مانشيتمقالات رأي

لقاءُ حميميم وتعقيداتُ المصالحة التُّركيَّة – السُّوريَّة

جميل رشيد

تصدَّرَ المشهد السِّياسيّ والإعلاميّ خلال الأيّام القليلة الماضية، اللّقاء بين مسؤولين عسكريّين سوريّين وأتراك في قاعدة “حميميم”، وبرعاية روسيَّة، بهدف تطبيع العلاقات بين النِّظام التُّركيّ والحكومة السُّوريّة، بعد فشل جولة سابقة بينهما في موسكو العام الماضي.

يأتي هذا اللّقاء بعد الهزيمة المدوّية التي مُنِيَ بها أردوغان وتحالفه (حزب العدالة والتَّنمية وحزب الحركة القوميَّة) في الانتخابات المحلّيَّة التي جرت أواخر مارس/ آذار الماضي، وخسر أردوغان رئاسة معظم المدن الكبرى الرَّئيسيَّة في تركيّا، إضافة إلى المدن الكُرديَّة، ما قلَّلَ من حظوظه في إجراء تعديلات دستوريَّة للسماح له بترشيح نفسه لولاية رئاسيّة ثالثة.

نظام أردوغان الذي يَمُرُّ بعنق الزُّجاجة، بعد الأزمات المتتالية العاصفة به إن كان على الصعيد الاقتصاديّ، إثر تدهور قيمة اللَّيرة التُّركيّة مقابل الدّولار، وكذلك زيادة حجم الإنفاق العسكريّ في الحرب الشَّرسة والظالمة التي يَشُنُّها على الشَّعب الكُرديّ في باكور وباشور كردستان، إضافة إلى تورّطه في صراعات إقليميَّة ودوليَّة عديدة، وأوَّلها الأزمة السُّوريّة، وكذلك في أذربيجان وليبيا وعدد من الدّول الإفريقيَّة، إلى جانب نظام حكمه الفرديّ الدّيكتاتوريّ الشُّموليّ، بعد أن منح نفسه الكثير من صلاحيات الوزراء ومؤسَّسات الدَّولة، فصار الحاكم الأوحد، إلى جانب نزعته الدّينيَّة المتطرِّفة المتمسِّكة بورقة الإخوان المسلمين، وإيوائه معظم قياداته، وخاصَّةً من سوريّا ومصر، إلى التركة الثَّقيلة لتبعات احتلاله لأراضي روجآفا وسوريّا عموماً، وكذلك ازدواجيَّته من الحرب في غزّة، كلها عوامل لعبت دوراً في تراجع شعبيَّته، وليجد نفسه وحيداً، ويبدأ معه مرحلة تقديم التَّنازلات لعدد من الدّول الإقليميَّة، وأوَّلها سوريّا.

لا شَكَّ أنَّ الظروف التي دفعت الرَّئيس التُّركيّ إلى قبول المصالحة مع الحكومة السُّوريّة، إنَّما هو من صنعها بنفسه، وهي تُعبِّرُ عن حالة عجز كامل في السِّياسة الخارجيَّة التُّركيّة، بعد فشل رهانات أردوغان على أدواته التي صُنِعَت في مطابخ المخابرات التُّركيّة. فالعُنجهيَّة والصلف التُّركيّين في عدم القبول بالمصالحة مع الحكومة السُّوريّة في بداية الأزمة، أذرتها الرّياح مع أوَّل لقاء بين مسؤولي البلدين. ولكن السّؤال الجوهريّ؛ هل هناك إمكانيَّة فعليَّة على الأرض لإتمام هذه المصالحة التي هي أقرب إلى “الصفقة” منها إلى المصالحة وتطبيع العلاقات، وما هي شروط الحكومة السُّوريّة في القبول بالمصالحة، وكذلك ما هي الطلبات التُّركيّة، على اعتبار أنَّ تركيّا ليست في الموقع الذي يمكنها أن تفرض شروطاً أو إملاءات للمُضيّ قُدُماً في التَّفاوض؟

لعلًّ وزير الخارجية السُّوريّ “فيصل المقداد” اختصر الشّروط السُّوريّة للجلوس من المسؤولين الأتراك والذّهاب بعيداً في عمليّة المصالحة بين البلدين، ألا وهي تَعهُّد تركيّا بالانسحاب من الأراضي التي تحتلُّها، بالتَّزامن مع عمليَّة تطبيع العلاقات، وحَلِّ ميليشيّات المرتزقة التّابعين لها. وأتبعتها بشرط تسليم عدد كبير من قادة المرتزقة إلى الحكومة السُّوريّة، وهو ما تعمل عليه تركيّا وتجهز نفسها لها، وما اعتقال العميد “أحمد رحّال” إلا بداية السَّير في هذا الطريق. فلا خيار لدى تركيّا إلا أن تقبل بالشّروط السُّوريّة، إن كانت فعلاً جادّة في المصالحة، ويبدو أنَّها قد جهَّزت عُدَّتها ومخطَّطاتها لتنفيذ تلك الشّروط مع ضمانة روسيّة لها، حيث تحاول منذ فترة تصفية العديد من فصائل مرتزقتها عبر نقلهم إلى جبهات صراعاتها المختلفة في النّيجر وبوركينا فاسو وأذربيجان، وحتّى إلى مناطق باشور كردستان أيضاً، في محاولة لتصفيتهم والتخلُّص منهم، بعد أن صارت عبئاً عليها.

تأمل تركيّا أن تشرع الحكومة السُّوريّة في محاربة الإدارة الذّاتيَّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيَّة، تحت مزاعم الحفاظ على وحدة الأراضي السُّوريّة وسيادتها، رغم أنَّها هي أوَّل من انتهكت السّيادة السُّوريّة باحتلالها لجزء كبير من أراضيها. وقد سرَّبت بعض وسائل الإعلام أنَّ تركيّا قبلت بالشَّرط السُّوريّ بالانسحاب من الأراضي السُّوريّة، مع الاحتفاظ بعدد من النِّقاط العسكريَّة، وخاصَّةً في المناطق الكُرديَّة، كذلك تعهَّدت بتسليم منطقة إدلب إلى الحكومة السُّوريّة، وترك مصير “هيئة تحرير الشّام/ جبهة النُّصرة” لتواجه عملاً عسكريّاً واسعاً من قوّات الحكومة السُّوريّة وحلفائها الرّوس والإيرانيّين، دون أن تعمد للدّفاع عنها.

ولكن هل بإمكان الحكومة السُّوريّة وحلفائها فتح جبهة صراع مع الإدارة الذّاتيّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيَّة في هذا التَّوقيت الحرج الذي تَمُرُّ به الأزمة السُّوريّة، وفي ظِلِّ موازين القوى الإقليميَّة والدّوليَّة، وتمركز قوّات التَّحالف الدّوليّ في معظم مناطق شمال وشرق سوريّا؟ وكذلك اشتعال الصراع بين إسرائيل وحركة “حماس” و”حزب الله” في جنوب لبنان، تخلق مناخاً إقليميّاً متوتِّراً، وتركيّا في قلب هذه الصراعات كُلٍّها، ولا يمكن البتَّة الفصل بينها بأيّ شكل من الأشكال.

الرَّئيس السُّوريّ بشّار الأسد أعلن خلال مؤتمر لحزب البعث قبل نحو شهرين أنَّ حكومته لا تفكِّرُ بأيّ حَلٍّ عسكريّ مع الإدارة الذّاتيَّة، على النَّقيض من ذلك؛ تسعى الإدارة الذّاتيَّة لفتح باب الحوار مع دمشق، التي تزال تماطل الأخيرة في إطلاقه، فلا الحكومة السُّوريّة ولا الإدارة الذّاتيّة لديهما حسابات بحَلٍّ عسكريّ ينهي أحدهما الآخر، وهو ما يبدِّد الحلم التُّركيّ في إشعال فتيل صراع بين دمشق والرِّقَّة. كما أنَّ أيَّ حرب مستقبليَّة مع الإدارة يعني الاصطدام مع قوّات التَّحالف الدّوليّ والدّخول في صراع معها، وعلى رأسها الولايات المتّحدة، وهو ما تتحاشاه دمشق، بل هي رغبة كُلّ من روسيّا، إيران وتركيّا، أي رفع الغطاء عن الإدارة الذّاتيَّة، حسب تعبيرهم، لتكون مناطق الإدارة مستباحة أمام غزو تركيّ شامل، وتحقِّق تركيّا حلمها القديم – الجديد في السَّيطرة على أراضي الجوار ضمن مشروعها “الميثاق الملّي”. فلدى كُلّ من دمشق والرِّقَّة ما تتوافقان حوله أكثر ممّا يفرّقانهما، وبناء على هذه البديهيّة؛ من المستبعد أن تقبل الحكومة السُّوريّة بتنفيذ الطلب التُّركيّ.

كما أنَّ الولايات المتّحدة لا تزال تُمسِكُ بمعظم خيوط اللُّعبة السِّياسيّة والعسكريّة في سوريّا، فأيُّ مصالحة بين تركيّا والحكومة السُّوريّة، إن لم تحظَ بموافقة ضمنيّة أمريكيَّة، فهي محكومة بالفشل، وقد أوصلت أمريكا موقفها إلى تركيّا عبر نائب وزير خارجيَّتها الذي اجتمع مع وزير الخارجيّة التُّركيّ حقّان فيدان في السّويد غداة عودته من لقاء مع الرَّئيس الرّوسيّ بوتين، حيث أكَّدَ أنَّ أيَّ مصالحة مع الحكومة السُّوريّة خارج إطار القرار الأمميّ 2254 مرفوض من قبلها، وربطت المصالحة بوقف إمداد تركيّا بطائرات “إف – 16” وقطع غيارها. فالولايات المتّحدة تُدرك جيّداً مرامي روسيّا في جذب تركيّا إلى جانبها في حربها بأوكرانيا، وهو ما فشلت فيها حتّى الآن. ولم يعد لدى تركيّا أيُّ هامش للمناورة بين روسيّا والغرب، بعد أن فقدت معظم رصيدها الخارجيّ والدّاخليّ إثر تورّطها في ملفّات عديدة كانت بالضُدّ من المصالح الغربيَّة. فالرَّفض الأمريكيّ يُشكّل عامل كبح لتركيّا في إجراء أيّ مصالحة مع الحكومة السُّوريّة.

إنَّ لقاء “حميميم” لم يُسفر عن أيّ نتائج ملموسة على الصَّعيد العمليّ غير تبادل الصور التّذكاريَّة، ومن غير المأمول أن يسفر لقاء آخر سيعقد في الأيّام القادمة ببغداد عن أيّ تقارب في وجهات النَّظر بين البلدين، رغم تعهّد رئيس الوزراء العراقيّ السّودانيّ بأنَّ بلاده تقود جهود المصالحة. فالشَّرط السُّوريّ بانسحاب قوّات الاحتلال التُّركيّ من الأراضي السُّوريّة، يعكس حقيقة أنَّ تركيّا ستخرج من سوريّا صفر اليدين وخالية الوفاض. وكذلك تمسّكها بتنفيذ بنود اتفاقيَّة أضنه وتطويرها، عبر السَّماح بدخول قوّاتها لمسافة نحو /30/ كم داخل الأراضي السُّوريّة، هي الأخرى غير مجدية ولن ترى النّور.

فإن كانت روسيّا تضغط باتّجاه تسريع عمليَّة المصالحة، لتُحدِثَ خرقاً دبلوماسيّاً في السّاحة السُّوريّة، وتُفرّغ القرار الأمميّ /2254/ من مضامينه، في المقابل الدّول الغربيَّة وعلى رأسها الولايات المتّحدة تُشدِّدُ على الالتزام به، وتربط أيَّ مصالحة مع الحكومة السُّوريّة بتنفيذها للقرار. كما أنَّ دمشق التي عادت بقوَّة إلى محيطها العربيّ، تستند إلى الدَّعم العربيّ في الإقدام على أيّ مصالحة مع تركيّا، إلى جانب مطالبتها تركيّا بالتخلّي عن ورقة الإخوان المسلمين.

مثلما فشلت اجتماعات أستانا التي رعتها كُلّ من روسيّا، إيران وتركيّا في تحقيق أيّ نوع من الهدوء على الأراضي السُّوريّة، بل كانت لغرض تقاسم مناطق النفوذ، كذلك لا تنفع تركيّا إنشاء غرف التَّنسيق الاستخباراتيّة مع الحكومة السُّوريّة، ولن تَتُمّ المصالحة إلا بعد الانسحاب غير المشروط لقوّات الاحتلال التُّركيّة من جميع الأراضي السُّوريّة.

خاص/آدار برس

#ADARPRESS

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى