شنكالُ.. أسئلةٌ مُحيّرَةٌ ومصـ.ـيرٌ يَلُفُّهُ الغـ.ـموض
جميل رشيد
بعد مرور عشر سنوات على المجزرة التي ارتكبها تنظيم “داعش” الإرهابيّ في شنكال؛ لا تزال أسئلة كثيرة تدور حول مَنْ خطَّط ودعم التَّنظيم الإرهابيّ ليستبيح مناطق شنكال بكُلِّ ما فيها من بشر وشجر وحجر، وما هي أهداف القوى التي أمدَّت التَّنظيم بكُلِّ أسباب القوَّة، ليتمكَّن من تنفيذ المَهمَّة الموكَلة له، وكذلك من الضروريّ إظهار التَّخاذل المحلّيّ – وخاصَّةً الكُرديّ – والإقليميّ والدّوليّ إزاء أكبر عمليَّة تطهير عرقي “جينوسايد” تجري في القرن الواحد والعشرين، والأنكى من ذلك صمت العالم، خصوصاً الغربيّ الذي يَدَّعي ويتبجَّح بحقوق الإنسان والدّيمقراطيّة والعدالة الاجتماعيَّة.
تناول المجزرة بتجَرُّدٍ، كفعلٍ عسكريّ إجراميٍّ محضٍ له جذوره التّاريخيَّة، والتَّبرير له استناداً إلى الخلافات والصراعات الدّينيَّة والمذهبية، دون معرفة أسباب نشوء التَّنظيم “الوظيفي”، تبقى نظرة قاصرة، وتظَلُّ العديد من الأسئلة مُبهمَة ودون أجوبة واضحة، ولا تكشف بواعث التَّنظيم وَمَنْ وراءه في التوجُّهِ إلى شنكال وليس غيرها.
بداية ظهور تنظيم “داعش” الإرهابيّ على المسرح العسكريّ بهذه القوَّة، وتمكُّنِه من السَّيطرة على مساحات واسعة في العراق وسوريّا، لم يكن لِيتُمَّ لولا أنَّ قوَّة كبيرة تقف وراءه وتَمُدُّهُ بالعتاد والأموال، وتُمَهِّدُ له عبر الدّعاية الإعلاميَّة اللّازمة، ليؤثّر على الأفراد وبعض المجتمعات التي انساقت وراء تلك البروباغاندا الدَّمويَّة السخيفة المليئة بالتَّهديد والوعيد لكُلِّ من لا يسير وراء أهوائه الإجراميَّة. كذلك فتحت العديد من الدّول حدودها على مصراعيها أمام التحاق الآلاف من الأشخاص بصفوف التَّنظيم. فتركيّا جعلت أراضيها ممرّاً للعناصر الأجنبيَّة المُلتحِقة بالتَّنظيم، وغدت مطاراتها تستقبل الآلاف منهم، وقدَّمت كُلَّ التسهيلات لدخولهم الأراضي العراقيَّة والسُّوريَّة.
تركيّا ومعها عدد من الدّول، استثمرت في التَّنظيم مثل أيّ شركة استثماريَّة أخرى. لقد استطاعت تركيّا توليف التَّنظيم ودفعه لمحاربة الكُرد في روجآفاي وباشور كردستان أيضاً، محاوِلَة القضاء على ثورة روجآفا وحركة التحرّر الوطنيَّة الكُردستانيّة بشكل عام.
لم يكن اختيار تنظيم “داعش” الإرهابيّ الهجوم على شنكال، كأولى المناطق الكُرديّة، أمراً اعتباطيّاً، بل جاء وفق تعليمات ومخطَّطات أعدَّت له الاستخبارات التُّركيّة، وبالتَّعاون مع عدد من الدّول الإقليميَّة والغربيَّة مثل حكومة “المالكي” في العراق، ليعتمد التَّنظيم الإرهابيّ على عنصر “الصَّدمة والمفاجأة” لإرهاب الشَّعب الكُرديّ وحركته التَّحرّريّة، وكسر روح المقاومة لديه، ليَسهُل بعدها السَّيطرة على كامل المناطق الكُرديّة في باشور وروجآفا، إضافة لاستخدام التَّنظيم أداة في تنفيذ مشروعها للتمدُّد في المنطقة. إنَّ اعتقال التَّنظيم عناصر القنصليَّة التُّركيّة في الموصل، ومن ثُمَّ الإفراج عنهم وتسليمهم للدَّولة التُّركيّة عبر معبر كري سبي، يُفسِّرُ العلاقة الوطيدة بين تركيّا والتَّنظيم، وكذلك يجيب على الكثير من الأسئلة التي تدور حول أسباب اختيار التَّنظيم الهجوم على شنكال.
إنْ كان التَّنظيم الإرهابيّ اعتمد سياسة القتل والحرق والتدمير، كأسلوب للتمدُّد في المنطقة كتنظيم عابر للحدود والدّول؛ فإنَّ تركيّا وحلفائها راهنت على تكريس سيطرة التَّنظيم في المناطق التي سيطر عليها، كمقدِّمة لاعتباره مناطق نفوذ لها، وجعل التَّنظيم يعمل وفق مقتضى المصالح التُّركيّة، وأوَّلها وأد حركة التَّحرّر الوطنيّة الكُردستانيّة.
قد يُرجِعُ البعض أسباب المجزرة إلى قوَّةِ التَّنظيم وقدرته على اجتياح مناطق شاسعة خلال أيام معدودة، خاصَّةً بعد سيطرته على الموصل وقاعدة “سبايكر” العراقيَّة واستيلائه على كميّات كبيرة من الأسلحة والعتاد العسكريّ الثَّقيل بما فيها الدبّابات والمدافع، إلا أنَّ العقيدة العسكريَّة لدى كُلّ القوّات العسكريَّة والجيوش في العالم؛ تؤكِّدُ على نظريَّة إمكانيَّة التغلُّب على العدو والخصم، وبعتاد خفيف وأعداد معقولة من الجنود والمقاتلين، إن كانت تلك القوَّة تمتلك روح المقاومة والتَّصميم على تحقيق النَّصر، ولديها التكتيكات المناسبة لإلحاق ضربات قاصمة بعدوِّها. ما حصل في شنكال في بداية هجوم التَّنظيم الإرهابيّ؛ أنَّه لم يلقَ أيَّ مقاومة تُذكر أمام زحفه الوحشيّ الكثير العدد، ولم تُطلَق طلقة واحدة على جحافله. فقوّات البيشمركه المرابضة في شنكال والتي قُدِّرَت أعدادها بنحو /11/ عنصر، وهي مدجَّجة بالأسلحة الثَّقيلة، كانت قادرة على صَدِّ هجوم التَّنظيم الإرهابيّ، أو على الأقل إشغاله لفترة من الزمن، ريثما يتمكَّن المدنيّون الخروج من مناطقهم والوصول إلى مناطق آمنة، تُبعدهم عن المجازر. إلا أنَّه حتّى الآن لا يجد أيّ من المراقبين والمحلّلين السِّياسيّين والعسكريّين تفسيراً للانسحاب المفاجئ وغير المتوقَّع لقوّات البيشمركه من شنكال. كذلك حكومة إقليم كردستان المسؤولة عن قوّات البيشمركه، وخاصَّةً الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ لم يُقدِّم تفسيراً واقعيّاً ومُقنِعاً عن أسباب انسحاب البيشمركه. والحال هذه؛ فإنَّ الانسحاب غير المنطقيّ للبيشمركه؛ لا يمكن فهمه إلا في إطار انخراط قياداتها ومسؤوليها السِّياسيّين في مُخطَّط التَّنظيم لتنفيذ المجزرة والتَّنكيل بالإيزيديّين، انطلاقاً من مفاهيم دينيَّة ومذهبيَّة ضيّقة، مقابل الابتعاد عن القيم الوطنيَّة الكُردواريَّة بشكل كُلّيٍّ. هذا ليس اتّهاماً؛ بل نتيجة واقعيَّة لما آلت إليه الأمور في شنكال قُبيل وبعد المجزرة.
لا يمكن لحكومة الإقليم والحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ أن يبرئ ساحته من المسؤوليَّة الكاملة عن وقوع المجزرة وسقوط الآلاف من الضحايا وسبي آلاف أخرى من النِّساء، وبيعِهُنَّ في أسواق النِّخاسة في الموصل وتلعفر والرِّقَّة وحتّى اليمن، إلا بفتح تحقيق محلّيّ ودوليّ شفّاف، وتقديم المسؤولين عن إصدار قرار عدم حماية الإيزيديين، والانسحاب من شنكال إلى محاكمة عادلة لينالوا جزاءهم العادل، بغضِّ النَّظر عن موقع الأشخاص المتورِّطين، وقُربهم من مواقع النُّفوذ الحزبيّ والحكوميّ والعائليّ. وقبل هذا وذاك ضرورة تقديم نقد ذاتيّ أمام الشَّعب الكُرديّ، وخاصَّةً أمام الإيزيديّين. فهل الإقليم وقيادة الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ يملكان الجرأة للإقدام على هذه الخطوة؟ كُلُّ المؤشِّرات والدَّلائل تُؤكِّدُ أنَّ الإثنين بعيدان عن الشّروع بتلك الخطوة، وأوَّلها فتح أبواب إقليم كردستان أمام جيش الاحتلال التُّركيّ ليغزو مناطق شاسعة من أراضيها، والاشتراك مع جيش الاحتلال في محاربة الكريلا. إنَّ الانسحاب من شنكال في عام 2014، جَرَّ وراءَه سلسلة طويلة من الإخفاقات للإقليم وللحزب الدّيمقراطيّ، وصلت معهما إلى مرحلة التَّعاون والعمل مع العدو ضُدَّ بني جلدتها.
بالمقابل؛ بادرت قوّات الكريلا إلى التدخُّل بشكل سريع في إنقاذ الإيزيديّين الفارّين من الموت الذي يلاحقهم في كُلِّ خطوة، بضع مقاتلين تمكَّنوا في البداية من صَدِّ الهجوم الواسع البربريّ للتَّنظيم الإرهابيّ مثل الشَّهيد “شورش خنس”، وإيصال الشّيوخ والنِّساء والأطفال إلى قمَّة جبل شنكال. ومن جهة روجآفا؛ تدخَّلت وحدات حماية الشَّعب والمرأة الـ(YPG) والـ(YPJ) وفتحت كريدوراً (ممرّاً) نحو مناطق روجآفا، وأنقذت عشرات الآلاف من المجزرة، وأوصلتهم إلى المناطق الآمنة، وقدَّمت لهم المأكل والمشرب، وأسعفت المُصابين والمرضى إلى المشافي لتلقّي العلاج اللازم.
لولا تدخُّل قوّات الكريلا ووحدات حماية الشَّعب والمرأة في وقف تمدُّدِ التَّنظيم الإرهابيّ؛ بالتَّأكيد لكان حجم الكارثة التي حَلَّت بالإيزيديّين أكثر فداحة وبشاعة، فقرار التَّنظيم وحلفائه كان استئصال الإيزيديّين من شنكال بشكل نهائيّ، وتدمير مزاراتهم ومقدَّساتهم في المنطقة. ورغم عدم قبول بعض الأفراد الوطنيّين من البيشمركه الانسحاب من شنكال، ووقوفهم مع الكريلا ووحدات الحماية في مقاومة التَّنظيم الإرهابيّ، إلا أنَّهم تعرَّضوا للمساءلة لعقوبات قاسية من قبل قياداتهم، وهذا يَدُلُّ على تورُّطِ بعض قيادات البيشمركه في المجزرة، فلا يمكن دحض الرّوايات التي أدلى بها هؤلاء البيشمركه عن الانسحاب المخزي بأيّ شكل من الأشكال.
إنَّ لقاء رئيس الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ مسعود البارزاني ببعض قادة الكريلا في “مخمور” وتقديمه الشُّكر لهم في صُدِّ هجوم تنظيم “داعش” الإرهابيّ على معظم مناطق باشور كردستان، دلالةٌ كافيةٌ على الدَّور التّاريخيّ الذي لعبته الكريلا في حماية باشور. تنظيم “داعش” الإرهابيّ وصل على مقربة من “هولير”، ما دفع أهالي المنطقة للجوء إلى الجبال، ولكن ما أن أدرك الأهالي وصول قوّات الكريلا إلى “مخمور” وزحف قسم منهم نحو “هولير” لحمايتها؛ حتّى عاد الجميع إلى منازلهم وشعروا بالأمن والاستقرار بأنَّ التَّنظيم غير قادر على الوصول إلى “هولير” واقتحامها، وهذه إشارة كافية للتَّأكيد أنَّ قوّات الكريلا تحمي باشور كردستان، وخاصَّةً خاصرته الشِّماليَّة.
إلا أنَّه بعد عمليَّة تحرير شنكال من التَّنظيم الإرهابيّ، والتي اشتركت فيها قوّات الكريلا بشكل رئيسيّ وكذلك وحدات حماية الشَّعب والمرأة، وقسم من البيشمركه، وقف البارزانيُّ على قمَّة جبل شنكال، ليقدِّمَ الشُّكر إلى قوّات البيشمركه وحدها، ويتنكَّر لتضحيات ومقاومة الكريلا ووحدات حماية الشَّعب والمرأة، وهو الإسفين الأوَّل الذي دُقَّ في جسد الوحدة الكُرديّة التي تحقَّقت في الميدان، بعد مجزرة شنكال.
إن كان الإيزيديَّون قد دفعوا أكلافاً باهظة نتيجة تمسُّكهم بمعتقدهم الدّينيّ عبر تاريخهم الموغل في القدم، وتعرَّضوا لـ/74/ فرماناً للموت والإبادة، وأنَّه حانت في لحظة من التّاريخ أن تتَّحِدَ البنادق الكُرديّة لتُعيدَ ما فقده الإيزيديّون طيلة تاريخهم المعمَّد بالدَّمِ؛ فإنَّ المؤامرات الدّاخليَّة والخارجيَّة لاتزال مستمرِّةً على مصيرهم ومستقبلهم، وهي تتقاذفهم بين أهواء التمسُّك بالسلطة ونوازعها من قبل البعض، وبين التفافهم حول إدارتهم الذّاتيَّة وقوّاتهم العسكريَّة، وفي كُلِّ الأحوال فإنَّ قوَّتهم الذّاتيَّة وعقيدتهم في حماية أنفسهم، ومواجهة كُلِّ التحدّيات؛ تبقى أقوى من كُلِّ مُخطَّطات وألاعيب المتربِّصين بهم.