تصاعدت حدة التوترات في مناطق الشمال السوري الرازح تحت الاحتلال التركي، تزامناً مع الإعلان عن إطلاق أنقرة مسار المصالحة مع دمشق، وما يترتب عليها من تداعيات، يصفها البعض بـ”السلبية”، على جميع الفصائل العسكرية المسلحة التي دعمتها ورعتها تركيا طيلة سنوات الأزمة السورية، وكذلك على السوريين من أبناء المنطقة والمستوطنين فيها أيضاً.
رد فعل الشارع الشعبي تمثل عبر إنزال وإحراق الأعلام التركية من على مباني المؤسسات السائدة في تلك المنطقة، والتي أسستها تركيا في بداية احتلالها تلك المناطق، وكذلك تكسير وإحراق الحافلات التركية المدنية والعسكرية، وإطلاق شعارات مناهضة لتركيا، تدعوها للكف عن مسار التطبيع مع الحكومة السورية، وألا تجعل من الشعب السوري وقوداً لها في تنفيذ أهدافها ومآربها مع الحكومة السورية.
خروج التظاهرات المعارضة لأي عملية تطبيع لأنقرة مع دمشق في عدد من المدن الرئيسية المحتلة في الشمال السوري، مثل عفرين، إعزاز، الباب، الراعي، جرابلس، تحولت في بعض منها إلى مواجهات مسلحة، بعدما عمد الجنود الأتراك إلى إطلاق الرصاص الحي والغاز المسيل للدموع على المتظاهرين الغاضبين، الذي اعتبروا أن تركيا “تبيعهم وتبيع قضيتهم للأسد”، وفق تعبيرهم، وردد المتظاهرون شعارات رفضوا فيها بأن يكونوا ضحية صفقة بين تركيا وروسيا والحكومة السورية، كما هددوا بإغلاق جميع المعابر بين تركيا والأراضي السورية، في وقت ساد فيه الإضراب العام والشلل كافة الأسواق التجارية، وكذلك أغلقت المعابر الداخلية مثل معبر “الغزاوية” بين عفرين والمناطق التي تسيطر عليها “هيئة تحرير الشام/ جبهة النصرة سابقاً” في إدلب.
من جانبها عمدت القوات التركية إلى إغلاق جميع المعابر مع الأراضي السورية، وخاصة معبر “باب السلامة” في إعزاز، ومعبر جرابلس، إضافة إلى معبر “حوار كلس” غير الشرعي، كما طالبت موظفيها العاملين في المناطق السورية المحتلة بمغادرتها فوراً، فيما تناقلت أنباء عبر نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي بمغادرة ما يسمى “والي الباب” نحو الأراضي التركية. كذلك حاصر المتظاهرون مبنى السرايا وسط مدينة عفرين، والذي يتخذه “الوالي التركي” مقراً له. كذلك نقلت مصادر موثوقة داخل عفرين بمقتل متظاهر وجرح عدد آخر في الاشتباكات الدائرة حول السرايا بين الجنود الأتراك وما تسمى عناصر الشرطة العسكرية من طرف، والمتظاهرين من طرف آخر، بعد أن تحولت التظاهرة إلى اشتباكات مسلحة بين الطرفين. ما دفع القوات التركية إلى زج قواتها العسكرية المدعومة بالدبابات في معظم المدن، وخاصة في عفرين التي تحولت شوارعها وساحاتها إلى ميدان للمعارك، استخدم فيها الطرفان الأسلحة الثقيلة، ما أسفر عن سقوط نحو /20/ قتيلاً وعشرات الجرحى، الذين اكتظت بهم مشافي مدينة عفرين.
وتمكنت القوات التركية من إنهاء حالة “العصيان”، كما وصفتها وسائل الإعلام التركية، بعد منتصف الليل، وساد مدينة عفرين هدوء حذر، فيما التزم جميع المواطنين منازلهم، وسط فرض حظر للتجول من قبل القوات التركية التي انتشرت في معظم أحياء المدينة.
وقد اندلعت الاحتجاجات ضد تركيا على خلفية التصريحات الصادرة عن مسؤوليها، والتي أكدت إطلاقها عملية تطبيع العلاقات مع الحكومة السورية وعودتها إلى سابق عهدها، كما وصفها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. فيما أشار وزير خارجيته “حقان فيدان” بأن كل من تركيا وروسيا “تمكنتا من وقف حالة الاقتتال بين المعارضة والنظام خلال الفترة الماضية، ويجب أن يتشارك الطرفان في عملية حل الأزمة السورية”، داعياً الحكومة السورية إلى استغلال حالة وقف إطلاق النار والبدء بإجراءات دستورية، من شأنها أن تساهم في حدوث توافقات بينها وبين “المعارضة”.
في السياق ذاته؛ اعتبرت أوساط شعبية واسعة في الشمال السوري، أن المصالحة التركية – السورية، تتم على حساب قضيتهم الأساسية في “إسقاط النظام”، واصفين تركيا بأنها “غدرت بهم”، ومؤكدين على رفضهم أي مصالحة مقابل تقديمهم “كبش فداء”.
وحسب متابعين للتطورات في تركيا والشمال السوري، فإن الشرارة الرئيسية التي أشعلت التظاهرات، جاءت على خلفية الاعتداءات العنصرية التي تعرض لها اللاجئون السوريون في مدينة “قيصري” التركية، حيث عمد شبان عنصريون أتراك في الهجوم على محال وسيارات السوريين، دون أن تتدخل القوى الأمنية التركية، الأمر الذي تسبب في وقوع إصابات بين اللاجئين السوريين، فيما أكدت مصادر إعلامية عن مقتل امرأة سورية. وبعد ردود الفعل الغاضبة على استهداف اللاجئين السوريين في المدن التركية من قبل السوريين في المناطق المحتلة؛ صعد الأتراك من حملة استهدافهم للاجئين السوريين وممتلكاتهم في تركيا، حيث تعرض اللاجئون السوريون لهجمات رهيبة من قبل الأتراك في معظم المدن التركية، مثل “الريحانية، قرق خان، كلس، ديلوك/ عنتاب، قونيه” وغيرها، كسر فيها المهاجمون الأتراك محال اللاجئين السوريين وأحرقوا سياراتهم، فيما تعرضوا لأي سوري في الشارع، ما أدى إلى إصابة بعضهم.
وزير الداخلية التركي “علي يرلي قايا”، أكد في تصريح لوسائل إعلام تركية، أن الحكومة ستتخذ الإجراءات القانونية لفرض الأمن والاستقرار، وستفتح تحقيقاً في ملابسات القضية، واعداً بمحاسبة كل المخالفين للأنظمة والقوانين في البلاد.
إلا أن التحول الكبير في الموقف التركي جاء على لسان رئيسه أردوغان، عندما وعد بفتح الطريق الدولي (M4) الواصل بين مدينتي حلب واللاذقية، وهو طريق إستراتيجي بالنسبة لكل من الحكومة السورية وروسيا أيضاً. كلام أردوغان يشير إلى تطمينات للجانب الروسي بتنفيذ اتفاقية سوتشي الثانية التي وقعها مع الرئيس الروسي بوتين عام 2020، بفتح الطريق (M4) وإبعاد “هيئة تحرير الشام” عنه، الأمر الذي اعتبره العديد من المراقبين بحدوث حالة طلاق بائن بين “الهيئة” وتركيا، ما يدفع إلى مواجهة محتملة بين الطرفين، ستستخدم خلالها تركيا أدواتها مما يسمى “الجيش الوطني السوري” في إعادة إدلب بكاملها إلى سيادة الحكومة السورية، مقابل ضمان مشاركة دمشق في تقويض أسس الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا.
الحشود العسكرية لـ”هيئة تحرير الشام” على حدودها الفاصلة مع منطقة عفرين، وكذلك مع مناطق سيطرة قوات الحكومة السورية، قابلها استقدام الحكومة السورية تعزيزات عسكرية ضخمة لنقاط التماس مع “الهيئة”، ما ينذر بتفجر الاقتتال بشكل قوي، تمهيداً للقضاء على “الهيئة” وكل الهياكل التي أسستها في المنطقة.
وفي تصريح لمتزعم “هيئة تحرير الشام” المدعو “أبو محمد الجولاني” في تعليق له على الأحداث الجارية في المناطق السورية والمناهضة للاحتلال التركي، حاول الدفاع عن تركيا بشكل موارب، حيث دعا إلى عدم نكران الجميل ونسيان فضائل تركيا على السوريين، وأكد أنه يجب توحيد المواقف ضد “النظام السوري”، وفق تعبيره، ومطالباً الجميع بوقف التصعيد وعدم استهداف النقاط العسكرية التركية.
يعيش الشمال السوري على صفيح ساخن مع بدء تركيا مسلسل المصالحة مع الحكومة السورية، ولا تُعرف بعد إلى أين تتجه مسارات التصعيد، إلا أن المؤكد، حسب الوقائع الجارية على الأرض، أن تركيا اتخذت سياسة هدم ما بنته خلال سنوات احتلالها في المناطق التي احتلتها، وأنها فقدت مكانتها حتى لدى التابعين لها، ودخلت في مرحلة الانكماش والتكور على نفسها، وهو ما يفتح الأبواب أمام تطورات متسارعة في الأيام القليلة القادمة.
آداربرس/خاص
ADARPRESS #