في شُروطِ نَجاحِ الحِوارِ الكُرديّ – الكُرديّ
جميل رشيد
عاد الحوار الكُرديّ – الكُرديّ بين أطراف الحركة الكُرديّة في روجآفا، ليتصدَّرَ واجهة الاهتمامات السِّياسيّة والإعلاميَّة، بعد أن أفصح قائد قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة عن قُرب بدء الحوار خلال حديث له مع وكالة “هاوار” للأنباء. وتأتي الدَّعوة إلى الحوار في ظِلِّ توتُّرٍ للعلاقات، وتبادُلٍ للاتّهامات البينيَّة بين طرفي الحوار، أحزاب الوحدة الوطنيَّة الكُرديّة (PYNK) والمجلس الوطنيّ الكُرديّ (ENKS) وتوقُّف الحوار بينهما منذ عامين.
إنَّ أيَّ حوارٍ بين طرفين سياسيين يُبنى على حقائق موضوعيَّة، وله أسبابه ودواعيه السِّياسيّة بالدَّرجة الأولى، وفي الحالة الكُرديّة في روجآفاي كُردستان، يغدو الحوار ضرورةً حيويَّة، ليس بين أطراف الحركة الكُرديّة فقط، بل مع مختلف القوى المحلّيَّة والإقليميّة والدّوليّة، نظراً لحجم التَّهديدات الكبير الذي تواجهه روجآفا وشمال وشرق سوريّا عموماً، وهي تضع الحركة الكُرديّة أمام استحقاقات وطنيَّة وإستراتيجيَّة، أوَّلها الحفاظ على هيكليَّة الإدارة الذّاتيَّة تحت كُلِّ الشُّروط والظروف.
لا شَكَّ أنَّ مقدِّمات ودواعي استئناف الحوار مَرَّةً أخرى، تغدو في ظِلِّ الظروف الرّاهنة أكثر من ضروريَّة، وعطفاً عليها؛ فإنَّ أيَّ شروط مسبَّقة ومن كلي الطرفين للعودة لطاولة الحوار، تبدو بمثابة وضع العُصي في دواليب الحوار، والإقرار سلفاً وقبل أن يُطلق الحوار بأنَّه عقيم ولا جدوى منه، ليعود به إلى المربَّع الأول، وكأنَّك يا أبا زيد ما غزيت. فأيُّ تشبُّثٍ بالشُّروط سيطلق الطلقة الأخيرة على الحوار، بل سيتحوَّل إلى عداوة مستفحلة أكثر من السّابق، وليبدأ كُلُّ طرف بإلقاء اللَّوم على الطرف الآخر في إفشال الحوار، وعدم التوصُّل إلى مُخرَجات ونتائجَ تُثلج قلوب الشَّعب الكُرديّ، ليس في روجآفا فقط؛ بل في جميع أجزاء كُردستان.
غير أنَّ التَرِكة الثَّقيلة من الخلافات، وارتباط بعض الأطراف الكُرديّة ببعض الجهات الإقليميّة، التي أقَلُّ ما يُقال عنها أنَّها مُعادية للشَّعب الكُرديّ، وفَكُّ العلاقة والارتباط بها، تُعَدُّ من أولى مقدِّمات الدّخول في حوار كُرديّ – كُرديّ جادٍّ وفعليٍّ، وهو الضمانة الأولى للخروج بنتائج وقرارات وطنيَّة كُرديّة، وما عدا ذلك لن يكون أكثر من مضيعة للوقت، ويتحوَّل حينها الطرف الدّاخل في تحالفاتٍ مع الخارج؛ إلى ممثِّل لتلك الجهات على طاولة الحوار، ما يجعل من الطرف الآخر يُشكِّكُ في مصداقيَّته، وبالتّالي يكون حينها بديهيّاً أن يضع شرط فَكَّ العلاقة لإنجاح الحوار، ودفعه نحو مرحلة متقدِّمة.
فإن كانت المرحلة الأولى من الحوار قد تُوِّجَت بتوقيع الطرفين، أحزاب الوحدة الوطنيّة الكُرديّة وأحزاب المجلس الوطنيّ الكُرديّ، على الوثيقة السِّياسيّة قبل عامين، ومن ثُمَّ توقَّف الحوار عندها، فإنَّ استئنافه عند المرحلة التي توقَّف فيها، يمكن أن يبدأ بعد زرع الثِّقة بين الطرفين. فحجم البون الواسع بينهما، والكَمُّ الهائل من الأحقاد والاتّهامات المتبادلة، تجعل من مَهمَّة الحوار عويصة وبحاجة إلى أكثر من وسيط لتقريب وجهات النَّظر بينهما. فرغم أنَّ الولايات المتّحدة وفرنسا أعربتا عن نيَّتهما في التَّقريب بين الطرفين، إلا أنَّ الخلفيَّة الإيديولوجيَّة والسِّياسيّة لأحزاب المجلس الوطنيّ الكُرديّ، وانحيازه لأكثر من جهة كُرديّة وإقليميَّة، وفي مقدِّمتها الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ في باشور، ووجوده ضمن الإئتلاف السُّوريّ، وبالتّالي الخضوع للإملاءات والشُّروط التُّركيّة، إضافة إلى مطالبته بتقاسم المكاسب مع الإدارة الذّاتيَّة وفق سياسة “فيفتي – فيفتي” يجعل من الحوار محكوماً بالفشل.
فلم يعد أحد يقتنع بالتقاط الصور التذكاريَّة بين الطرفين بأنَّ وحدة الصفِّ الكُرديّ قد تحقَّقت، بل يتأمَّل الجميع نتائج تنعكس واقعاً ملموساً. ويتوجَّب على الجولة الثّانية أن تخرج ببرنامج سياسيّ وعمليّ لحَلِّ القضية الكُرديّة في سوريّا المستقبل، والحفاظ على مكتسبات الإدارة الذّاتيَّة، قبل الحديث عن تقاسمها. ومن نافل القول إنَّ المجلس الوطنيّ الكُرديّ يبحث عن مساحات ليتصدَّر المشهد السِّياسيّ دون بذل أيّ مجهود في البناء والتصدّي للتحدّيات التي تواجهها الإدارة الذّاتيَّة وروجآفا عموماً.
ولكن السّؤال الجوهريُّ والرَّئيسيُّ الذي يطرح نفسه قبل أيّ شيء آخر؛ أنَّ موافقة المجلس الوطنيّ الكُرديّ على المشاركة في أيّ حوار مع أحزاب الوحدة الوطنيّة الكُرديّة (PYNK) تضعه في موقع تحمّل مسؤوليّاته الوطنيّة “الكُرديّة”، ألا وهي المطالبة والعمل من أجل تحرير المناطق المُحتلَّة، أي أنَّه يصبح في موقع مضادٍّ لدولة الاحتلال التُّركيّ، فهل لدى المجلس القدرة والقرار السِّياسيّ الدّاخليّ لدخول مواجهة مع دولة الاحتلال، في ظِلِّ وجود معظم قياداته على الأراضي التُّركيّة، وهي تحتلُّ مواقع قياديَّة ضمن صفوف الائتلاف “الإخوانيّ – التُّركيّ”؟ هذا فيما إذا علمنا أنَّه منذ أيّام شهدنا طرد أحد القياديّين من صفوفه لمجرَّدِ نطقه بكلمة “احتلال تُركيٍّ لعفرين وسري كانيه وكري سبي”. بالمقابل أحزاب (PYNK) تُقيم على أراضي روجآفا، وتتّخذ قراراتها بشكل مستقلٍّ عن الدّول الغاصبة لكُردستان، ولا سُلطةَ لأيِّ جهة عليه في إملاء شروطه.
إنَّ إعادة التَّوازن للعلاقات بين الطرفين، يستدعي أوَّلاً الكَفَّ عن توجيه التُّهم المتبادَلة والقطع مع سياسة التَّخوين، وعدم القفز فوق المُسلَّمات والبديهيّات في مسار ثورة روجآفا وشمال وشرق سوريّا. وهذه المسألة تنطوي على مخاطرة كبيرة، فيجب أخذ الحيطة والحذر من محاولة المجلس الوطنيّ الكُرديّ لَيِّ ذراع أحزاب الوحدة الوطنيّة وربطها مع أجندات تركيّا الاحتلاليّة، وتمرير مشاريع خبيثة عليه من قبيل التَّماهي مع سياسات الاحتلال التُّركيّ لأراضي روجآفا، والقبول به كـ”أمر واقع”، مقابل الانخراط في مؤسَّسات وهياكل ما تُسمّى المعارضة السُّوريّة مثل الإئتلاف وغيرها، والذّهاب بها بعيداً لتنسلخ عن واقعها الكُرديّ في روجآفا.
نضوج مقدِّمات أيّ حوار ناجح يَفترِض أن يتهيَّأ الطرفان المتحاوران لإبداء تنازُلات متبادَلة، لا فرض شروط مسبقة قد تكون سبباً مباشراً في إفشاله. وعلى ضوء الأحقاد المتراكمة بين الطرفين، تبدو فُرص فشل الحوار أكثر من نجاحه، ما يتطلَّب قوَّةً خارِقةً تزرع الثِّقة المفقودة بين الطرفين، وخاصَّةً من جانب المجلس الوطنيّ الكُرديّ، الذي يتشبَّث بشروطه. فمن بديهيّات هذا الحوار هو الاعتراف بالإدارة الذّاتيَّة وقوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، وهو ما ينكره المجلس، فكيف يَستقيمُ الأمر لديه بأن يُطالب بتقاسم المكاسب مناصفة مع أحزاب الإدارة، وهو في ذات الوقت لا يَعترف بالإدارة، ألا يستدعي أن يفكِّرَ المجلس بالعمل والتَّضحية في سبيل الحفاظ على الإدارة ومكتسباتها، قبل أيّ شيء آخر؟
رَدَّ المجلس الوطنيّ الكُرديّ على تصريح الجنرال “مظلوم عبدي” بأنَّه أوصل موقفه إلى الجنرال والولايات المتّحدة، فيما ممثّلو بعض أحزاب الوحدة الوطنيّة، أكَّدوا أنَّ هناك تحضيرات لبدء الحوار خلال شهر أغسطس/ آب القادم، دون أن يكشف الطرفان عن ماهيَّة تلك التَّحضيرات، إلا أنَّها على الأرجح تتمحور حول نقطة رئيسيَّة واحدة لا غيرها؛ ألا وهي كيفيَّة إدارة الحوار في ظِلِّ وجود قيادات المجلس الوطنيّ في تركيّا، وهل يقتصر دور المجلس حول طاولة الحوار في نقل الرَّسائل التُّركيّة إلى الطرف الآخر، وهل هناك إمكانيَّة لأن يقطع المجلس علاقاته بشكل نهائيّ مع تركيا، بعد أن كشفت الأخيرة عن نواياها في تطبيع العلاقات مع الحكومة السُّوريّة. ولنطرح السّؤال بصيغة أخرى؛ هل أدرك المجلس أنَّ السكين قد وصلت إلى رقبته بعد بدء تركيّا مسلسل بيع المعارضة بأبخس الأثمان إلى دمشق، فهو يحاول من خلال الحوار مع أحزاب الوحدة الوطنيّة تدارك مصيره المنتظر وإنقاذ نفسه؟
الواضح أنَّ المجلس الوطنيّ الكُرديّ إن امتثل لدعوة الجنرال “عبدي” في المشاركة بالحوار؛ فإنَّه لا يملك أيَّة أوراق يمكن أن يفاوض بها الطرف الآخر، بل سيذعن لشروط أحزاب الوحدة الوطنيّة، والقبول بما تمليه عليه، والعودة إلى الصَفِّ الوطنيّ والقطع مع سياساته القديمة، وهي الطريقة الوحيدة للَمِّ شمل البيت الكُرديّ المشتَّت.
المرحلة التي تَمُرُّ بها سوريّا وروجآفا تشهد تطورات مصيريَّة، لجهة رسم مستقبل سوريّا، بعد أن حان الوقت لتضع الحرب أوزارها، وهذا الوضع المُستَجِدُّ يتطلَّب من جميع الأطراف الوطنيّة الكُرديّة التحرُّك بروح المسؤوليَّة التّاريخيَّة، وعدم تفويت الفرُصة مَرَّةً أخرى لنيل الشَّعب الكُرديّ حقوقه المشروعة، وهي مَهمَّة ليست بتلك السُّهولة التي يتوقَّعها البعض، ووحدة الصَفِّ الكُرديّ هي من أولى متطلَّبات الدّخول في معادلة الحَلِّ السُّوريّة النِّهائيَّة، وأيُّ تهاونٍ قد يجعل الشَّعب الكُرديّ يفقد جميع المكاسب التي حقَّقها بالدَّم والعرق، ولا يريد أحد أن تتكرَّر المقولة التَّقليديَّة الممجوجة بأنَّ “الكُردَ يفقدون في السِّياسة وعلى طاولة الحوار ما يحقِّقونه بالسِّلاح”!