مآلاتُ فَتحِ المعابِرِ بينَ سوريّا وتركيّا
جميل رشيد
تصدَّرت قضيَّة المصالحة بين الحكومة السُّوريّة والنِّظام التُّركيّ الحدث الإعلاميّ والسِّياسيّ، على وقع تسارع اللقاءات بين الطرفين، فيما تُرجِمت بعض التَّفاهمات على الأرض من خلال بعض الخطوات التي يمكن وصفها بأنَّها “بادرة حسن نيَّة” أو زرع الثِّقة من قبل النِّظام التُّركيّ، وكأنَّه يوهم بالقطع مع المرحلة السّابقة التي أطلق فيها شتّى الصفات والنّعوت السّلبيَّة على حكومة دمشق، وعمل استدارة جديدة، رُبَّما لا تشبه سابقاتها من حيث المُقدِّمات والنَّتائج، سوريّاً وتركيّاً.
إنَّ انقلاب الرَّئيس على نفسه بالدَّرجة الأولى، فهو قبل أن يصالح دمشق، عليه أن يصالح نفسه، وشغف أردوغان في المصالحة يمكن رَدّه إلى عاملين أساسيّين:
أوَّلهما؛ تراجع شعبيَّته إلى الحضيض بعد الهزيمة المُدويَّة التي مُنِيَ بها في الانتخابات المحلّيَّة الأخيرة، والتي هي انعكاس مباشر لجملة سياساته الدّاخليَّة والخارجيَّة السيّئة، في كَمِّ الأفواه وتقييد الحُرّيّات، إضافة إلى التغييرات البُنيويَّة التي أجراها في بُنيَة الدَّولة التُّركيّة، لتغدو دولة دينيَّة محضة تبتعد عن قيمها العلمانيَّة التي رسَخَّها مؤسِّسُها مصطفى كمال أتاتورك، وهي التي أصبحت في خطر أمام تزايد نفوذ الإسلامويّين ممَّن زرعهم أردوغان وحزب العدالة والتَّنمية في جميع مؤسَّسات الدَّولة، حتّى في الجيش أيضاً. فيما تزايد النَّقمة الشَّعبيَّة عليه وعلى حزبه وتحالفه الذي يدير الحكومة جرّاء الأزمة الاقتصاديّة الخانقة التي يَمُرُّ بها الاقتصاد التُّركيّ، وحالة الانهيار ليرتها أمام الدّولار، ما جعله يُفَتِّشُ عن حلول لأزمته السِّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيَّة خارج حدود بلاده، عبر إجراء “مصالحات – استدارات” مع خصوم الأمس، وكذلك عبر شَنِّ حرب وحشيَّة على الشَّعب الكُرديّ في باكور/ شمال وباشور/ جنوب كردستان.
ثانيهما؛ الفوبيا التي تلاحق أردوغان في القضاء على أيِّ حُلُمٍ كُرديٍّ في نيل الشَّعب الكُرديّ حقوقه المشروعة، وهو ما تجلّى من خلال احتلاله لمناطق عديدة من روجآفا، وكذلك في الحرب التي يَشُنُّها على أراضي باشور كردستان. يحاول أردوغان من خلال تقديم ما تُسمّى “المعارضة السُّوريّة” المرتبطة به، والتي رعاها طيلة السَّنوات الماضية، على طبق من ذهب إلى الحكومة السُّوريّة، مقابل قبول الأخيرة محاربة الإدارة الذّاتيَّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيَّة. ديدن تركيّا من عمليَّة التَّطبيع مع دمشق هو إنهاء الطموح الكُرديّ في روجآفا وسوريّا، والعودة إلى ممارسة سياسة العصا والجزرة مع حكومة دمشق، والعمل بأسلوب المساومات والمقايضات، على غرار ما تَمَّ في اجتماعات أستانا بين الثّلاثي “روسيّا، تركيّا وإيران” في تقاسم مناطق النّفوذ في سوريّا.
حديث أردوغان عن نيَّته العمل على عودة العلاقات بين تركيّا وسوريّا إلى سابق عهدها، وأنَّهما عائلة واحدة، وكذلك الادّعاء بأنَّه على استعداد للقاء الرَّئيس الأسد، بل حتّى ذكره باسمه الحقيقيّ “Esed” وليس “Asad”، كُلّ تلك المزاعم بَدَّد مصداقيَّتها وزير خارجيَّته “حقان فيدان” عندما لوَّحَ برسائل تهديد مبطَّنة لدمشق “يلوّح بالعصايه تحت العبايه”، كما يقول المثل الشَّعبيّ. فرغم ادّعائه أنَّ تركيّا وروسيّا قد توصَّلتا إلى إنجاز كبير بأن “تمكَّنتا من الوصول إلى مرحلة لا توجد حرب حالياً بين الجيش والمعارضة”، ولكنَّه في ذات الوقت أشار إلى أنَّ دمشق في حاجة إلى “استغلال فترة الهدوء هذه بحكمة، كفرصة لإعادة ملايين السُّوريّين الذين فرّوا إلى الخارج ليعيدوا بناء بلادهم وإنعاش اقتصادها”.
ويبدو أنَّ تركيّا تريد إعادة علاقاتها مع دمشق وفق شروطها ومصالحها هي فقط لا غير، وكذلك تسعى إلى شرعنة احتلالها للأراضي السُّوريّة، من خلال نيل ولو موافقة ضمنيَّة من حكومة دمشق، رغم أنَّ الأخيرة شَدَّدت أكثر من مَرَّة على ضرورة انسحاب القوّات التُّركيّة من الأراضي السُّوريّة، واصفة إيّاها بأنَّها “قوّات احتلال”، قبل الشّروع بأيّ عمليَّة لتطبيع العلاقات أو المصالحة. فالشَّعب السُّوريّ وكذلك حكومة دمشق اختبرت مصداقيَّة تركيّا في كُلِّ خطوة لها في سوريّا، ولم تعد تثق بأيّ وعود إن لم تقترن بتعهُّدات دوليَّة وإقليميَّة في انسحاب كامل قوّاتها من سوريّا، وهو ما تتجنَّب تركيّا التطرُّق له لا من قريب ولا من بعيد، بل تلجأ إلى اتّباع أساليب المراوغة والخداع، والادّعاء بقبولها فتح المعابر مع مناطق سيطرة حكومة دمشق، رغم أنَّ هذه الخطوة بحَدِّ ذاتها هي قنابل ملغومة، وتحمل في طيّاتها اعترافاً ولو ضمنيّاً بالاحتلال، حيث أنَّ معظم المعابر بينها وبين حكومة دمشق هي غير شرعيَّة، وتحاول عبر مزاعم تنشيط التِّجارة البينيَّة إضفاء الشَّرعيَّة عليها.
قول “فيدان” إنَّه على “الحكومة السُّوريّة أن تستغلَّ هذه الفترة من الهدوء، بعقلانيَّة، وأن تستغلَّ كُلَّ هذه السَّنوات كفرصة لحَلِّ المشاكل الدّستوريّة وتحقيق السَّلام مع المعارضة، لكنَّنا لا نرى أنَّ دمشق تستفيد من ذلك بما فيه الكفاية”. وكأنَّه يُلمِّح بعودة الاقتتال مع قوّات الحكومة السُّوريّة إذا لم ترضخ لشروط تركيّا في الوقوف معها لمحاربة الإدارة الذّاتيَّة، التي تُعِدُّها كياناً “انفصاليّاً”، وتهديداً لأمنها القوميّ المزعوم من الجنوب، وهو ما لم تنجرّ خلفها دمشق لتقع في أفخاخ السّياسة المراوغة للرَّئيس التُّركيّ.
يبدو أنَّ الرَّئيس التُّركيّ يبعث برسائل إلى عِدَّةِ أطراف دوليَّة وإقليميَّة، مفادها بأنَّ وجود قوّاته في سوريّا سيستمرّ ما دام “الخطر الكُرديّ” موجوداً، وهو يحاول استمالة دمشق عبر فتح المعابر وتدفُّق البضائع والسِّلع التُّركيّة إلى الأسواق السُّوريّة، ما ينعش الاقتصاد التُّركيّ قبل السُّوريّ، ويفتح الطريق أمامه للوصول إلى مدينة حلب، وهو الحلم الذي طالما يراود أردوغان دائماً، عبر طرح المشروع الذي أطلق عليه قبل سنوات اسم “نموذج حلب”، في إعادة توطين جميع اللّاجئين السُّوريّين المُقيمين على أراضيها فيها، وكذلك الظَّفر بإعادة إعمار المدينة، التي فيها يجد فيها متنفّساً لاقتصاده. وفتح معبر “أبو الزّندين” ينطوي على سياسة خبيثة وماكرة من قبل تركيّا، حيث تسعى من خلالها إلى فرض ترتيبات جديدة، من شأنها أن تقلب الطاولة حتّى على مرتزقته، وبدايتها تجلَّت في قمع حركة الاحتجاج والمعارضة في فتح المعبر، حيث عمدت إلى اعتقال كُلِّ من عارض فتحه، إضافة إلى تمركز قوّات روسيَّة على جانب منطقة سيطرة حكومة دمشق، مقابل تموضع قوّاته مدرَّعة تركيّة في الجانب المحتلّ. فيما الاستعدادات قائمة على قدم وساق في فتح معبر “باب السَّلامة” في إعزاز والوصول عبر الطريق الدّوليَّة إلى مدينة حلب بشكل مباشر، وكذلك الأمر في معبر “باب الهوى” أيضاً. فيما صَرَّحَ الرَّئيس التُّركيّ اليوم، الأحد، عن نيَّته فتح الطريق الدولي (M4) الواصل بين حلب واللّاذقيَّة.
السّيناريو التُّركيّ يتلخَّص في استعداده لتسليم المناطق التي تحتلُّها إلى حكومة دمشق، بضمانة روسيَّة، مع الحفاظ على نقاط عسكريَّة في جميع المناطق، بدءاً من إدلب ومروراً بعفرين، إعزاز، الباب، جرابلس، تل أبيض ورأس العين، لتكون بمثابة مسمار جحا، متى ما أرادت تحرُّكها وفق متطلَّبات مصالحها في سوريّا.
الرَدُّ السُّوريّ على دعوة أردوغان ووزير خارجيَّته في المصالحة، جاء من قبل الرَّئيس السُّوريّ بشّار الأسد أثناء استقباله مبعوث الرَّئيس الرّوسيّ إلى سوريّا “إلكسندر لافرينتييف”، عندما أكَّدَ أنَّه منفتح على جميع المبادرات المرتبطة بالعلاقة مع تركيّا على أن تكون “مستندة إلى سيادة الدَّولة السُّوريّة على كامل أراضيها من جهة، ومحاربة كُلِّ أشكال الإرهاب وتنظيماته من جهة أخرى”.
فيما عبَّرَت الإدارة الذَّاتيَّة عن موقفها بأنَّ أيَّ مصالحة أو عمليَّة تطبيع مع تركيّا في الظروف الرّاهنة، وقبل أيّ انسحاب مع الأراضي التي تحتلّها في سوريّا، إنَّما تُعَدُّ “مؤامرة على الشَّعب السُّوريّ”، وحذَّرت حكومة دمشق من الانجرار خلف المؤامرات التُّركيّة، وألا تفاضل بين مسألة المصالحة وإطلاق حوار وطنيّ سوريّ – سوريّ يُفضي إلى حَلٍّ للأزمة السُّوريّة بأيدي السُّوريّين. وأكَّدَت أنَّ الإدارة الذّاتيَّة مُستعِدَّةٌ للمشاركة في حوار وطنيّ يصل بسوريّا إلى بَرِّ الأمان.
من جانب آخر لاتزال روسيّا تمارس سياسة براغماتيّة مفرطة في سوريّا، فهي أيضاً تعاني الكثير من المصاعب جرّاء تورّطها في حرب أوكرانيا، وتسعى إلى إضعاف الجبهة الغربيَّة المضادَّة لها، عبر جذب تركيّا إلى مخطَّطاتها في سوريّا وأوكرانيا، وتقديم مزايا لها في فرض وقائع تتعارض مع المصلحة الوطنيَّة السُّوريّة، والالتفاف حول قرارات الأمم المتّحدة وخاصَّة القرار 2254، وعقد صفقات منفردة بين الأطراف المتصارعة بهدف تخفيف الضَّغط عن نفسها في الجبهة الأوكرانيَّة، ومحاولة إخراج القوّات الأمريكيَّة من سوريّا، إضافة إلى مخطَّط إدماج مرتزقة تركيّا في الجيش السُّوريّ عبر تشكيل فيلق سادس أو سابع على غرار درعا، وزجِّهم في معاركها المختلفة إن كان في إفريقيا أو حتّى في أوكرانيا مستقبلاً.
كذلك إيران التي لها دور فاعل في الأزمة السُّوريّة لن تقف مكتوفة الأيدي حيال التحرُّكات التُّركيّة والرّوسيَّة في سوريّا، وستعمد إلى عرقلة مسار أيِّ مصالحة أو عمليَّة تطبيع للعلاقات بين البلدين، من خلال تحريك ميليشيّاتها المنتشرة في الجغرافيا السُّوريَّة، وخاصَّةً في بلدَتي “نُبُّل” و”الزَّهراء”، وقطع طريق القوافل التِّجاريَّة القادمة من تركيّا، وستفرض جملة من الشُّروط، أوَّلها إشراكها في أيّ ترتيبات أمنيَّة أو تجاريَّة في سوريّا.
إنَّ أيّ مصالحة “عمليَّة تطبيع للعلاقات” بين سوريّا وتركيّا، هي في النِّهاية مرهونة بالحَلِّ الدّوليّ والإقليميّ للأزمة السُّوريّة، وزمن الصفقات قد ولى دون رجعة، وأحلام تركيّا في شَنِّ عمليَّة عسكريَّة ضُدَّ مناطق الإدارة الذّاتيَّة ومحاولة توريط الحكومة السُّوريّة فيها، أيضاً أصبح جزءاً من الماضي، فالتَّوازنات السِّياسيّة والعسكريَّة في المنطقة والعالم، خاصَّةً بعد حرب غزَّةَ، لا تسمح بإعادة الأزمة السُّوريّة إلى المُربَّع العنفيّ الأوَّل، بل كُلُّ المسارات تسير نحو التَّهدئة والحَلِّ السِّياسيّ، رغم أنَّه سيستغرق وقتاً طويلاً، وستقتصر الأعمال القتاليَّة فقط ضُدَّ المجاميع الإرهابيَّة من أمثال “داعش” و”جبهة النُّصرة” وأخواتها. كما أنَّ أيَّ مراهنة تركيّة على عودة “ترامب” إلى البيت الأبيض في الولايات المتَّحدة، أيضاً لم تعد تنفعها، حيث أنَّ الأخير هو رجل الصفقات والتِّجارة، وهو يبتعد عن العسكرة والخوض في صراعات لا طائل منها.