قِراءَةٌ في شُروطِ “الوَطنيّ الكُرديّ” لاستئنافِ الحوار
يبدو أنَّ الحوار الكُرديّ – الكُرديّ في روجآفاي كُردستان، وفي هذه المرحلة المصيريَّة المتحوَّلة والمتقلِّبة، يخضع لتجاذبات محلّيَّة وكُردستانيّة، وأخرى إقليمَّية ودولية، تُعرقل إعادة استئنافه، لِيزيدَ من الهُوَّةِ بين الأطراف المتحاورة، وليدخل الحوار في نفق مظلم، لا يتكَهَّنً أحد متى يخرج منه.
رغم حالة التفاؤل التي سادت بين أوساط شعبيَّة وسياسيَّة في روجآفاي كُردستان، بعد حديث القائد العام لقوّات سوريّا عن قرب استئناف الحوار الكُرديّ – الكُرديّ، إلا أنَّ لا مؤشِّرات في الأفق – ومن كلي الطرفين – عن بدئه أو عدمه. غير أنَّ تصريحات صَدَرت من قبل المجلس الوطنيّ الكُرديّ، أجهضت كُلَّ الآمال في بدء جلسات الحوار وإعادة الأمور لمجاريها، بل على النَّقيض تماماً، فقد خلقت حالة من اليأس والنُّفور، حتّى وصل بالبعض إلى درجة اليقين أنَّه ليس بإمكان الكُرد التَّحاور لا اليوم ولا غداً.
لن نُلقي اللَّوم على أحد الأطراف على فشل الحوار، لكنَّنا سنحاول أن نستعرِضَ بعض الحقائق التي رُبَّما هي مُغيَّبة – أو يحاول البعض تغييبها – للإيهام والتَّغطية على مواقف مُلتَبَسة، تُخفي وراءها سوء نواياهم، وعدم إيمانهم أصلاً بالحوار.
بداية يستوجب الإفصاح عن الحقيقة التَّالية: إنَّ أيَّ حوار بين أي طرفين متحاورين، إن أريد له النجاح – أي الحوار – والوصول إلى نهاية جيَّدة، يُفتَرَضْ ألا توضع شروط مُسبَّقة، فكيف إذا كان هذا الحوار بين أخوة في الدَّم والتوجَّه والتَّفكير. طبعاً هذا لا يعني القفز فوق الثَّوابت الوطنيّة المُسلَّم بها، وعندها يغدو الحوار لا وطنيّاً ولا فائدة مَرجُوَّة منه، وعدم إطلاقه خير من البدءِ به.
إنَّ المرحلة الأولى من الحوار التي بدأت منذ أكثر من عامين؛ تمكَّن الجانبان، أحزاب الوحدة الوطنيّة الكُرديّة والمجلس الوطنيّ الكُرديّ، خلاله التَّوقيع على المُذكَّرة السِّياسيّة، وبوساطة من الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة ومتابعة فرنسيَّة، وعلى إثرها توقَّف الحوار، لأسباب لم يَكشف عنها أيٌّ من الطرفين.
غير أنَّ توجيه الدَّعوة مُجدَّداً لتفعيل الحوار؛ لا يُفسد في القضيَّة أمراً، ولن يضير الطرفين أن يبدأ الحوار من حيث انتهى، إلا أنَّ صدور تصريحات من قبل قيادات المجلس الوطنيّ الكُرديّ، ينسف ما اتّفق عليه سابقاً، ويزيد من حالة الخصومة السِّياسيّة، لتتكرَّس وتغدو واقعاً لا يمكن التحرُّر منه.
الشروط التي وضعها رئيس الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ – سوريا “مُحمَّد إسماعيل”، وبحسب نظري كمتابع كردي ومهتم بهذا الشأن هي أوَّلاً تعجيزيَّة، ولا تُعبِّر عن نيَّة صادقة في التوجُّه للحوار، وتَنُمُّ عن عدم إيمان الطرف الذي يُمثِّله بالحوار إطلاقاً، وهي استفزازيَّة بقدر ما هي “عدائيَّة” وغير واقعيَّة.
وَضَعَ “إسماعيل” أربعة شروط أساسيَّة أمام أحزاب الوحدة الوطنيّة لبدء الحوار، أوَّلها، رفض الهيكليَّة القائمة للإدارة الذّاتيّة بشكلها الرّاهن، مع عدم طرح بدائل أفضل لها، وهذا بحَدِّ ذاته يثير الشكوك، ويُعزِّزُ من فكرة محاولة المجلس وسعيه لتقويض الإدارة، ما يدفعنا للاعتقاد أنَّ ما عجز عنه الأعداء، وخاصَّةً دولة الاحتلال التُّركيّ، سيُنفِّذَه المجلس الوطنيّ، ومن بوّابة “الحوار الكُرديّ – الكُرديّ”، وهذه مسألة في غاية الأهميَّة والحساسيَّة، يُفترض تداركها قبل أن “يقع الفأس بالرأس” مثلما يُقال.
فالإدارة التي بُنِيَت عبر تضحيات كبيرة، وترسَّخت كواقع سياسيّ، عسكريّ، اقتصاديّ، اجتماعيّ وثقافيّ، وغدت واقعاً حياتيّاً مُعاشاً منذ أكثر من أربعة عشر عاماً، بالتَّأكيد الشَّعب الكُرديّ، ومعه باقي مكوّنات شمال وشرق سوريّا، سيتمسَّك بمنجزه التّاريخيّ، ولن يسمح لأحد العبثَ به. وهذا يُذكِّرنا بالتَّظاهرات التي انطلقت في بولندا قبيل انهيار الاشتراكيَّة فيها، حيث خرج العمال بقيادة رئيس نقابات العمال فيها “ليخ فاونسا” وآخرون؛ لتدافع عن مكتسباتها التي حقَّقتها بالكدح والعرق. وكان أجدر بالمجلس الوطنيّ أن يدافع عن الإدارة الذّاتيّة في المحافل الوطنيّة والإقليميَّة والدّوليَّة كمنجز كُرديّ قبل أن يكون عربيّاً أو سُريانيّاً آشوريّاً.
الشَّرط الثّاني المتمثّل برفض المناهج التَّعليميَّة التي أقرَّتها الإدارة الذّاتيّة، هو الآخر يُعَدُّ بمثابة وضع العُصي في عجلة الحوار الكُرديّ – الكُرديّ. لقد ساد لغط كبير إبّان إقرار الإدارة الذّاتيّة مناهجها الخاصَّة، وبجميع اللُّغات المعتمدة لديها، الكُرديّة، العربيَّة والسُّريانيَّة، ولقد أصبح أمراً واقعاً لا مَفَرَّ منه أمام مطالبة أبناء مكوّنات المنطقة التَّعليم بلغاتهم الأم، ولم يعد الجدال في هذه القضيَّة ذا نفع، فلقد تَخرَّج جيل تعلَّم بلغته، وخاصَّةً أبناء الشَّعب الكُرديّ، وافتتحت عِدَّة جامعات ومعاهد. أمّا مسألة الاعتراف بها دوليّاً، فالاعتقاد السّائد لدى الغالبيَّة أنَّها مسألة وقت، وهي شبيهة بالفترة الانتقاليَّة التي مَرَّ بها إقليم كُردستان، فالشَّهادات الصادرة عن جامعاتها لم يَتُمّ الاعتراف بها إلا بعد فترة طويلة. وفي هذا السِّياق يجدر بنا أن نذكر الحقيقة التّالية؛ أثناء محاولات بعض الشَّخصيّات الأكاديميَّة الوطنيّة الكُرديّة لافتتاح جامعة عفرين عام 2015، وسعيهم لتكون فرعاً لإحدى الجامعات الرّوسيَّة. تمكَّنت تلك الشَّخصيّات من نيل الموافقة المبدئيَّة والشَّفويَّة من تلك الجامعات الرّوسيَّة، ولكن تدخَّلَ أعضاء من المجلس الوطنيّ الكُرديّ وأقنعوا الرّوس بعدم الموافقة. كذلك الأمر حصل مع إحدى الجامعات الماليزيَّة، حيث تدخل رئيس الوزراء التُّركيّ “أحمد داود” أوغلو شخصيّاً لمنع منح الموافقة، حيث كان مُدرّساً في إحدى الجامعات الماليزيّة. النُّقطة الأكثر مفارقة؛ طالما كانت أحزاب المجلس الوطنيّ تناضل عبر تاريخها الطويل نسبيّاً للحصول على حَقِّ التَّعليم باللُّغة الكُرديّة الأم، ولو على مستوى شيخ الكُتّاب، لماذا ترفض التَّعليم باللُّغة الكُرديّة الآن، بعد أن افتتحت مئات المدارس وثلاث جامعات؟ حقّاً سؤال لا جواب له إلا لدى المجلس، وهو الأجدر بالإجابة عليه.
الشَّرط الثالث، وهو الأكثر إثارة للشّجون والتَّساؤلات، حول إدخال ما تُسمّى “بشمركة روج” إلى روجآفا، ومطالبته بأن تكون مستقلّة عن قوّات سوريّا الدّيمقراطيّة، من حيث الهيكليَّة والتمويل والعتاد والتوجيه العقائدي.. الخ. أوَّلاً هناك نوع من التدليس في هذا المجال، فاسم تلك القوّات هو “لشكري روج” وليس “بشمركة روج”، وهي لا تنتمي إلى البيشمركة حسبما ذكر مدير عام بشمركة الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ “جبار ياور” قبل سنوات بأنَّه “لا يوجد أيُّ تشكيل تابع لوزارة البيشمركه بهذا الاسم، ونحن لا نعترف بوجوده، ولا نقدّم له أيَّ دعم عسكريّ أو لوجستيّ”. الثّابت أنَّ تلك المجموعات شَكَّلها الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ من الشباب اللّاجئين إلى إقليم كردستان، ويستخدمهم كأداة وذراع في حروبه المتعدِّدة ضُدَّ خصومه المفترضين، خاصَّةً أنَّه زَجَّ بأعداد منهم إلى جانب قوّات الاحتلال التُّركيّ لقتال قوّات الكريلا في مناطق الدفاع المشروع في الإقليم، أي أنَّها تفتقد إلى “العقيدة الوطنيّة” للدِّفاع عن الشَّعب الكُرديّ في روجآفا.
لطالما لعبت وتلعب رأس حربة مع المُحتلِّ التُّركيّ ضُدَّ قوَّة كُردستانيّة، وقد طالبَ أهالي المنطقةِ عبرَ نداءاتٍ متكررةٍ أبناءهم بتركِ تلكَ القوى، والتخلي عنهم بسبب أعمالهم التي تخدمُ أجنداتَ الأعداء وخاصة تركيا؛ وبالتّالي غيرُ مُرحَّبٍ بها في روجآفا أيضاً، وهي أقرب إلى تشكيلة “العصابات” منها إلى قوّات كُرديّة مُدرَّبة ولها خبرة في القتال والمعارك. والإشكاليَّة الأكثر خطورة في هذا الموضوع؛ كيف يمكن أن تكون في منطقة ما قوَّتان عسكريَّتان، مختلفتان في التوجُّهات والأهداف؟ بالتَّأكيد ستتنازعان وتصلان إلى حالة الاقتتال الدّاخليّ، وهو ما نحن بغنى عنه، خاصَّةً في الظروف والتحدّيات الكثيرة التي تواجهها الإدارة الذّاتيّة. فيمكن أن يوجد في أيّ دولة عِدَّةُ أحزاب سياسيَّة، لكن لا يمكن أن توجد قوّتان عسكريّتان. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا؛ ما عمل تلك “القوّات” إن دخلت أراضي روجآفا؟ هل ستكون يد تركيّا الطولى، طالما أنَّها تتلقّى دعمها وتسليحها من جيش الاحتلال التُّركيّ؟، والصور والفيديوهات المنشورة تثبت ما ذهبنا إليه. وتحاول الجهات التي تتبنّاها تعويم وشرعنة نفسها عبر تلك الميليشيات.
الشَّرط الرّابع الذي وضعه “مُحمَّد إسماعيل”، تمثَّل بعدم اعترافه بالرّئاسة المُشتركة في إدارة مؤسَّسات الإدارة الذّاتيّة، زاعماً أنَّ الرَّئيس الأوحد/ الرَّجل قادر على اتّخاذ القرارات بشكل صائب أكثر من الرّئاسة المُشتركة. هذا المنطق المِعوَّج يشبه إلى حَدٍّ بعيد منطق زعماء العشائر منه إلى منطق وخطاب رئيس حزب يَدَّعي أنَّه يُمثّل شعباً. فهو من خلال تبجُّحه يجعل القرار حِكراً على الرِّجال دون المرأة، ويلغي وجودها وكينونتها وحقوقها، وهو الذي يدَّعي أنَّ حزبه “ديمقراطيّ”، ليتبيَّن أنَّه لا يَمُتُّ للدّيمقراطيَّة بأيّ صلة. فالنُّظم الدّيمقراطيّة باتت جميعها تميل إلى اتّخاذ الرّئاسة المُشتركة كأسلوب إدارة حديثة في مؤسَّسات الدول. كما أنَّ التَّجربة المُعاشَة في روجآفا تُفنِّدُ ادعاءاته، فالرّئاسة المُشتركة تُغني النِّقاشات حول اتّخاذ القرارات الصائبة، كما أنَّها تُمثِّلُ رَأيَ المرأة الذي يتّصف عادة بالمرونة في أغلب مواقفها، إلى جانب أنَّ إلغاء مشاركتها في تُحمّل مسؤوليّاتها ضمن الإدارة، يعني إلغاء نصف المجتمع من المشاركة في اتّخاذ القرارات.
لا يمكن لأيّ حوار كُرديٍّ – كُرديٍّ أن يرى النّور إن لم يتجرَّد الطرف الذي يضع هذه الشّروط التي أَقلُّ ما يُقال عنها أنَّها “لا وطنيّة ولا كُرديّة”. ففي ظِلِّ سماع هدير طائرات الاحتلال التُّركيّ في سماء روجآفا، وارتكابه المجزرة تلو الأخرى، يتوجَّب على المجلس الوطنيّ الكُرديّ أن يُعلِنَ طلاقه البائِنِ ممّا يُسمّى “الإتئلاف السُّوريّ” بزعامة حركة “الإخوان المسلمين” الإرهابيَّة، وينسحبَ اليومَ قبلَ الغد من جميع مؤسَّساتهِ وهياكلهِ، إن كانَ فعلاً جادّاً في حمايةِ روجآفا وإحقاقِ الحقوقِ الكُرديّة، ويعود للعملِ على أرضِ الوطن، وهذا شرطٌ وطنيٌّ وشعبيٌّ قبل أن يكون شرطاً لأحزاب الوحدة الوطنيّة الكُرديّة.
جميل رشيد/آداربرس
ADARPRESS #