في مَعـ.ـرَكَةِ الوجود واللا وجود للكُرد ضُدَّ تركيّا
جميل رشيد
تواصل تركيّا عمليّاتها العسكريّة في إقليم كُردستان العراق منذ 26 يونيو/ حزيران الماضي، بعد أن توغَّلت مسافة أكثر من 40 كم داخل أراضي الإقليم، بقوّات عسكريّة ضخمة، قوامها /300/ دبابة وأكثر من /10/ آلاف جندي، لينتشروا في مناطق محافظة “دهوك”، وتقيم قواعد عسكريّة جديدة، إضافة إلى تنصيب الحواجز التي شرعت بتفتيش المارَّة وتدقّق على بطاقاتهم الشَّخصيَّة.
تحاول تركيّا إيهام العالم وخداعه بأنَّ دخولها إلى مناطق إقليم كُردستان، ينحصر بمحاربة قوّات حزب العُمّال الكُردستانيّ، وهي الحُجَّة التي تتذرَّع بها تركيّا دائماً لتبرير عمليّات غزوها للإقليم ولمناطق روجآفا وشمال وشرق سوريّا، رغم إدراك الجميع بأنَّ أهدافها احتلاليَّة ولا شيء غيرها، حيث تسعى التمركز بشكل دائم في المناطق التي دخلتها في “دهوك”، ولا أدلّ على ذلك إلا اللوحات التي وضعتها على الطرق العامَّة وكتبت عليها “هنا حدود تركيّا”، إضافة إلى قرصنتها لشبكة الاتّصالات العراقيّة “كورك”، حيث أنَّه بمجرَّد دخول حامل لهاتف خليويّ لتلك الشركة المناطق التي دخلت إليها القوّات التُّركيّة، حتّى تصله رسالة نصيَّة تقول “أهلاً بك في تركيّا”.
لكن يبدو أنَّ تركيّا أصيبت بخيبة أمل كبيرة، بعد أن توقَّعت وخطَّطت لإنهاء المعارك خلال مُدَّة قصيرة، وبالتّالي تَمكّنها من إنهاء تواجد قوّات “الكريلا” التّابعة لحزب العُمّال الكُردستانيّ، إذا ما قارناه بتصريح وزير الدفاع التُّركيّ “يشار غولر” الذي قال بأنَّ “عمليّات قوّاته رُبَّما تدوم حتّى شهر نوفمبر/ تشرين الثّاني القادم. يأتي هذا التّصريح بعد أن أبلى مقاتلو الكُردستانيّ في القتال، وأبدوا مقاومة شرسة ضُدَّ القوّات التُّركيّة الغريبة عن جغرافيَة المنطقة، والجاهلة بنقاط ضعفها وقوَّتها، فيما مقاتلو الكريلا لهم باع طويل في معرفة تفاصيل تضاريس المنطقة، بوديانها، سهولها، جبالها، تلالها، أنهارها، مضائقها، وكُلِّ شِبرٍ فيها، وهو يُعَدُّ عامل قوَّة لديهم، يمكّنهم من وضع الكمائن القاتلة للقوّات التُّركيّة، وتوجيه الضربات لها، ومن حيث لا تدري. وتمتاز قوّات الكريلا بسرعة الكَرِّ والفَرِّ وإمكانيَّة الاختباء داخل الأنفاق التي جهَّزوها في الجبال الوعرة، لتفادي ضربات الطيران التُّركيّ الحربيّ والمُسيَّر، إضافة إلى خوض حرب نفسيَّة قويَّة ضُدَّ القوّات التُّركيّة، والتي تضعها في حالة قلق وإرباك كبيرة، حتّى أنَّ وسائل إعلام تركيّة عديدة نشرت أخبار بأنَّ جنوداً وضُبّاطاً أتراكاً أقدموا على الانتحار جرّاء خوفهم من المواجهة مع قوّات الكريلا.
تحاول تركيّا جاهدة تزييف وتحريف معطيات وحقائق معادلة الميدان ومسرح العمليّات عبر الضَخِّ الإعلاميّ المكثَّف والمضَلِّل، تساعدها في ذلك وسائل إعلام دول متحالفة معها، في حين الحقائق على الأرض مغايرة تماماً للادّعاءات التُّركيّة والتَّرويج المبتذل لوسائل إعلامها، التي حشدت كُلَّ إمكانيّاتها لتقديم روايات مغالطة ومليئة بالعنصريَّة والدَّجل تجاه الكُرد ومقاتليهم، مقابل تمجيد “المهمجيك”، وهذا دأب تركيّا الجمهوريَّة منذ أن تأسيسها. إلا أنَّ الانتصار في السّاحة الإعلاميَّة لا يعني بالضرورة تحقيق الانتصار العسكريّ النّاجز، بل ينقلب إلى مُجرَّد فقاعة هلاميَّة سُرعان ما تنفجر في الهواء، ولا تغدو أكثر من أكاذيب فارغة ممجوجة وخداعاً للنّاس والرَّأي العام وخاصَّةً التُّركيّ.
تستخدمُ تركيّا أحدث أسلحة ترسانتها العسكريّة في عدوانها، من طائرات “إف – 16” الأمريكيَّة، ودبّابات “ليوبارد” الألمانيَّة المتطوِّرة، إضافة إلى الطائرات المُسيَّرة التي تصدر لها الدّول الغربيَّة، وعلى رأسها الولايات المتّحدة وكندا وألمانيا وبريطانيا قطع غيارها، فقط تقوم هي بتجميعها على أراضيها. مقابل العُدَّةِ والعدد الهائل للقوّات التُّركيّة، تمتلك قوّات الكريلا الإيمان بقضيَّتها والثِّقة العالية بالنصر، إلى جانب استخدامها تكتيكات وإستراتيجيّات عسكريّة حديثة، والتأقلم مع الجيل الخامس والمتطوِّر للحروب، واستخدام كُلّ تلك العلوم التي اكتسبتها من خلال الدَّورات التَّدريبيَّة في الدِّفاع عن نفسها وشعبها، وإمكانيَّة إلحاق خسائر كبيرة بالقوّات الغازية. هذا فضلاً عن تطويرها منظومتها الدِّفاعيَّة والقتاليَّة، من خلال امتلاكها وتصنيعها نماذج متطوِّرة من الطائرات المُسيَّرة “الدّرون/ الكاميكازي”، وكذلك صواريخ أرض جو، إضافة إلى الصَّواريخ المضادَّة للطائرات والدّروع، والمُسيّرات المفخّخة.
وقَدَّمَ القياديُّ في حزب العُمّال الكُردستانيّ “مراد قره يلان” هديَّة إلى الشَّعب الكُردي بمناسبة حلول عيد “نوروز” عام 2024، بأن أعلن عن امتلاك قوّاته منظومة دفاع جوّيٍّ، وبأنَّها تمكَّنت من إسقاط عشرات الطائرات المُسيَّرة التُّركيّة، وكذلك الحوّامات. وفي المعارك الأخيرة؛ أثبت الحزب قدرته على المواجهة وخلق نوع من “التّوازن العسكريّ” غير المتكافئ مع الجيش التُّركيّ، حيث تمكَّنَ من إسقاط عِدَّةِ طائرات مُسيَّرة تركيّة، إضافة إلى طائرة هيلوكوبتر، إلى جانب استهداف معسكرات ونقاط تمركز الجيش التُّركيّ ودبّاباته وعرباته العسكريَّة بالصَّواريخ المُوجَّهة وتحقيق إصابات محقَّقة في صفوف الجيش التُّركيّ، حتَّى أنَّ مقاتليه تمكَّنوا من إمحاء العديد من تلك النِّقاط.
لا شَكَّ أنَّ معادلات الميدان العسكريّ، تُلقي بظلالها على المشهد السِّياسيّ العام في كُردستان وتركيّا والمنطقة عموماً، وليس من المبالغة القول إنَّ أيَّ تغيير في توازنات المنطقة والسَّير نحو وضع حلول سياسيَّة لمشاكلها المستعصية، إنَّما باتت مُعلَّقة بنتائج المعارك الجارية في إقليم كُردستان، حيث ستفرز مُعطيات سياسيَّة وعسكريّة جديدة. فإن تمكَّنت القوّات التُّركيّة من تثبيت أقدامها في المنطقة، فستعمل على إلحاقها بشكل رسميّ بأراضيها، طالما تدَّعي منذ أمد بعيد أنَّها مناطق “عثمانيّة اُقتطعت منها في الاتّفاقيّات بين الإنكليز والفرنسيّين في المنطقة”، وبالتّالي تفرض طابعها، كما فعلت في عفرين وسري كانيه وكري سبي وباقي المناطق التي احتلّتها في سوريّا. إلا أنَّ السّيناريو الأكثر ترجيحاً والأقرب إلى الواقع؛ أنَّ قوّات الكريلا لن تدع الجيش التُّركيّ يَسرح ويَمرح كيفما يحلو له في المناطق التي يعتبرها الكُردستانيّ “مناطق الدِّفاع المشروع” له. والمتابعة اليوميّة لسير المعارك تزيد من القناعة بأنَّ الحزب فرض نفسه من خلال مقاومته المستميتة في الدِّفاع عن مناطقه وعن أهله الكُرد.
هذا الواقع المُستجدّ الذي أنتجته الأيّام الماضية من القتال الدّامي بين الطرفين؛ وجد انعكاساته في تغيير المواقف السِّياسيّة للعديد من القوى السِّياسيّة، خصوصاً العراقيَّة منها. برغم من صمت الحكومة المركزيَّة العراقيّة عن التَّوغُّل التُّركيّ غير المشروع في أراضي الإقليم، إلا أنَّ الضربات الماحقة التي تلقّاها الجيش التُّركيّ من قبل قوّات الكريلا؛ جعلت الحكومة العراقيَّة تخرج عن صمتها، وترسل مستشارها للأمن القوميّ “قاسم الأعرجي” على رأس وفد أمنيّ كبير إلى “هولير/ أربيل” للتَّباحث حول مستقبل العمليّات التُّركيّة في الإقليم. إلا أنَّه لم يصدر عن الوفد أيّ تصريح حول ماهيَّة المباحثات مع المسؤولين في حكومة الإقليم. غير أنَّه تعالت في الوقت نفسه الأصوات الرّافضة للتوغُّل التُّركيّ في عمق الأراضي العراقيّة، حيث طالب رئيس “عصائب أهل الحَقِّ” المدعو “قيس الخزعلي” القوّات التُّركيّة بوقف عمليّاتها داخل الأراضي العراقيّة والانسحاب الفوريّ منها، كما طالب الحكومة العراقيّة بطرح القضيَّة في مجلس الأمن الدّوليّ، وحمل تركيّا على الانسحاب.
غير أنَّ الأكثر إيلاماً هو صمت قيادات إقليم كُردستان، وخاصَّةً قيادة الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ حيال الهجمات التُّركيّة على أراضيه، ولا يجد المرء له تفسيراً غير القبول بالمخطَّط التُّركيّ لاحتلال المنطقة، بل والانخراط فيه. حيث كشفت مصادر حزب العُمّال الكُردستانيّ أنَّ قيادات قوّات بيشمركة الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ تعمل مع القوّات التُّركيّة ومتورِّطة في الكشف عن أماكن اختباء مقاتليه من الكريلا، إضافة إلى تقديم المعلومات الاستخباراتيَّة والإحداثيّات للقوّات التُّركيَّة، ما يُعَدُّ ضربة في صميم التَّعاون والتَّنسيق بين الحركات الكُرديَّة، ويزيد من حالة الشَّرخ والانقسام داخل البيت الكُردي المنقسم على نفسه أصلاً. فيما جاء تصريح القياديّ في الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ ووزير الخارجيَّة العراقيّ “فؤاد حسين” ليزيل كُلَّ التباسٍ حول حقيقة موقف قيادة حزبه من التَّوغُّل التُّركيّ، عندما قال “لا يوجد هجوم تركيّ واسع، بل هناك بعض العمليّات ضُدَّ عناصر حزب العُمّال الكُردستانيّ، وأنَّ هناك اجتماع ثلاثيّ بين بغداد وأنقرة وهولير في 15 أغسطس/ آب المقبل للتَّنسيق حول عمليّات الجيش التُّركيّ في الإقليم”. كما أنَّ أردوغان خلال عودته من اجتماع حلف النّاتو في واشنطن؛ كشف عن تعاون الجيش العراقيّ وحكومة الإقليم مع الجيش التُّركيّ، متوعِّداً بإحكام قبضة قوّاته على كامل الشَّريط الحدوديّ مع العراق، والسَّيطرة على بعض “الجيوب” في مناطق شمال وشرق سوريّا، مُهدِّداً في الوقت نفسه حزب الاتّحاد الوطنيّ الكُردستانيّ من مَغبَّةِ التَّعاون مع حزب العُمّال الكُردستانيّ.
أردوغان كان واضحاً أكثر من الحكومة العراقيّة وحكومة الإقليم، وهو يُعوّل عليهما في نجاح عدوانه على قوّات الكريلا ومناطق إقليم كُردستان. فقد وجد له مُتنفَّساً في العدوان، نتيجة ضغوط الأزمات التي تلاحقه في الدّاخل التُّركيّ. كما أنَّه يحاول جَرَّ الحكومة السُّوريّة وزَجَّها في معركة هامشيَّة لا ناقة لها فيها ولا جمل ضُدَّ الكُرد والإدارة الذّاتيَّة في شمال وشرق سوريّا، عبر استجداء المصالحة معه، إلا أنَّ المؤكَّد أنَّ خسارته في معاركه ضُدَّ قوّات الكريلا، ستقطع الطريق أمامه لإتمام أيَّ عمليَّة تطبيع للعلاقات مع دمشق، ورُبَّما تكون هذه المعركة معركته الأخيرة.
فيما تُعَدُّ المعركة بالنِّسبة للشَّعب الكُرديّ في الأجزاء الأربعة من كُردستان معركة الوجود أو اللا وجود، ويُفتَرَض أن تُزَجَّ فيها كُلَّ طاقات الكُرد، وبما يمكِّنهم من قلب الطاولة على أردوغان وحلفائه.
خاص/آدار برس
#ADARPRESS