إطلالة على تطور موقف العلويين من أطراف الأزمـ.ـة السورية
كمال حسين
إنَّ أيّةَ إحاطةٍ موضوعيةٍ لتاريخِ سوريا الحديث، ولتطوراتِ الأزمةِ السوريةِ ستكونُ إحاطةً ناقصةً مالم يُجري تسليطُ الضوءِ عليها وفقَ قراءةٍ هادئةٍ ومنصفةٍ لواقعِ العلويينَ ولتاريخهم، ودورهم في الحياةِ السياسيةِ السوريةِ بشكلٍ عام، وفي الأزمةِ الأخيرةِ على وجهِ الخصوص.
ولأنَّ الضرورةَ في إجراءِ تلكَ المقاربةِ تنبعُ من أنَّ تشويها حاداً وطمساً مُتَعَمَّدَاً لا مثيلَ له قد حصلَ من قِبَلِ النظامِ والمعارضةِ على حدٍ سواء لبعضِ الحقائقِ المتصلةِ بظروفهم، وبأشكالِ تورطهم وآفاقِ يقظتهم.
وإلى ذلكَ ينبغي الإشارةَ إلى أنهُ منْ ضروبِ الافتراءِ أو المغالطةِ في فهمِ ماهيتهم؛ هو أولاً أنَّ العلويون ليسوا طائفةً دينيةً صرفةً كما هو الانطباع السائد؛ بلْ هم أقربُ إلى نعتِ جماعةٍ أو بيئةٍ لها سماتٌ اجتماعيةٌ وثقافيةٌ خاصة، حيثُ لا مرجعيةً دينيةً لتوجيهِ أفكارهم الفلسفيةِ، ولا نزعةٌ تبشيريةٌ حولها، كما لا تقبلُ التبشيرَ أو التعميمَ والنشر، كما هو واقعُ الحالِ لدى الطوائفِ الإسلاميةِ الأخرى؛ السنيةِ أو الشيعية، أو عندَ المسيحيةِ وتلاوينها.
ثانياً لا علوية سياسية في العلوية، كما لا تصلحُ في منهجها لأداءِ ذلكَ كما هوَّ واقعُ الحالِ في مدارسِ الإسلامِ السياسيِّ المُختلفة، وحيثُ لا توجدُ طقوسٌ مُلزِمةٌ لنيلِ لقبِ علوي، بالإضافةِ إلى نقطةٍ مُتفردةٍ وتقعُ في غايةِ الأهميةِ، تتعلقُ بإعفاءِ المرأةِ في العلويةِ من الضلوعِ بأيةِ ممارساتٍ طقسيةٍ دينية؛ بمعنى أن نصفَ المجتمعِ مُحَيَّدَاً لناحيةِ المعرفةِ بالفلسفةِ الروحيةِ العلوية، ولزاويةِ الاعتقادِ بها.
ثالثاً بما إنَّ العلوية في جوهرها رؤيةٌ فلسفيةٌ تعتمدُ في نظرتها للكونِ والوجودِ على فكرةِ الفيض للذاتِ الإلهيةِ على طريقةِ فيضِ الماءِ في الكأس، وإمكانيةِ تجليها في أيِّ شيءٍ أو شخصٍ أو مكان. وهُنا يُقصَدُ بالتجليِّ “الإمام علي” كَرَّمَ الله وجهه. فهيَّ بذلكَ ورغمَ بروزها على طُرُقٍ ثلاث؛ البكتاشية عند الكرد العلويين في تركيا، والعلي الأوية عند الأتراك، والخصيبية في العربية. فإنَّ العلويةَ في الطُرُقِ جميعها لا تُبدي اهتماماً بقضايا الدولةِ وشؤونِ السياسةِ، فيما تُحْصَرُ خِطابها في الجانبِ الاجتماعيِّ بالدعوةِ إلى التزامِ ناصيةِ الأخلاق. ما يُعِدُّها مذهباً أو مدرسةً دينيةً لا تتعارضُ مُطلقاً مع العلمانيةِ كتدبيرٍ في إدارةِ الدول.
وبالانطلاقِ من كلِّ ما تقدم يمكنُ احتسابِ العلويين، وبالاستنادِ أيضاً على تموضعاتهمِ الطبقية كفئاتٍ فلاحيةٍ فقيرةٍ تسكنً في الأرياف، وتعملُ في الزراعةِ؛ على قوى اليسارِ والشيوعية.
منذُ أربعيناتِ القرنِ الماضي، وقبلَ ذلكَ كانَ الاصطفافُ جلياً في سوريا إلى صفِّ قوى النضالِ الوطنيِّ على خلفيةِ انخراطهم في مقاومةِ الشيخ “صالح العلي” ضدَّ الاحتلالِ الفرنسيِّ في الربعِ الأولِ من القرن نفسه، وعبرَ رفضِ نُخَبِّهم في آخرِ الثلاثيناتِ لواقعِ الدولةِ العلويةِ التي كانت قائمةً آنذاك.
وعلى نفسِ السياقِ يُمكنُ الوثوقُ بأنَّ دورَ العلويين قد مَرَّ بطورين، الطورُ الأول؛ وطنيٌّ نهضويٌّ يتسمُ باليساريةِ والثوريةِ الطبقيةِ، وبتبني شعاراتِ الاشتراكيةِ ومشاريعَ الوحدةِ العربية، وقد ظهرَ هذا الدورُ وتبلورَ مع صعودِ البعثِ إلى السلطة، واستمرَّ باعتمادِ نهجٍ راديكاليٍّ في السياسةِ العامة. حتى وصولِ “حافظ الأسد” وتيارهِ الانتهازيِّ اليمينيِّ إلى سُدةِ الحكمِ في دمشق في العام 1970.
هوَّ طورٌ تميزت فيهِ الشخصيةُ العلويةُ بأنها ترمزُ إلى شخصيةِ من يحمي الحدودَ الوطنية، ويدافعُ عن الاستقلال، ويستشهدُ في سبيلِ القضيةِ الفلسطينيةِ وتحريرِ الأرضِ والمجتمع، أي شخصيةٌ ديمقراطيةٌ ثورية. تحدثَ عن مكانتها بإسهابٍ الرئيسُ الأسبق “أمين الحافظ” في سلسلةِ لقاءاتٍ بثتها قناةُ الجزيرةِ مطلعَ هذهِ الألفية في برنامج شاهدٌ على العصر.
والطور الثاني، وقد تَرَافقَ مع تكريسِ النظامِ الشموليِّ الاستبداديِّ حامي الفساد ومُنْتِجِهِ ومُوَلِّدِ الأزمات. هو الطورُ الذي نجحَ فيهِ “حافظ الأسد” بتصفيةِ التيارِ اليساريِّ في الحزبِ والجيشِ والدولةِ، والذي قدْ شَمَلَ أسماءً ونُخَبَاً بارزةً من العلويينِ الشُرفاء. أمثال اللواء “صلاح جديد” الأمينُ العامُ المساعد، والدكتور “إبراهيم ماخوس” وزير الخارجيةِ ونائبُ رئيسِ الوزراء. و”كامل حسين”، و”عادل نعيسة”. والعديدُ منَّ الأسماءِ المهمةِ من أعضاءِ القيادةِ السابقة. أو ما يَدَّعى بتيار “صلاح جديد”. أو جماعة 23 شباط.
وخلالَ هذهِ المعركةِ بدأتْ المؤامرةُ الجديّةُ على صورةِ العلويين ومصيرِهِمْ. وبدأتْ لعبةُ توريطهم في معاركِ النظامِ الديكتاتوريِّ لتحقيقِ النفوذ. وبدأ “حافظ الأسد” بتنفيذِ القاعدةِ التي تقول: “بأنَّ العملةَ الرديئةَ تقومُ بطردِ العملةِ الرفيعةِ والصعبةِ من سوقِ التداول. وحيثُ اعتمدَ نهجاً اسْتَبْدَلَ فيهِ أفراداً بعثيينَ منَّ العلويين؛ واقعينَ في أسفلِ الهرمِ الاجتماعي، ليحلوا مكانَ الكوادرِ النزيهةِ في أعلى هرمِ السلطة. وهكذا بدأتْ ركلةُ تخريبِ العلويين وإفسادِهِمْ.
وعلى هامشِ معركةِ تكريسِ سلطةِ الاستبدادِ الشموليةِ الفاسدةِ التي استغرقتْ مخاضاً ووقتاً؛ فقد دفعَ الكثيرُ من الشبابِ العلويين ثمناً باهظاً، وقد مكثوا لسنواتٍ طويلةٍ رهنَ الاعتقالِ في سجونِ النظام. إلى حَدٍّ يُمكنُ الجزمُ فيهِ إنَّ قريةً واحدةً في الساحلِ السوريِّ لم تخلو منْ عشراتِ السُجناءِ السياسيينَ منْ تياراتِ البعثِ القديمِ أو جماعةَ رابطةَ العملِ الشيوعيِّ أو الحزبِ الشيوعيِّ – تيار المكتب السياسي وغيرِهم؛ لوقوفهمْ في وجهِ الديكتاتوريةِ والفئويةِ وحكمِ الفردِ الذي تَمَيَّزَ بهِ حُكمً الأسد.
وثَمَّةَ أسماءٌ معروفةٌ من بلدةِ الأسدِ نفسهِ، منهم منْ قضى تحتَ التعذيبِ أمثال “حسن الخيّر”، ومنهم من مازالَ مصيرُهُ مجهولاً أمثال الدكتور “عبد العزيز الخيّر”. وأمثالهم الكثير. واستناداً لما ذُكِرَ آنفاً؛ نخلصُ إلى حقيقةٍ مفادُها أنَّ النظامَ الديكتاتوريَّ المُسْتَبِدْ كانَ قد نجحَ في تثبيتِ أقدامهِ بحلولِ أواسطِ الثمانينات، وبعدَ أنْ تجاوزَ أزمتهُ الأولى في صِراعهِ مع ما تعرف بجماعةِ الإخوانِ المسلمين الإرهابية. وسجلَ بِذلكَ انتصاراً شاملاً على جميعِ صنوفِ المعارضةِ عبرَ الإيغالِ باستخدامِ آلةِ البطش، ومن خلالِ إنتاجِ الدولةِ الأمنيةِ الشاملةِ والمتحكمةِ بكلِّ أشكالِ النشاطِ السياسيِّ والاقتصاديِّ والثقافيِّ للمجتمعِ السوري. وعندَ هذا المنعطفِ يمكنُ ملاحظةَ أنَّ القوى السياسيةَ بجميعِ أطيافها قد خرجتْ من المجتمع. وهُمِّشَت إلى حدٍ كبير، وكانَ العلويونَ الديمقراطيونَ الثوريونَ من أوائلِ الخارجين. وليستفردَ بعدَ ذلكَ في توظيفِ الجزءِ الغالبِ المتبقي منهم، وتوريطهِ في دورةِ الفسادِ والاستئثارِ بالسلطةِ والهيمنةِ والنفوذ على باقي المكونات؛ لكنْ الطامةُ الكبرى جاءت مع انفجارِ الأزمةِ الوطنيةِ البنيويةِ الشاملةِ مطلعَ العامِ 2011 ضمنَ مناخِ ما دُعيَّ بالربيعِ العربي.
ففي تداعياتِ الأزمةِ التي تحولتْ سريعاً من حِراكٍ شعبيٍّ ثوريٍّ مُسْتَحقٍ إلى حربٍ أهليةِ طائفيةِ الملامح، بفعلِ تضافرِ عاملينِ اثنين، النظامُ المُتَخَشِّبِ والمتمترسِ بكرسيِّ السلطةِ، الذي لا يتورعُ عن فعلِ إيِّ شيءٍ ليؤَمِّنَ استمرارهُ، والمدعومِ من قِبَلِ إيرانِ الإسلاميةَ الشيعية، والمعارضةِ الإخوانيةِ الإسلاميةِ الراديكالية؛ الحاملةِ لأجنداتٍ إقليميةٍ تركيةٍ وقطرية.
ففي هذا الجوِ من الاستقطابِ الحادِ لأطرافِ المجتمعِ السوريِّ إلى أتونِ الحربِ الأهليةِ؛ وجدَ العلويونَ أنفسهم عالقينَ بينَ فريقينِ لا يريدانِ لهما وللوطنِ الخير، ولا خيارَ أمامهم سوى الوقوفِ إلى صفِّ النظام؛ لأنَّ خيارَ المعارضةِ الإسلاميةِ بأدواتها الإرهابيةِ قدْ جعلتهم أمامَ هذا الخيارِ الوحيد.
لكن ومعَ تطورِ الصِراعِ، ومع ازديادِ الأثمانِ التي دُفِعَتْ من أرواحِ جميعِ الأطراف، ومعَ انكشافِ أهدافِ الأطرافِ المتصارعةِ، في النظامِ والمعارضةِ على السواء، ومعَ تفاقُمِ الأزمةِ الاجتماعيةِ والأزماتِ الاقتصاديةِ والمعيشية، وبعدَ ظهورِ الاختناقاتِ في كلِّ وسائلِ الحياة، وبعدَ ولادةِ مافياتِ الحربِ والفوضى والفساد، وتجارِ الحربِ والأزمةِ؛ فإنَّ تململاً اجتماعياً حاداً في صفوفِ الجميعِ، وبينَ صفوفِ ما دُعيَّ بالموالاةِ؛ بدأ بالظهور، ووعياً متنامياً قد بدأ بالتشكل، وفي صفوفِ العلويينَ على وجهِ الخصوصِ، والذينَ كانتْ حصتهم من تكلفةِ الحربِ تصلُ إلى حدودِ مئاتِ الألوفِ من القتلى والمُعاقين.
كانتِ الصدمةُ وماتزالُ مُزلزلةً، وخاصةَ بعدَ أن شاهدوا ويشاهدونَ يومياً أنَّ عائلاتِ الشهداءِ والضحايا تعيش في ظلِّ ظروفٍ مُزريةٍ، بينما يعيشُ النسقُ الأولُ في النظامِ في حالةِ بطرٍ اجتماعيٍّ وبذخٍ لا يمكنُ تخيلهُ إلى حدٍ يمكنُ لأيِّ متابعٍ متفحصٍ أن يستنتجَ أن العلويونَ اليوم، وباستثناء الاتساقِ المتقدمةِ في موقعِ السلطةِ والنفوذِ والفساد؛ هم من أشدِّ المعارضينَ للنظام، وينتظرونَ بلْ يتحمسونَ لـ اللحظةِ التاريخيةِ التي تأذنُ لرحيله.
بقيَّ أن نُشيرَ إلى حقيقةٍ ثابتةٍ؛ هيَّ أنَّ كلَّ الحديثِ المذكورِ آنفاً عن تفاصيلِ الصِراعِ لمْ يكنْ الوجهَ الوحيدَ لهذا الصراعِ؛ بل في الخلفيةِ وجهٌ آخر، وكما هيَّ حقائقُ الحياةِ والتاريخِ؛ فثمةَ ولادةٌ تاريخيةٌ تستحقُ التأملَ، وتشكلُ الوجهَ الحقيقيَّ لِحِراكِ السوريينَ الطامحِ للثورةِ والتغيير؛ إنهُ قد تجلى بولادةِ تجربةِ مجلسِ سوريا الديمقراطية (مسد) في رسمِ مشروعِ سوريا الواحدة الديمقراطية واللامركزية، كمشروعٍ ثوريٍّ بديلٍ يعوضُ عن فشلِ المعارضةِ، ممتهنةِ الإرهابِ، عميلةُ التركي، وعن فشلِ النظامِ الذي تأخرَ استحقاقَ تاريخِ خروجهِ من المشهدِ كثيراً.
وإزاءَ هذا التطورِ البالغِ الأهميةِ والدلالة؛ منَ الطبيعيِّ أن يكونّ محطَّ أنظارِ السوريينَ الحالمينَ بمجتمعِ العدالةِ والديمقراطية. وفي أوساطِ العلويين على نحوٍ خاصٍ تقولُ المقاربةُ الموضوعيةُ إن عطفاً جمعياً عاماً حيال حقوقِ الكردِ، وتجاهَ القضيةِ الكرديةِ بشكلٍ عامٍ؛ موجودٌ بالمخيلةِ العلويةِ العامة، لكن التجربةُ الوطنيةُ الجديدةُ المتمثلةُ بتجربةِ الإدارةِ الذاتيةِ لإقليم شمال وشرق سوريا كخطوةٍ نحوَ كلِّ السوريين، ومن أجلِ سوريا واحدة تعني الجميع، وتوفرَ حقوقَ الجميع؛ فما تزالُ النظرةُ غيرَ واضحةٍ وغيرَ مفهومة، ويُسجلُ تقصيرٌ لافتٌ حولَ جلائِها.
فما بينَ (مسد) المشروعَ الوطنيَّ الجامعَ، والمظلةَ الواقعيةَ لحلِّ أزمةِ السوريين جميعاً، وما بينَ (مسد) الكردية الانفصالية التي تتلطى وتستقوي بالأمريكان لنهبِ المواردِ ووو؛ حسبَ ما يُسَوِّقُ أطرافُ النظامِ والضالعينَ بالتآمرِ على الشعبِ السوري؛ هناكَ فجوةً، على جميعِ المعنيينَ بمصيرِ هذا الشعبِ في (مسد) وخارجها العملَ على ردمها.
معَ مُلاحظةِ أنَّ عواملَ إيجابية في هذا الاتجاهِ تتوفرُ بشكلٍ متزايدٍ ولو بوتائرَ بطيئة، حيثُ لا نَعْدُمُ ولادةَ العديدِ من التياراتِ والتوجهاتِ بينَ أوساطِ المثقفينَ العلويينَ من المتعاطفينَ، أو المنخرطينَ بتجربةِ (مسد). أمثالَ تيارِ اليسارِ الثوريِّ، ونداءِ البلد،ِ وحركةُ ما سميَّ بالشبابِ العلويِّ؛ الذي كانَ يقودهُ كاتبُ السيناريو المعروف المرحوم “فؤاد حميرة” وآخرون.