مانشيتمقالات رأي

في مَلامِحِ فَشَلِ الحَّمـ.ـلَةِ التًّركيَّة بجنوب كُردستان 

جميل رشيد

مع تَعثُّر الحملة العسكريَّة التُّركيّة في باشور/ جنوب كردستان، وعدم تحقيقها أهدافها في القضاء على مقاتلي حزب العُمّال الكُردستانيّ (الكريلا)، أو وصولها إلى معاقلهم الرَّئيسيَّة، باتت ارتدادات الحرب تنعكس سلباً على الدّاخل التُّركيّ، وتُلقي بظلالها على المحيط الإقليميّ، لتفرز نتائج عكسيَّة، أقلُّ ما يُقالُ عنها إنَّها لا تَسُرُّ تركيّا.

إنَّ التكتيكات المتطوِّرة التي استخدمتها قوّات الكريلا في مقاومتها جيش الاحتلال التُّركيّ في الطبيعة الجغرافيَّة الوعرة جدّاً، حيث الجبال العصيَّة على الجنود الأتراك، الذين لم يتعوّدوا القتال فيها، فيما مقاتلو الكريلا خبروا كًلَّ الظروف والشّروط، لديهم المقدرة على القتال والمناورة في الصيف والشِّتاء، إضافة إلى إمكانيّة توجيه ضربات قاصمة لجنبات الجيش التُّركيّ ومؤخّرته ومُقدِّمته، مكَّنتها من تفادي القصف المتواصل للطيران الحربيّ والمروحيّ والمُسيّر، عبر الاختباء في الكهوف والأنفاق التي حفرتها منذ فترة طويلة، هذا فضلاً عن إقامة الكمائن في الطرق الرَّئيسيَّة، وتفجير المُدرَّعات والعربات العسكريَّة للجيش التُّركيّ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى حصول قوّات الكريلا على منظومات الدِّفاع الجوّيّ، من طيران مُسيَّر وصواريخ أرض – جوّ، وكذلك الصَّواريخ المُوجَّهة الدَّقيقة والمتطوِّرة المضادَّة للدّروع، وخاصَّة ضُدَّ الدبّابات والعربات المصفَّحة، كُلّ هذه العوامل قلبت موازين القوى العسكريَّة في الميدان لصالح الكريلا، ووضعت الجيش التُّركيّ في حالة الدِّفاع، دون إمكانيَّة الإقدام على شَنِّ هجمات برّيَّة قويَّة.

ارتفاع أعداد قتلى جنود وضباط الجيش التُّركيّ، جعله يعيش حالة تخبُّط، ولولا مساعدة قوّات بيشمركة الحزب الديمقراطي الكُردستانيّ له، لما تجرّأ في نشر قوّاته ضمن معظم مناطق “دهوك”، ويتمركز في بعض النِّقاط الإستراتيجيَّة (قمم الجبال، تلال، وضع حواجز على الطرق الرَّئيسيَّة وفي الممرّات الجبليَّة والوديان). وحسب المعلومات والبيانات الواردة من مسرح المعارك، لم يتمكَّن الجيش التُّركيّ من السَّيطرة على أيٍّ من النِّقاط التي تتمركز فيها قوّات الكريلا، بل انسحب من بعض المناطق التي انتشر فيها في بداية توغّله في أراضي باشور، بفعل الضربات القويَّة من قبل قوّات الكريلا.

تركيّا السّاعية إلى تعويم حربها في المنطقة لنيل الدَّعم والمساعدة من القوى الإقليمية وإشراكها في معركتها مع الكُرد وحزب العُمّال الكُردستانيّ، فشلت حتّى الآن في إشراك أيٍّ حلفائها في تلك الحرب القذرة، حتّى مرتزقتها (السُّوركيّين) بات العديد منهم يرفضون تعليمات الدولة التُّركيّة للتوجّه والمشاركة في حربها ضُدَّ الشَّعب الكُرديّ، وبعض هؤلاء المرتزقة الذين انصاعوا لأوامر تركيّا، وشاركوا في القتال؛ أصيبوا بخيبة أمل كبيرة بعد مقتل وأسر العشرات منهم، حيث أنَّ ظروف القتال في الجبال مختلفة كُلّيّاً عنها في سوريّا.

الحرب التُّركيّة في باشور حسب منطق الحروب؛ يمكن وصفها بأنَّها عدوان صريح يرقى إلى مستوى الاحتلال الفاضح، انخدعت بها بعض القوى الإقليمية، وفي مقدّمتها العراق. فرغم أنَّ رئيس الوزراء العراقيّ السُّوداني وافق ضمنيّاً على التوغُّل التُّركيّ خلال زيارة أردوغان لبغداد في إبريل/ نيسان الماضي، ولا يزال يلتزم الصمت حيال انتشار الجيش التُّركيّ على الجغرافية العراقيَّة، إلا أنَّ أصوات عديدة داخل العراق باتت ترتفع وتضغط على السُّودانيّ في ضرورة التحرُّك سياسيّاً ودبلوماسيّاً لكبح جماح التَمدُّد التُّركيّ، لإخراجها من الأراضي العراقيَّة.

إلا أنَّ صمت حكومة إقليم كردستان هو الأشَدُّ إيلاماً، ولم يصدر عنها حتّى الآن أيُّ تصريح رسميّ يُندِّدُ بالتوغُّل التُّركيّ، بل لاتزال تُندِّد بعمليّات ووجود الكريلا في باشور كردستان، وكأنَّ الجيش التُّركيّ قد خرج في نزهة وليس قوَّة احتلال. ومسؤولو وقيادات الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ تجدهم دائماً يبحثون عن تبريرات ومسوّغات للتدخُّل التُّركيّ، وكأنَّها – أي تركيّا – جاءت لتحرّرهم من قوّات الكريلا، وليست للتمدَّد في مناطق إقليم كردستان، والوصول إلى كركوك والموصل، وأنَّها من خلالهم وبمساعدتهم بدأت بتنفيذ مشروعها الاحتلاليّ المُسمّى “الميثاق الملّي”، حيث شرعت بإخلاء مئات القرى في ريف مدينة “دهوك”، تمهيداً لنشر مرتزقتها التُّركمان العراقيّين والسُّوريّين فيها واحتلالها، على غرار ما تفعله في عفرين وسري كانيه وكري سبي. وإن كان الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ لا يدري أنَّ تركيّا إن فرغت من عمليّاتها العسكريَّة في القضاء على حزب العُمّال الكُردستانيّ؛ فإنَّها ستدير وجهتها نحوها في تقويض الإقليم بشكل كُلّي، فتلك مصيبة، وإن كان يدري وهو جزء من تلك المؤامرة، فالمصيبة أعظم. وكان حَرِيٌّ بالدّيمقراطيّ الكُردستانيّ أن يساند قوّات الكريلا، لأنَّ وجودها في باشور كردستان ضمانة لوجودها هي أيضاً، وأيُّ إضعاف لقوَّة الكريلا، يعني في ذات الوقت أنَّ الإقليم بِرُمَّتِهِ في دائرة الخطر، وفي هذه المسألة يتَّفق العراق مع تركيّا في وضع الإقليم بين فَكَّيْ الكمّاشة، ولم تسعف زيارة رئيس الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ مسعود بارزاني لبغداد في إحداث شرخ بين العراق وتركيّا، وعدم تعاون الأوَّل مع الثّانية في تهديد الإقليم، بل رجَّحت بعض المصادر أنَّ بارزاني ناقش مع المسؤولين العراقيّين سُبُلَ دعم الحملة التُّركيّة، وتنسيق المواقف لمحاربة العُمّال الكُردستانيّ، وهذه تُعَدُّ كارثة للكُرد لم يسبق أن حدثت في تاريخ الكفاح الكُرديّ.

غير أنَّ تصريحات المسؤولين الأتراك، وعلى رأسهم أردوغان تكشف حقيقة الهزيمة التي مُنِيَ بها جيشه في باشور كردستان، حيث صَرَّحَ بأنّه سيوقف عمليّاته العسكريَّة هناك خلال وقت قصير، دون أن يعلن عن سحب قوّاته منه، ورُبَّما يُعَدُّ كلامه تصريحاً ملغوماً؛ الغرض منه تخفيف حِدَّة المعارضة لحربه الوحشيَّة، وتهدئة الرَّأي العام الدّاخليّ التُّركيّ الذي أصيب بصدمة بعد توارد جثث قتلى جيشه إلى تركيّا، وحالة الامتعاض من الحرب التي زَجَّ بها أردوغان شعبه فيها خدمة لمصالحه الانتخابيَّة، وهو ما تستغلُّه المعارضة في انتقاد سياسة أردوغان في إدارة البلاد، والتَّعامل مع القضيَّة الكُرديّة بمنطق العنف الأعمى، دون إبداء أيّ نيَّة في العودة إلى مرحلة السَّلام وحَلِّ القضيَّة الكُرديّة سلميّاً.

التخبُّط السِّياسيُّ التُّركيّ إثر الضربات العسكريَّة الكبيرة التي تلقّاها جيشها على يد الكريلا في باشور كردستان، جعلتها ترمي التُّهم جزافاً يميناً ويساراً على بعض القوى الإقليميَّة والدّوليَّة، والادّعاء بأنَّها تسلّح الكريلا، وتقدّم الدَّعم لها في مواجهة جيشها، فاتَّهمت الولايات المتّحدة بتقديم الصَّواريخ والطائرات المُسيَّرة لها، وهذا ديدن الأنظمة الدّيكتاتوريّة في الشَّرق الأوسط، دائماً تُوزِّعُ فشلها على الكُلّ، ولا تتجرّأ في انتقاد سياساتها تجاه أيّ من الأزمات والقضايا التي هي من أوجدتها لديمومة سلطتها. فالصَّواريخ التي بحوزة قوّات الكريلا، يَتُمُّ تصنيعها محلّيّاً، وبات بوسع كُلّ القوى القدرة على امتلاكها، وهو ليس بالأمر الجديد، وتحاول تركيّا تجاهل إصرار حزب العُمّال الكُردستانيّ على انتصار القضيَّة التي يكافح من أجلها، رغم قناعتها أنَّه – أي العُمال الكُردستانيّ – يستند في تحقيق انتصاراته على قوة وصمود مقاتليه، وتحمّلهم كُلَّ الظروف الصَّعبة لكفاحهم، وأَزيَدُ من ذلك أنَّ الحركة تُجدِّدُ نفسها بشكل يوميّ وتطوِّر أساليبها في القتال، استناداً إلى ميراث نضاليّ يَمتدُّ إلى أكثر من أربعين عاماً من الكفاح المُسلَّح، اكتسب خلاله خبرات وتجارب عديدة؛ تؤهِّلُه لتحقيق قفزات هامَّة ولافتة في صراعه مع الحكومات التُّركيّة المتعاقبة.

مثلما هُزِمَ الجيش التُّركيّ أثناء توغُّله في باشور كردستان سابقاً، وتحديداً في منطقتي “زّاب” و”متينا” في عامي 2007 و2008، يبدو أنَّ التّاريخ سيكرّرُ نفسه، ويضيف إلى سِجِلِّ الهزائم التُّركيّة هزيمة ثالثة في “زّاب”، وبدأت ملامحها تتّضح رويداً رويداً، من خلال إسقاط الطائرات المروحيّة والمُسيّرة، التُّركيّة من قبل قوّات الكريلا. فرغم أنَّ القتال على أَشُدِّهِ، والجيش التُّركيّ كعادته يلجأ إلى استهداف القرى ومنازل المدنيّين، لخلق ضغطٍ شعبيٍّ على قوّات الكريلا، بعد أن أدرك أنَّ هزيمته في الميدان بدأت تلوح في الأفق، ورُبَّما يتعمَّد ارتكاب مجازر كبيرة ضمن صفوف المدنيين، في محاولة لإلصاقها بقوّات الكريلا، وهي القَشَّةُ التي يتمسَّك بها جيش الاحتلال التُّركيّ دائماً عندما يجد نفسه في وضع لا يتمكَّن فيه من تحقيق أيِّ نصر يُذكر في ساحة المعركة، إلا أنَّ وجوده في باشور كردستان بات على المِحَكِّ.

إنَّ نجاح تركيّا في تحقيق أهدافها التوسُّعيَّة والاحتلاليَّة في باشور كردستان من عدمه، مرتبط بالدَّرجة الأولى بمقاومة الكريلا، ولا أحد من أبناء الشعب الكُرديّ يَشُكُّ فيها مطلقاً. وما تبيَّن خلال الأشهر الثَّلاثة الماضية من عمر الحملة التُّركيّة الاحتلاليَّة، أنَّ مؤشِّرات فشلها أقوى من نجاحها، ولم تسعفها مساندة الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ والعراق لها، ويبقى في النِّهاية للميدان الكلمة الفصل في تحديد ملامح المرحلة المقبلة من الصراع، وهو من يرسم السِّياسات والإستراتيجيّات الجديدة.

خاص/آدار برس

#ADARPRESS

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى