الهُويَّة الكُرديَّة.. بينَ قَضايا الاغترابِ وتَحدّياتِ طَمسِها
جميل رشيد
تُعَدُّ هُويَّة أيّ شعب التَّعبير الأوضح لثقافته وحياته الاجتماعيّة، وطرائق تفكيره وعلاقاته الدّاخليَّة بين أفراد مجتمعه. ويحمل أفراده سماتها منذ نعومة أظفارهم، لتبقى ملازمة لهم طيلة حياتهم. وكذلك تُعتبر المرآة التي تعكس نمط حياتهم الفكريَّة والسِّياسيّة والاقتصاديَّة، وفق التَّوصيف الماركسيّ.
يكفي للقضاء على أيّ شعب من الشُّعوب مَحوَ هُويَّته الثَّقافيَّة والقوميَّة والوطنيَّة والمُجتمعيَّة، فيَسهُل صهره في بوتقة الهُويّات الأخرى، ليصل بأفراده إلى تبنّي الهُويَّة السّائدة والمُسيطرة، ويتغنّوا بها.
لقد دأبت كُلُّ القوى المُهيمِنة على مَرِّ التّاريخ، اتّباع أساليب الغزو والحروب لمحوِ الهُويّات الخاصَّة بالشُّعوب التي تحتلُّها، وتفرض هُويَّتها على أفراد الشُّعوب المُستعمَرة، عبر القضاء على موروثها الثَّقافي والفكريّ، وتفكيك بنيته المُجتمعيَّة، والتَّرويج لثقافتها الوافدة والغريبة، على أنَّها الأكثر تطوّراً وحاملة لقيم التطوّر والحضارة، فيما هي في جوهرها مستبِّدَة محصورة بالطغيان والتَّبرير لثقافة الاستبداد والاستعباد.
تُعتبر اللُّغة الحامل الأوَّل للهُويَّة الثَّقافيَّة لأيّ شعب من الشُّعوب، وهي خزّان تفكيرها وموروثها الثَّقافيّ، فعبر اللُّغة تَمَّ حفظ التّاريخ والأدب وكل ما يتعلَّق بالشَّعب، ومجرد حلول اللُّغة وضياعها ضمن لغات الدّول المُهيمِنة، فإنَّ هُويَّة ذاك الشَّعب تذوب رويداً رويداً في لغة القوى المُستعمِرة، وتغيب عنها كُلُّ فرص تطويرها لتحافظ على نقائها وتَظَلَّ لُغةً حيَّةُ تحفظ معها هُويَّة ذاك الشَّعب، فتتحوَّل مع الاستعباد إلى لغة مَنسيَّة تسير في طريق الانقراض، وتصل بأبنائها إلى تفضيل لغة القوى المُستعمِرة على لغتهم الأم واعتبارها لغة العصر، والادّعاء بأنَّ لغتهم الأصليَّة (الأم) مُتخلِّفة ولا تُلبّي حاجات التطوّر العلمي والتّقني. وتنعكس هذه الحالة على الثَّقافة والموسيقى والأغاني وجميع أشكال الحياة، لتصل إلى مرحلة العداء مع اللُّغة الأم، وهو ما يَصُبُّ في مصلحة القوى المُستعمِرة والمُهيمِنة ويحقِّقَ لها أهدافها بكُلِّ يُسرٍ.
تَعرَّضَ الشَّعب الكُرديّ لكُلِّ أشكال الغزو، السِّياسيّ، العسكريّ، الاقتصاديّ، الجغرافيّ، وغيره، إلا أنَّ أشَدُّها تأثيراً تَمثَّل بالغزو الثَّقافيّ، حيث سعت الدّول المحتلَّة لوطنه إلى محو ثقافته، وبالتّالي هُويَّته الخاصَّة به، واعتمد في ذلك على اللُّغة بشكل رئيسيّ. فالدّول المُحتلَّة لكُردستان اتَّخذت من سياسات “التَّتريك، التَّعريب والفرسنة”، أي فرض اللُّغة التُّركيَّة، العربيَّة والفارسيَّة على الشَّعب الكُرديّ في بداية احتلاله وتقسيمه لكردستان. فابتعاد أيُّ شعب عن لغته الأم، يجعله يفقد معه هُويَّته الوطنيَّة والقوميَّة الخاصَّة به، وهذا ديدن الدّول الغاصبة لكُردستان.
إنَّ القوانين المُشدَّدة التي سنَّتها وشرَّعتها الدّول المُحتلَّة لكُردستان في منع استخدام اللُّغة الكُرديّة وحظر تدريسها، وفرض عقوبات قاسية على من يكتب أو يتحدَّث بها، جعلت الشَّعب الكُرديّ يبتعد عن هُويَّته الثَّقافيَّة والقوميَّة والوطنيَّة. فالدَّولة التُّركيّة منعت الكُرد من التحدّث بلغتهم حتّى في الشَّوارع أو العمل، كما فرضت إطلاق أسماء كُرديَّة على أبنائهم. وكذلك كان الأمر في كُلٍّ من إيران والعراق وسوريّا. نتيجة ممارسة هذه السِّياسات الإنكاريَّة؛ ظهرت أجيال من أبناء الشَّعب الكُرديّ لا تعرف عن هُويَّتها شيئاً، بل تنفر منها وتُطلق عليها صفات سلبيَّة، فيما تتمسَّك بلغة وهُويَّة الدّول المُحتلَّة لوطنه، حتّى أنَّ المثقَّفين والأدباء والكتّاب باتوا يُحبِّذون الكتابة بلغة أعدائهم، وكم من كاتب اشتهر وذاع صيته عندما كتب بغير لغته، وهو في هذا أغنى لغة أعداء بني قومه. ومن جانب آخر، اعتبرت تلك الدّول الغاصبة كُلَّ نتاجات ذاك الأديب أو الفنّان ملكاً لها، تفتخر به وتمنحه الجوائز أيضاً.
يدَّعي البعض زوراً أنَّ التَمسُّكَ بالهُويَّة الوطنيَّة والقوميَّة الخاصَّة تؤدّي إلى حالة من الانغلاق الفكريّ والذِّهنيّ والانقطاع عن التَّواصل مع الهُويّات الأخرى، وخاصَّةً الثَّقافيَّة، بل ذهب إلى أبعد من ذلك؛ بأنَّها تُدخل تلك الهُويَّة في حالة من الانكماش والتكوّر حول نفسها، وبالتّالي عدم قدرتها على مواكبة التطوّرات العالميَّة المذهلة في مجال العلم والتِّقنية. رغم أنَّ هذه الدَّعوة في ظاهرها لها ما يُبرِّرَها، إلا أنَّها في جوهرها حُجَّة مقيتة وممجوجة، على الأقلّ بالنِّسبة للشَّعب الكُرديّ الذي لم يصل بعد إلى تشكيل دولته الوطنيَّة الخاصَّة به، ما يمكِّنَه من الحفاظ على هُويَّته الثَّقافيَّة والاجتماعيَّة والسِّياسيّة، بل هُويَّته لا تزال مُهدَّدة بالزوال نظراً لحجم التَّهديدات الكبيرة من قبل أعداء الكُرد. فالشَّعب الكُرديّ لا يتعرَّض فقط لإبادات جسديَّة، بل يواجه الإبادة الثَّقافيَّة قبل الجسديَّة، وهي الأفظع والأكثر إيلاماً وخطراً عليه. فالشَّعب الكُرديّ لم يصل بعد إلى حالة من العنصريَّة الثَّقافيَّة والشّوفينيَّة القوميَّة، لأنَّ غياب دولته الوطنيَّة يسقط عنه كُلّ تلك التُّهم الجزاف الموجَّهة له، على العكس من ذلك هو ضحيّة السِّياسات الثَّقافيَّة العنصريَّة للدّول المُحتلَّة لوطنه والسّاعية إلى مَحوِ الهُويَّة الخاصَّة به من أساسها. حتّى أعراس الكُرد تخضع للرَّقابة من قبل تلك الدّول، فهو “واقع بين فكّي الإبادة الثَّقافيَّة من كُلّ الجهات”، كما يقول المفكّر الكُرديّ الكبير “عبد الله أوجلان”. لذلك نجد أنَّ الذات الكُرديّة ضعيفة ومهزوزة؛ لأنَّها لم تنعم ولو في لحظة من حياتها بالعيش في أجواء الحُرّيَّة والتَّعبير عن هُويَّتها دون خوف وقيود، فهي مهزومة وغير قادرة على إنتاج ذات وهُويَّة خاصَّة بها، وفي أفضل الأحوال، إن حاولت أن تُعيدَ إحياء هُويَّتها؛ فإنَّها تبدو مشوَّهة وهَجينة. مثل الكُرديّ المُستَترَك الذي يحاول التحدُّث باللُّغة الكُرديّة، فتجد معظم كلماته ولُكنَتِهِ تركيَّة، وهو ما يَبعَثُ على التَنَدُّر والأسف بنفس الوقت.
حالة النّهوض الكُرديّ التي رافقت مع ولادة حركة التحرُّر الوطنيَّة الكُردستانيَّة، أحيت الهُويَّة الكُرديّة من جديد، وأعادت لها الرّوح بعد أن سادت حالة من اليأس بعدم قدرة الكُرد على التمسُّك بهُويَّتهم الوطنيَّة. ومع تطوّر النِّضال الكُرديّ الثقافي والسِّياسيّ والاجتماعيّ، سادت قناعة لدى الدّول الغاصبة بأنَّ “المارد قام من قمقمه” وما عليهم سوى وأده في مًكمَنِهِ، وهذا ما يفسّر شراسة الهجمات التي يتعرَّض لها الشَّعب الكُرديّ في أجزاء كردستان الأربعة، حيث أنَّ الهدف منها إزالة الشَّعب الكُرديّ وهُويَّته من الوجود. فالشِّعار الذي ترفعه دولة الاحتلال التُّركيّ الآن “أنَّ الكُرد والتُّرك سواسية ولا فرق بينهم”، إنَّما تريد أن تُشير من خلاله إلى الكُرديّ المُنسَلِخِ عن هُويَّته الوطنيَّة والمتبنّي للهُويَّة التُّركيَّة، وبكُلِّ تفاصيلها.
تركيّا التي احتلَّت عفرين، سري كانيه وكري سبي، عملت منذ اليوم الأوَّل إلى إزالة كُلّ ما يتعلَّق بالهُويَّة الكُرديّة فيها، فغيَّرت أسماء الشَّوارع والسّاحات العامَّة، وفرضت بدلاً منها أسماء تركيَّة، إضافة إلى سرقة كنوزها الثَّقافيَّة وآثارها الدّالة على الكُرد وثقافتهم ووجودهم التّاريخي في مناطقهم الأصليَّة، واعتبرت كُلَّ ما فيها ملكاً لها ويَمتَدُّ إلى الفترة العثمانيَّة البائدة، كما شجَّعت على بناء المدارس الدّينيّة التي تنشر التطرّف الدّينيّ، فيما كانت تلك المناطق الكُرديّة تعيش حالة من الوئام والانسجام الاجتماعيّ بين جميع الأديان والمذاهب، من المسلمين، الإيزيديّين، المسيحيين وغيرهم. هدف الدَّولة التُّركيَّة بالدَّرجة الأولى القضاء على الهُويَّة الكُرديّة، خاصَّةً أنَّ الكُرد بعد تأسيس الإدارة الذّاتيَّة التقطوا أنفسهم قليلاً، وبدأوا بتعليم طلّابهم لغتهم الأم، حيث شهدت اللُّغة الكُرديَّة تطوّراً هامّاً، أعاد لها رونقها وجماليَّتها التي كان البعض يمتعضها ويهرب منها حتّى الأمس القريب.
صراع الهُويّات في المنطقة والعالم، اختلط في يومنا الرّاهن بالصراع على المصالح والنّفوذ، فيما تنفرد دولة الاحتلال التُّركيّ بمعاداتها الهُويَّة الكُرديّة ومنذ نشوء دولتها وحتّى يومنا هذا، وهو ما دفع الرَّئيس التُّركيّ أردوغان إلى القول بأنَّهم سيحاربون “أيَّ كيان كُرديٍّ حتّى ولو في أفريقيا”.
الحفاظ على الهُويَّة الكُرديّة يَمُرُّ أوَّلاً عبر التمسُّك باللُّغة الكُرديَّة، وتبنّي القيم الوطنيَّة الكُرديّة، لتصل إلى مستوى يمكِّنها من إعادة إنتاج ذاتها بشكل قويٍّ وعصريّ، وتكون على مستوى التحدّيات التي تواجهها من الأعداء في الدّاخل والخارج، وهي بكُلِّ الأحوال تمتلك كُلَّ مقوِّمات وعوامل المقاومة والصمود في وجه أعتى الثَّقافات والهُويّات المفروضة عليها عن طريق القوَّةِ والعنف، ولها القدرة على إعادة تشكيل اللُّحمة الوطنيَّة. كما أنَّ حالات الاغتراب عن الهُويَّة الوطنيَّة خارج كردستان؛ تُعَدُّ هي الأخرى خنجراً في خاصِرة الشَّعب الكُرديّ، وتُعمِّقُ من حالة الاستلاب والانصهار في هُويّات أخرى غريبة. ولهذا الكُرد مدعوون إلى إعادة النَّظر في موقفهم من هُويَّتهم الوطنيَّة والقوميَّة، والتمسُّك بها تحت كُلِّ الظروف والشّروط.