مقالات رأي

في هجـ ـوم قوى الظـ ـلام والاستـ ـبداد على تجربة #الإدارة الذاتية

في مناخِ احتدامِ استحقاقاتِ الصراعاتِ والحروبِ المُندلعةِ في عزة وجنوب لبنان وفي سوريا والمنطقة عامة؛ تُعاودُ فلولُ أتباع النزعات القومجية الفاشية بالتعاون مع أذرع تنظيمات الإسلام السياسي الإرهابية، المحضون من قبل دوائر الاستخبارات التركية؛ نشاطها الذي كانت قد بدأته منذ أكثر من عام في مناطق دير الزور. وفي نقاط الاحتكاك مع قوات سوريا الديمقراطية بقصد إيقاظ فتنة عربية كردية؛ تحت مسمى ثورة العشائر العربية (والعشائر منها براء)، في مواجهة ما يزعمون إنه تسلط واستئثار كردي بالسلطة والموارد، وبدعم مكشوف من النظام والميليشيات الإيرانية، والفصائل المحسوبة على ما يسمى بمحور الممانعة والمقاومة ضد إسرائيل؛ تندفع قطعان المدعو نواف البشير وابراهيم الهفل. لإنقاذ صورة إيران وهيبة النظام الذي مرغتها الضربات الإسرائيلية الأخيرة بالتراب.

ليس هذا وحسب، بل يأتي ذلك التطور ضمن سياق نضج الأزمات الموضوعية والأخلاقية لأقطاب تحالف محور الدولتية القومية الشمولية الاستبدادية. وتلك العقائدية الإسلاموية في كل من سوريا وإيران والعراق وتركيا، ومثيلاتها في مجتمعات المنطقة.

هذا التحالف الذي بقيَّ جاثماً على صدرِ شعوبِ هذه الدول خلال المئة عامٍ الأخيرة، والذي فشل في إنجاز أية مهامٍ تذكر. فيما يخص قضايا التنمية والعدالة والديمقراطية، ومن الجدير ذكره في هذا النحو أن الفشل الأكبر كان من نصيب النسيج الاجتماعي، حيث أبدعت سياسات حكومات دول ذلك التحالف في تفكيكه، ولم تنجح بغير تسعير الصراعات العرقية، وتفجير الحروب الأهلية بين مكونات مجتمعاتها.

ولم تكن في المُجمل غيرَ طُغَمٍ حاكمة تُقَوِّمُ فلسفتها السياسية، ويعملُ مِهمازُ الحركةِ عندها على توظيف الدين والنزعة القومية والقيم الماضوية في تهميش مجتمعاتها، وتسويدِ الفسادِ عليها ثم تكريسِ تخلفها. ولأنها كياناتٌ وبرامجَ مأزومة في البنية والتفكير، وتعيشُ في حالةِ قلقٍ دائمةٍ من يقظة شعوبها؛ فقد كان من الطبيعيِّ أن تتوجسَ من المولودِ الجديدِ الذي أفرزهُ حِراكُ الشعوبِ السوريةِ والمتمثلِ بتجربةِ مجلسِ سوريّا الديمقراطية.

فقوانينُ الحياةِ وتجاربِ السياسةِ والاقتصادِ تقول بِمُسَلّمةِ إن العُملة الرديئةَ تسعى دوماً على إخراجِ العُملةِ الصعبةِ من التداول. خوفاً من أن تضطرَ في النهايةِ إلى الدخولِ في مباراةٍ معها إذا ما تَعَمَقَ تداولها. وعلى هذهِ القاعدةِ يصبحُ مفهوماً أن تتعاونَ وتتحدَ قوى الاستبدادِ والديكتاتوريةِ والنظمِ الشموليةِ الدينيةِ والقومية؛ ضدَّ المعاني التاريخيةِ لتجربةِ الإدارةِ الذاتيةِ القائمةِ في إقليمِ شمالِ وشرقِ سوريا، باعتبارها عدواً حيوياً من نوعٍ خاصٍ في مواجهةِ قوى الاستلابِ والتسلطِ والاضطهادِ الاجتماعيِّ والعرقيّ الشوفيني.

أما لماذا هي كذلك؟ ولماذا تشغلُ موقعَ التحدّي لخصومها في دولِ مجموعةِ ما يُزْعَمُ بأنه محورُ الممانعةِ والمقاومة؟ فلأنها تقومُ على وضوحِ نظرٍ سياسيٍّ في مقاربةِ مشاكلِ المجتمعِ والدولة، وتعتمدُ برامجها على توفيرِ وتطويرِ آلياتِ عملِ المجتمعِ الديمقراطي، وفكرةِ الأمةِ الديمقراطية المُنْطَلِقَة من حقيقةِ الأخوةِ الحرةِ للشعوب، والمساواةِ بينَ جميعِ المكوناتِ في الحقوقِ والواجبات. وفي التمتُّعِ بالحريةِ في ممارسةِ ثقافتها، واحترامِ خصوصيتها، وقيمها التاريخية. ناهيكَ عن إن في التجربةِ عاملٌ مميزٌ متفردٌ وغيرَ مسبوقٍ في تجارب الدولِ والثورات، يتعلق بإسنادِ دورٍ رياديٍّ للمرأةِ في حياةِ الدولةِ والمجتمع.

وليسَ هذا فقط، بل وفي شأنٍ متصلٍ لابدَّ من الإشارةِ إلى أنَّ نموذجَ الإدارةِ الذاتيةِ في إدارةِ المجتمعِ قائمٌ على تحديثاتٍ ومراجعاتٍ تكادُ تكونُ يوميةً تطالُ مجالاتِ الاقتصادِ والإدارةِ ومؤسسات البناءِ الفوقيِّ وحقولِ الثقافةِ والفنون. حيثُ تكادُ لا تخلو قريةً صغيرةً من نادي ثقافي أو مركزِ نشاطٍ لنشرِ المعرفة. والأهمُّ من كلِّ ذلك، والطامةُ الكبرى التي تجعلُ قوى الاستبدادِ والديكتاتوريةِ في مدرسةِ التفكيرِ القوميِّ الشوفيني والعقائدي تستنفرُ اليوم لقطعِ الطريقِ، وتعطيلِ الفرصِ المتاحةِ لنجاحِ هذهِ التجربة؛ هيَّ هوسها بالديمقراطيةِ وبالمؤتمراتِ والحوارات، والإصغاءِ إلى صوتِ النُخبِ، وبالانتخاباتِ وتغييرِ المواقع.  الأمر الذي يرشحها ويرشحُ سياساتها لأن تكون بلسماً لجرح الشعوب في منطقة تعاني من جوعٍ متواصلٍ ومتوارثٍ لمسائِلِ التفكيرِ الحر والعدالة والديمقراطية. فلهذا وغيرهِ الكثير يصبحُ الاستنتاجُ منطقياً وفي مكانه؛ إن جميعَ قوى الظلام في دولِ محيطِ الإدارة تعيش في ظل فوبيا انتشار عدواها إلى عقل شعوبها ومكوناتها.

وبالانطلاق من حجم التحديات التاريخية التي تشكلها فلسفةُ الأمةِ الديمقراطية، وتجربتها الملموسةِ على الأرض، والتي تقطعُ الطريقَ على القيم البطريركية والشوفينية الضيقة والمأزومة؛ يستطيعُ المتابعُ أن يفهمَ دواعي القلق في سياسة أردوغان الحافلة بالمجازر والتطهير العرقي ..العثمانية البائدة.

وعندَ أطرافِ العاملينَ على تجارة الكبتاغون في إيران ولبنان وسوريا من الممانعين على طريقتهم، وفي تسويق عُقَدِهم الحاصلةِ في القرن الهجري الأول، ثم لدى هؤلاء النرجسيينَ المرضى في دمشق المهووسين بشامة حسن؛ لم يزيحوا النظر عنها، ولم يفرغوا بعد من التحديق إليها في المرآة.

يستطيعُ الدارسُ أن يستوعبَ حجمَ الفِصامِ في خطابِ هؤلاء الممانعين الأفذاذ، لكن الشيءُ الذي لا يفهمهُ ويعكسُ حجمَ غبائهم وجهلهم بثوابت التاريخ هو الاستقواءُ بكذبةِ الصراعِ الكرديِّ العربيّ.

فالعربُ والكردُ صُناعُ تاريخٍ مشتركٍ واحد لم ينفصل يوماً، ولم يشهد محطةً لخلافٍ واحدٍ أو لحربٍ واحدة؛ بل وفي العكسِ من ذلك، فالتاريخ العربيُّ يصبحُ مبتوراً أو ناقصاً في معناه إذا حذفنا منهُ “صلاح الدين الأيوبي”. والفنونُ والآدابُ العربيةُ الحديثةُ عرجاءَ حتماً باستبعاد تراثِ “أحمد شوقي” و”محمد كرد علي”.

أغبياءٌ ومجانين حتماً، ومقطوعينَ عن جذورِ المعرفةِ هؤلاء المُسَوِّقين لمسرحية ثورة العشائر، وبخاصة في مواجهةِ مشروعِ التنويرِ والتحررِ في الأدبيات الكردية الأوجلانية، هذا المناضلُ الكرديُّ والأممي، الرمز الذي يسجلُ في مراجعاتهِ حقيقةً ثابتةً ومازالت بعيدةً عن ضوءِ النُقاد والمتابعين، تتعلق بأنه يوم رفضَ التعاونَ مع عروضِ الموسادِ الاسرائيليِّ المُغرية قبلَ ربعِ قرنٍ من الزمن، وفَضَّلَ البقاء مُخلِصاً للقضايا التي تهمُ حركةَ التحررِ العربيةِ في فلسطينَ وسوريا والمنطقة. يومها فَعَّلتْ إسرائيل الاتفاقاتِ السريةِ للتعاونِ في تسليمِ المطلوبينَ مع المخابراتِ التركية. وكانتِ النتيجةُ التضحيةَ بحريتهِ الجسديةِ كل هذهِ الفترة.

ثمَّ غيرُ ذلكَ أن في مسألةِ الادعاءِ بثورةِ عشائر عربية كذبة كبرى أخرى، ومجانبة للواقع. ففي العام2019 وصبيحةَ الانتصار على داعش. نَظَّمَ مجلس سوريا الديمقراطية مؤتمرَ العشائر الشهير، والذي عُقِدَ برئاسة الرئيسة المشتركة السيدة “أمينة عمر”، وقد حضرهُ ستةُ آلاف مندوبٍ يومها، وقد خرجَ بتطوراتٍ وانعطافاتٍ عميقةٍ في مواقفِ العشائرِ من الإرهابِ وداعميه الإقليميين، وانخراطاً جدياً في مؤسساتِ الإدارةِ الذاتية؛ الأمر الذي تؤكدهُ الوقائعُ القائمةُ على الأرض، والذي يعكسُ نسبةَ المشاركةِ العربيةِ اليوم في مؤسسات الإدارة المدنية منها والأمنية، والتي تفوقُ بكثيرٍ نسبةَ الوجودِ الكردي، الأمرُ الذي لا يَتْركُ مجالاً للشكِّ إن الأخوّةَ العربيةَ الكردية هي أخوّةٌ في الدمِ والمصير، وصارتْ في ذمة التاريخ.

كمال حسين

آدار برس/خاص

ADARPRESS #

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى