مانشيتمقالات رأي

ما وراءَ مـ ـعارَضَةِ فَتحِ المعابرِ

ارتفعت وتيرة المعارضة لفتح معبر “أبو الزندين” بين مناطق الحكومة السُّوريّة، وتلك التي تحتلُّها تركيّا، في مؤشِّرٍ على رفض قطّاعات شعبيَّة واسعة لعمليَّة المصالحة وتطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق، حتّى أنَّ بعض الأطراف السِّياسيَّة ضمن المناطق المُحتلَّة اعتبرتها “خطوة تركيَّة؛ تَهدُف إلى تسليمهم على طبق من ذهب إلى النِّظام السُّوريّ”. فيما اعتبر البعض الآخر أنَّ تركيّا لا تُنصِتُ لكُلِّ الأصوات المعارضة، بل تسير وفق ما تتطلّبها مصالحها.

الاحتجاجات التي انطلقت في منطقة الباب ضُدَّ فتح المعبر؛ لن تُغيّر من المعادلة شيئاً، ولن تكون أكثر من زوبعة في فنجان، وهي بكُلِّ الأحوال لا تخرج عن سياق ومفهوم حركة شعبويّة غوغائيَّة، لم تصل إلى مستوى الحركة الشَّعبيَّة المُنظَّمة، والتي يمكن أن تشكِّلَ لاحقاً ثقلاً في الحراك المعارض لدولة الاحتلال التُّركيّ وتوجُّهاتها في سوريّا، ولا أحد يُعوِّل عليها في أن تُشكِّلَ ضغطاً على دولة الاحتلال التُّركيّ وتثنيها عن سعيها في المضي قُدُماً في تطبيع علاقاتها مع دمشق. على العكس من ذلك؛ المؤكَّد أنَّ أيَّ تطبيع يستدعي تصفية ما تُسمّى “المعارضة” التي طالما رعتها دولة الاحتلال لتساوم على رأسها اليوم، عندما اقتضت مصالحها أن تُضحّي بها.

لكنَّ الثّابت أيضاً أنَّ حركة الاحتجاج محكومة بالفشل، مثل سابقتها في الشَّهر الماضي، حيث دفعت دولة الاحتلال التُّركيّ مرتزقتها لمواجهة المحتجّين بالرَّصاص الحيّ، كما استقدمت قوّات عسكريَّة ضخمة ووضعتها في المعبر وفي محيطه. وقد قالها أردوغان صراحة أنَّه لن يَسمحَ لأحد بالاعتراض على فتح المعابر، وأضاف بلهجة لا تخلو من الخبث السِّياسيّ “كيف لنا أن نجتمع معاً قبل أن نفتح المعابر؟”.

يبدو أنَّ دولة الاحتلال التُّركيّ تتأمَّل تحقيق العديد من المكاسب وراء فتح المعابر مع الحكومة السُّوريّة، أوَّلها تخفيف أزمتها الاقتصاديّة في الدّاخل، بعد أن تعمَّقت أكثر جرّاء الحرب الوحشيَّة التي يَشُنُّها على إقليم كردستان ومناطق شمال وشرق سوريّا. إنَّ حجم الإنفاق العسكريَّ في تلك الحرب وصل إلى مستويات غير مسبوقة، ورغم هذا لم يحقّق أيَّ نتائج ملموسة، بل يتكبَّد كُلَّ يوم خسائر فادحة في الأرواح والعتاد في مناطق الدِّفاع المشروع على يد قوّات الكريلا، خاصَّةً بعد أن طوَّرت الأخيرة منظومة دفاع جوّيَّة، تمكَّنت من خلالها قلب معادلة الحرب، وجعلت أردوغان يستجدي الحكومة العراقيَّة والحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ لإنقاذه من المستنقع الذي زَجَّ به نفسه وبلاده فيه. كما أنَّ أردوغان يرى أنَّه من خلال معابر “أبو الزندين، باب السَّلامة وباب الهوى” سيصل بسهولة إلى قلب مدينة حلب، التي طالما تخلّى عنها في نهاية عام 2016 للحكومة السُّوريّة وروسيّا وإيران، في صفقة مع موسكو، مقابل سيطرته على مناطق “جرابلس، الباب وإعزاز”. لذلك يسيل لعاب أردوغان للعودة إلى حلب مَرَّةً أخرى ومن خلال المعابر، إن لم يكن عسكريّاً، فاقتصاديّاً، ولا يجد أيَّ حرج في تنفيذ شروط حكومة دمشق حيال تصفية المعارضة المنضوية تحت جناحه، قبل البدء بسحب قوّاته وإنهاء احتلاله للأراضي السُّوريّة.

اتّهام بعض المرتزقة قوّات سوريّا الديمقراطية باستهداف معبر “أبو الزندين” بقذائف المدفعيَّة، جاء كمحاولة للتغطية على رفض بعض المرتزقة، وخاصَّةً من يطلقون على أنفسهم “السُّنَّة العرب”، كنوع من التمويه وعدم الذِّهاب بعيداً إلى مواجهة مباشرة مع قوّات الاحتلال التُّركيّ، خاصَّةً أنَّها خبرتها في التَّظاهرات التي خرجت في يوليو/ تمّوز الماضي، إضافة إلى خشيتها من الاقتتال مع المجاميع الإرهابيّة “التركمانية” من أمثال مرتزقة “السلطان مراد” و”العمشات” المفضَّلة لدى دولة الاحتلال التُّركيّ، وكذلك جهاز ما يُسمّى “الشُّرطة العسكريَّة” اليد الضاربة له – أي للاحتلال التُّركيّ – في المناطق المُحتلَّة. فوجدت أنَّ أسهل طريق للتهرُّب من مسؤوليَّة استهداف المعبر، هو إلقاء التُّهمة على غيرها، رغم قناعتها أنَّ الاحتلال التُّركيّ يدرك من أطلق القذائف. بدورها قوّات الاحتلال التُّركيّ لم تُعِرْ أيَّ اهتمام لتلك القذائف العشوائيَّة التي لن تُغيّر من موقفها للاستمرار في فتح المعبر، ولو كَلَّفَ إراقة دماء واعتقال كُلِّ المحتجّين والمعارضين لفتحه. إنَّ صدور قرار فتح المعابر من رئيس دولة الاحتلال؛ يفيد أنَّها جادّة بفتحها، ولن تأبَهَ لكُلِّ المعارضين له.

بالمقابل لم يصدر عن الحكومة السُّوريّة أيُّ تعليق حول حركة الاحتجاجات ضُدَّ فتح المعابر، ويبدو أنَّها مرتاحة نوعاً ما من تطوّر الأمور في المناطق المُحتلَّة من قبل دولة الاحتلال التُّركيّ لتصل حَدَّ المواجهة المباشرة، فأيُّ استنزاف لقوَّة المرتزقة يُضعِفُ خصومها، وبالتّالي لن تجد دمشق مشقَّة في التمدُّد ومحاولة إعادة تلك المناطق لسيطرتها، وما تتأمَّله أن تتطوَّر الحالة إلى انفلات أمنيّ واسع، واندلاع اقتتال بين المرتزقة أنفسهم. كما تنظر إلى عمليَّة فتح المعابر كإجراء هام في إنقاذ اقتصادها المنهار، عبر تدفُّق السِّلع التُّركيّة إلى الأسواق، وأخذ جرعة إنعاش، إضافة إلى تخفيف وطأة العقوبات الاقتصاديّة التي فرضتها عليها الولايات المُتَّحدة، بل وحتّى كَسرها عن طريق دولة الاحتلال التُّركيّ، والأخيرة لها تجربة طويلة مع مسألة كسر العقوبات مع إيران سابقاً. ولكن هل هذا السيناريو غائب عن الولايات المُتَّحدة، وهل ستُعاقِبُ تركيّا على انخراطها الكامل في عمليَّة تطبيع العلاقات مع دمشق؟ هذا ما سيظهر خلال الأيّام القادمة، ولكن بكُلِّ الأحوال الولايات المتَّحدة لا تُشجِّعُ تركيّا وغيرها للمُضيّ قُدُماً في تطبيع العلاقات مع الحكومة السُّوريّة قبل تنفيذ القرارات الدّوليَّة، وخاصَّةً القرار /2254/.

إنَّ الوجه الآخر لحركة الاحتجاجات ضُدَّ فتح المعابر؛ يظهر بأنَّ الأطراف التي تقف وراءها قد قطعت كُلَّ روابطها وأواصرها مع الوطن السُّوريّ، بغضِّ النَّظر عن صراعها مع حكومة دمشق، وكأنَّ الأمر قد استتبَّ لها وشكَّلت إماراتها الإسلاميَّة المتطرِّفة، وباتت هي من تملك زمام المبادرة في إصدار قراراتها وتقرير مصير تلك المناطق، وغاب عنها أنَّها تحت رحمة الاحتلال التُّركيّ، ولن تستطيع أن تُحرِّكَ ساكناً دون استشارتها، متناسية أنَّ مصير تلك المناطق مرتبطٌ بالوطن السُّوريّ والحَلِّ السِّياسيّ النهائيّ للأزمة السُّوريّة. وأكثر من يُغذّي هذه التوجُّهات المتطرّفة اللا وطنيَّة هي جماعة “الإخوان المسلمين” الإرهابيَّة. فلا يَخفى على أحد أنَّ اليد العليا بعد الاحتلال التُّركيّ في المناطق المُحتلَّة هي لجماعة “الإخوان” الإرهابيَّة، فهي التي تُشكّل المجالس والهياكل الدّينيَّة، وتنشر التطرُّف الدّينيّ في المناطق المحتلَّة، وهي من فتحت الباب للاستيطان في عفرين، سري كانيه وكري سبي، وهي من تحاول فرض شرائعها وقوانينها القروسطيَّة على الأهالي في تلك المناطق.

الواضح أنَّ دولة الاحتلال التُّركيّ لن تتوانى عن تلبية كُلِّ شروط الحكومة السُّوريّة، فتح المعابر، تصفية مرتزقتها وتفكيك هياكلها ومؤسَّساتها المزعومة، مقابل نيل موافقتها على محاربة الإدارة الذّاتيَّة وقوّات سوريّا الديمقراطية، واستبعاد الكُردِ من أيّ ترتيبات للحَلِ السِّياسيّ في سوريّا مستقبلاً.

معركة المعابر بدأت منذ بداية الأزمة السُّوريّة، وخاصَّةً بعد أن فقدت الحكومة السُّوريَّة سيادتها عليها وباتت تحت سيطرة المجاميع الإرهابيَّة المُسلَّحة، التي وجدت فيها مصدراً هامّاً لتمويل نفسها، فيما بعض من يُطلقون على أنفسهم “قادات الفصائل” استثمروا تلك المعابر لصالحهم الشَّخصيّ، وجمعوا أموالاً طائلة من ورائها، خاصة في تجارة الممنوعات مثل تهريب المخدرات البشر، وتحولوا معها إلى “أمراء حرب”، واندلعت اشتباكات – وما تزال – بين تلك المجاميع حول السَّيطرة على المعابر في سبيل الاستفادة منها. ولم تكن تلك الأعمال اللا شرعيَّة غائبة عن أعين دولة الاحتلال التُّركيّ، بل كانت تَتُمُّ تحت إشرافها، حتّى أنَّ هؤلاء “الأمراء” ودَّعوا أموالهم في البنوك والمصارف التُّركيّة، وأصدرت الولايات المتّحدة عقوبات ضُدَّ بعض منهم. أي أنَّ دولة الاحتلال التُّركيّ تحوَّلت إلى مكان آمن لهؤلاء المرتزقة لتبييض أموالهم القذرة.

إنَّ أكثر ما يُحرّك المعارضين لفتح المعابر؛ هو فقدانهم لمصدر أساسيّ في تجميع ثروات خاصَّة بهم، ويرون أنّ عودتها إلى السِّيادة السُّوريّة، يفقدها مصدراً أساسيّاً لهم للتمويل والسَّرقة، وقد ينهي وجود تلك المجاميع الإرهابيَّة بشكل مباشر، فهي تذرف الدموع على فقدانها سيطرتها على المعابر، ولكنَّها تُغلِّفها بطابع سياسيّ، وهو ما يتناقض كُلّيّاً مع توجّهاتهم وأهدافهم، فمن ارتضى العيش تحت علم الاحتلال التُّركيّ، لن يضيره فتح المعابر والتَّعاون مع الحكومة السُّوريّة، في حين أنَّ أغلب تلك المجاميع لها علاقات، مباشرة أو غير مباشرة، مع بعض الأطراف في مناطق سيطرة حكومة دمشق.

جميل رشيد

آداربرس/خاص

ADARPRESS #

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى