، فانقلب على النَّتائج وأعلن عن انتخابات مُبَكِّرة، بعد أن شَنَّ حملة عسكريَّة وحشيَّة على المدن الكُرديَّة، خاصَّةً مدن “آمد، شرناخ، ماردين، فارقين، نصيبين” وغيرها، وأحرق الحجر والشَّجر والبشر، واستخدم سياسة البلطجة ونشر الخوف والإرهاب، بالتَّزامن مع تكليفه تنظيم “داعش” الإرهابيّ بتنفيذ عدد من العمليّات الإرهابيَّة في مدن “سروج، أنقرة وإسطنبول”، وراح ضحيَّتها مئات المؤيّدين لحزب الشُّعوب والدّيمقراطيَّة والمناصرين لمقاومة كوباني. أعاد أردوغان الشَّعب التُّركيّ والكُرديّ إلى المربَّع العنفيّ الأوَّل، وأجبرهم على الانتخاب له ولحزبه تحت قوَّة السِّلاح والنّار، ليفوز، زوراً وبهتاناً، في انتخابات الإعادة التي جرت في شهر نوفمبر/ تشرين الثّاني عام 2015.
كما أنَّ سياسة تعيين “القيوم” التي اتَّبعها بعد انتخابات عام 2018، استمرَّت حتّى الانتخابات الأخيرة التي جرت أواخر مارس/ آذار الماضي، ولم يلتفت أردوغان إلى سماع أصوات المعارضة من الأحزاب السِّياسيَّة والشَّعب، بل زجَّ برؤساء البلديّات المنتخبين في السّجون، بعد أن لفَّق لهم تهماً عديدة، ويعمد إلى ممارسة نفس السِّياسة مع نتائج هذه الانتخابات أيضاً. وغير مستبعد أن يلجأ أردوغان إلى تعيين “قيوم” في أكبر المدن التُّركيّة، بما فيها إسطنبول، أنقرة، إزمير، وغيرها التي فاز بها حزب الشَّعب الجمهوريّ، واتهامهم رؤسائها بالانتماء والعمل مع جماعة “الخدمة” المرتبطة بالدّاعية “فتح الله غولان”. وهذا الأمر مرهونٌ بمدى التَّوافق بين حزب الشَّعب الجمهوريّ وأردوغان، بعد أن قلَّت حظوظ استمرار تحالف الأخير مع حزب الحركة القوميَّة الفاشيّ. فبدأ أردوغان استدارة جديدة نحو خصوم الأمس، وليغدو حليف الأمس عدوَّ اليوم، وهي براغماتيَّة يشتهر بها أردوغان في سياسته الدّاخليَّة والخارجيَّة، على حَدٍّ سواء. فاللّقاء الذي تَمَّ بين زعيم حزب الشَّعب الجمهوريّ وأردوغان قبل شهر، رُبَّما تُبَدِّدُ نتائجه خطوة أردوغان في اتّباع سياسة “القيّوم”، ولدى الحزب الجمهوريّ مخاوف من مَدِّ يده إلى أردوغان والتَّحالف، وأولى تلك المخاوف محاولة أردوغان قطع الطريق أمام رئيس بلديَّة إسطنبول أكرم إمام أوغلو في الترشُّح للانتخابات الرِّئاسيَّة القادمة.
فيما الصفعة التي وجَّهتها المحكمة الدّستوريَّة لأردوغان، رُبَّما تُعَدُّ الأقوى التي يتلقّاها منذ أن وصل إلى السُّلطة في عام 2002، وبعد أن أجرى التَّعديلات الدّستوريَّة لصالحه وفرض نظام “الرَّجل الواحد”. قرار المحكمة بسحب عِدَّةِ صلاحيّات هامّة كان قد أصدرها أردوغان بموجب مراسيم اشتراعيّة في عام 2018، جاءت في وقت يترنَّح فيه نظامه وهو على حافة الهاوية، سياسيّاً بعد الهزيمة المُدوّية في الانتخابات المحلّيّة، واقتصاديّاً بعد تدهور قيمة اللَّيرة التُّركيَّة والعجز الذي يعاني منه الاقتصاد التُّركيّ وحالة التضخّم الكبيرة التي يمُرُّ بها، وعسكريّاً إثر الضربات القاسية التي يتلقّاها جيشه في كردستان وخاصَّةً في مناطق الدِّفاع المشروع بجنوب كردستان.
قرار المحكمة بسحب صلاحيَّة تعيين رؤساء الجامعات من قبل الرَّئيس، وحصره في إجراء انتخابات داخل الجامعات نفسها، وبمجلس التَّعليم العالي وضع أردوغان في حالة هستيريّة، وكذلك سحب صلاحيّة تعيين حاكم المصرف المركزيّ منه، إضافة إلى تعيين المحافظين ونوابهم، كان أردوغان حصرها بيده، واعتبرت المحكمة أنَّ تلك المراسيم “مخالفة للدستور”، وأنَّه ليس من صلاحيّات رئيس الجمهوريَّة تعيين رؤساء جامعات الدَّولة، حتّى تلك التي تتبع الأوقاف، وعلَّقت قرار رئيس الجمهوريَّة منح رئيس هيئة التلفزيون التُّركيّ، الرَّاتب الذي يناله أعلى موظّف في الدَّولة.
أدرك أردوغان أن المحكمة الدّستوريَّة وضعت حدوداً لسلطته، ولكن السّؤال الجوهريَّ يطرح نفسه مباشرة: هل سيذعن أردوغان لقرارات المحكمة؟
على الأرجح أنَّ أردوغان المعروف برعونته وصلفه، سيرفض قرارات المحكمة الدّستوريَّة، وسيحاول القفز فوقها والتنصُّل من تطبيقها والالتزام بها، أو أنَّها سيؤجل العمل بها، ليعمد إلى تصحيح المراسيم التي أصدرها بقوانين من البرلمان، لطالما هو يحتفظ بالأغلبيَّة التي تسمح له بتمرير أيّ قرار، أو أنَّه سيلجأ إلى إلغاء المحكمة الدّستوريَّة من أساسها، وهو ما دعا إليه حليفه في السُّلطة “دولت باهجلي”. ولكن في كُلِّ الأحوال ستلقي هذه القرارات بتأثيراتها على المناقشات التي يُخطِّطُ لها أردوغان حول الدّستور الجديد، الذي يأمل أن يمنحه الحَقَّ في ترشيح نفسه لولاية رئاسيَّة أخرى، إلا أنَّ المؤكَّد أنَّ قرارات المحكمة الدّستوريَّة دقَّت المسمار الأوَّل في نعش نظام أردوغان وحليفه.