اللّاجـ.ـئون السُّوريّون ضَحـ.ـيَّةُ لُعبَةِ المصالح السِّياسيّة
جميل رشيد
أثارت قضيَّة الاعتداءات العُنصريَّة على اللاجئين السُّوريّين في تركيّا، المحمولة بمشاعر الكراهية ورفض تواجد اللّاجئين على الأراضي التُّركيّة، حفيظة السُّوريّين ضمن مناطق احتلال تركيّا، ما دفعهم للخروج في تظاهرات كبيرة في معظم المدن الرَّئيسيَّة في الشَّمال السُّوريّ، أبرزها كانت في عفرين والباب.
إنَّ دوافع إظهار السُّوريّين هذا الكَمَّ الكبير من الرَّفض والنُّفورِ للتواجد التُّركيّ، لا يمكن حصره باعتداءات العنصريّين الأتراك على اللّاجئين ومحالهم وسيّاراتهم فقط، بل مَرَدُّهُ سَلبُ تركيّا إرادة السُّوريّين حتّى داخل أراضيهم، وتحويلهم إلى أداة تستخدمها في تثبيت أركان احتلالها في سوريّا، علاوَةً على زَجِّهم في صراعاتها وحروبها المختلفة في ساحات أخرى.
الغضبُ الشَّعبيُّ المُتفجِّرُ في ريف حلب الشّماليّ، وإحراق الأعلام والسيّارات التُّركيّة، يُعبِّرُ عن حالة الاحتقان الكبيرة من ممارسات القوّات التُّركيّة ضُدَّ الأهالي وعدم الالتفات إلى مطالبهم واعتبارهم واتّخاذ آرائهم في القضايا التي تَمَسَّهم بشكل مباشر. رفع الأعلام التُّركيّة وفرضها على جميع المؤسَّسات التي أسَّستها، إلى جانب فرض التتريك في المدارس، ونشر صور الزُّعماء والقادة الأتراك في الشَّوارع والسّاحات العامَّة، وإطلاق أسماء تركيَّة على معظم المؤسَّسات والدَّوائر، واستخدام اللُّغة التُّركيّة في معظم مفاصل الحياة الإداريَّة والسِّياسيّة حتّى في الكتابة على البطاقات الشَّخصيَّة التي استصدرها، راكمت لدى الأهالي بُغضاً وكُرهاً تجاه السِّياسات التُّركيّة وممارسات الفصائل التّابعة لها، خاصَّةً التُّركمانيَّة منها، التي خدمت المصالح والسِّياسات التُّركيّة في سوريّا، وقطعت مع كُلّ ما هو وطنيّ سوريّ، لتتحوَّل إلى رأس حربة بيد تركيّا في الاحتجاجات الأخيرة. فصائل من أمثال “السُّلطان مراد” و”السُّلطان سليمان شاه” و”الحمزة” ساهمت إلى حَدٍّ كبير في قمع حركة الاحتجاجات ضُدَّ تركيّا، وشاركت معها في قتل واعتقال المشاركين في التَّظاهرات، وسلَّمتها للاستخبارات التُّركيّة، التي بدورها نقلتهم إلى الأراضي التُّركيّة، لتعرضهم على وسائل إعلامها، في مشاهد إذلال لا حدود لها، حيث فرضت عليهم إعلان ندمهم على إحراق الأعلام التُّركيّة، وإجبارهم على تقبيلها، والمطالبة بالعفو منهم.
إلا أنَّ الأكثر إيلاماً بالنِّسبةِ للسُّوريّين، هو مواقف العديد من الهياكل السِّياسيّة السُّوريّة المرتبطة بتركيّا والتي تدَّعي إنَّها معارضة وتدافع عن السُّوريّين وتحمي حقوقهم، حيث شرعنت رَدَّ الفعل التُّركيّ القمعيّ تجاه اللّاجئين وكذلك حيال المتظاهرين، في موقف يوحي بالتَّماهي مع السِّياسة التُّركيّة في سوريّا، وتبرير الطرق الوحشيّة التي تعاملت بها تركيّا مع المتظاهرين، وعدم إلقاء اللوم على الحكومة التُّركيّة في إفلاتها قطعان الفاشيّين العنصريّين بالهجوم على اللاجئين السُّوريّين وتدمير ممتلكاتهم الخاصَّة، وكانت جماعة “الإخوان المسلمين” وما يُسمّى “المجلس الإسلاميّ السُّوريّ” التّابع لها، من أولى الجماعات المدافعة عن الموقف التُّركيّ، واعتبرت أنَّ “رَدَّ إهانة العلم التُّركيّ” هو حَقٌّ مشروع لتركيّا، غير مبالية بحالات القتل والضرب التي تعرَّضَ لها السُّوريّون في وطنهم وتركيّا.
إن كانت شرارة الاحتجاجات قد بدأت ردّاً على تعرُّض اللّاجئين السُّوريّين للاعتداء في مدينة “قيصري” التُّركيّة، إلا أنَّ العامل الأساسي في إشعالها هو تجاهل تركيّا مطالب السُّوريّين، والتَّضحية بهم على مذبح مصالحها مع الحكومة السُّوريّة، بعد قرارها المصالحة معها والسَّير في طريق تطبيع العلاقات. يدرك السُّوريّون بطبيعتهم الفطريَّة أن تركيّا لن تبالي بمصيرهم، بل هي تبحث عن مصالحها. ورغم إدراكهم لهذه الحقيقة في وقت متأخِّرٍ، إلا أنَّها في ذات الوقت تُشكِّل بادرة يمكن البناء عليها في السَّير نحو إنشاء أرضيَّة ترفض الاحتلال التُّركيّ للأراضي السُّوريّة، وتقطع مع كُلّ البُنى والهياكل التي شكَّلتها تركيّا طيلة سنين الأزمة السُّوريّة، وتُعيدَ للمعارضة السُّوريّة وطنيَّتها التي سلبتها تركيّا والقوى المرتبطة بها، وتنزع عنها صفة “الإرهاب” التي طالما لازمتها من خلال إيوائها العناصر الإرهابيَّة من أمثال “داعش” و”النُّصرة” والتشكيلات الإسلاميَّة الإرهابيَّة المتطرفة المختلفة، وتتمكَّن من التَّواصل مع القوى الوطنيَّة والدّيمقراطيَّة داخل وخارج سوريّا، في مسعى لعقد مؤتمر وطنيٍّ سوريٍّ جامع لكُلَّ أطياف المعارضة السُّوريّة، دون وصاية أو إملاءات من أيِّ طرف خارجيٍّ، وتضع برنامجاً وطنيّاً ديمقراطيّاً للوصول إلى حَلٍّ لأزمة وطنها المنكوب منذ أكثر من ثلاثة عشر عاماً.
يمكن القول إنَّ خيراً ما فعلت تركيّا، فهل “ذهبت السَّكرة وجاءت الصَّحوَةُ والفكرَةُ”، على قول المثل الشَّعبيّ الدّارج، وهل سنشهد ولادة جديدة لقوى معارضة حقيقيَّة تقطع مع الماضي السّابق، وتُعيدُ بناء هياكل سياسيَّة وعسكريَّة جديدة على أسس وطنيَّة، بعيدة عن ملوِّثات الإرهاب السِّياسيّ الإسلاميّ، وغير خاضعة لسياسات دول خارجيَّة، وخاصَّةُ تركيّا، وتؤمن بِغَدٍ ديمقراطيّ لسوريّا؟
في هذا الإطار النِّداء الذي وجَّهته كُلٌّ من الإدارة الذّاتيّة في شمال وشرق سوريّا، وكذلك مجلس سوريّا الدّيمقراطيَّة، بضرورة تلاحم السُّوريّين ضُدَّ المؤامرات التي تُحاك عليهم، قد تُعيدُ النُّسغَ إلى تلك الشَّجرة الميّتة لتورق من جديد، وتفتح الآفاق أمام تحالفات من نوع آخر، وتوحِّدَ قوى المعارضة بكُلِّ أطيافها، وترمِّمَ الجراح وتُعيد للحراك السِّياسيّ ألقه، لتغدو قوَّةُ وازنة على الأرض تحظى بدعم عربيٍّ ودوليّ، وتدخل في حوار مع الحكومة السُّوريّة، وتفرض عليها حلولاً وطنيَّة تُنقِذُ سوريّا من أزمتها.
لقد بات مصير جميع اللاجئين السُّوريّين مُهدَّداً، بعدما تَمَّ نشر كُلّ البيانات الشَّخصيَّة المتعلِّقة بهم، في محاولة من الحكومة التُّركيّة تهديدهم لحملهم على الخروج من تركيّا في ظروف غير ملائمة أمنيّاً ومعيشيّاً وترحيلهم بالقوَّة والإكراه إلى وطنهم الأمّ، فلا يزال قسم كبير منهم مطلوب لدى السُّلطات السُّوريّة، ولم تَتُمّ تسوية أوضاعهم بعد، فيما آخرين يفتقرون إلى أسباب الاستقرار في مدنهم وقراهم، بعدما طال الدَّمار كُلَّ منازلهم، ولدى عودتهم لن يجدوا مأوى لهم، ولا تتوفَّر لدى الحكومة السُّوريّة في الوقت الرّاهن إمكانيَّة إيوائهم في مراكز خاصَّة، إلى جانب التدهور الاقتصاديّ وانتشار البطالة وانخفاض قيمة اللَّيرة السُّوريّة مقابل العملات الأجنبيَّة. فرغم أنَّ الحكومة التُّركيّة ادَّعت أنَّ شاباً صغيراً قد تمكَّن من اختراق شبكة وزارة الدّاخليَّة وسحب منها بيانات اللّاجئين السُّوريّين، إلا أنَّ الواقع يدحض هذه المزاعم، ويؤكّد أنَّ الحكومة التُّركيّة نشرت تلك البيانات بشكل ممنهج وبعلم منها، ليَتُمَّ بعدها تقاسم تلك المعلومات بين المجموعات العنصريَّة، وخصوصاً من قبل الجماعة الفاشيَّة التي تُطلق على نفسها “الذّئاب الرَّماديَّة”، المعادية للّاجئين السُّوريّين. تلك الجماعة المرتبطة بشكل مباشر بحزب الحركة القوميَّة وتنفّذ تعليماتها بشكل مباشر. وتستطيع تلك الجماعات معرفة تواجد كُلَّ سوريٍّ عبر تلك البيانات، ليكونوا أهدافاً سهلة لهم، وفي معظم المدن التُّركيّة.
كما أنَّ تصريحات الرَّئيس التُّركيّ أردوغان المتلاحقة حول نيّته استقبال الرَّئيس السُّوريّ بشّار الأسد في تركيّا، وتوجيه الدَّعوة له بالتّزامن مع زيارة بوتين لأنقرة، تكشف أنَّه في عجلة من أمره لإنجاز المصالحة مع دمشق، ومهما كان الثَّمن، ولو كان على حساب دماء السُّوريّين. ومن جهة أخرى تظهر تلك التَّصريحات أنَّه دخل في صراع محموم مع المعارضة التُّركيّة التي أعلن زعيمها رئيس حزب الشَّعب الجمهوريّ “أوزعور أوزال” عن زيارة له إلى دمشق عبر لبنان والاجتماع مع الرَّئيس بشّار خلال شهر يوليو/ تمّوز الجاري، في سعي لترطيب الأجواء وسحب تلك الورقة الرّابحة من أردوغان، وعدم تمكينه الاستفادة منها سياسيّاً واقتصاديّاً، وتوظيفها في انتخابات قادمة، رغم قناعة الطرفين أنَّ المصالحة مرتبطة بسحب تركيّا قوّاتها من الأراضي السُّوريّة وإنهاء احتلالها لها، وهو ما بدأت تُلمِّح لها بعض وسائل الإعلام التُّركيّة، وطرحت أن يبدأ الانسحاب من مدينتي سري كانيه/ رأس العين وكري سبي/ تل أبيض، كونهما منفصلتان عن المناطق الأخرى التي تحتلّها، إضافة إلى أنَّهما تشكّلان عبئاً على تركيّا.
كُلُّ الاعتقاد أنَّ تركيّا لن تستطيع إسكات الأصوات المناوئة لها في الشَّمال السُّوريّ المنتفض ضُدَّها، وأساليبها القمعيَّة لن تزيد المعارضين لسياساتها إلا مزيداً من الإصرار على المطالبة بسحب القوّات التُّركيّة من سوريّا، ولقد وصلت العلاقات بينهما إلى نقطة افتراق لا رَجعةَ فيها، والقوى التّابعة لها ليس بمقدورها الوقوف ضُدَّ مطالب الشَّعب في تحرير نفسه وأرضه من سطوة الاحتلال، لطالما تحوَّلت إلى “مرتزقة” بيدها.