أفق عبور العلويين والأقلـ.ـيات إلى تحالفات جديدة
كمال حسين
بالعودة إلى المأساة السورية، وإلى الصخب الحاصل في موقف الأطراف المحلية الفاعلة في إيقاظها ثم في توجيهها، والتأثير على مساراتها؛ يمكن ملاحظة أن فريقين اثنين من بين فُرقاء مُؤثرين عديدين في المعادلة الوطنية السورية هما وحدهما من يتبادلا الأدوار والمسؤولية التاريخية عن كل الشرور التي أصابت السوريين، والتي مازلت تُرخي بظلالها المُعتمة على حياتهم، وتُعَطِّلُ الفرص في انبلاج الضوء في نفق أزمتهم، إنهما نظام الاستبداد المتخشب، والإسلام السياسي شريكهُ في الجريمة وتوأمه وحليفه بالنهاية في الجذور والمنبت والمصير.
ولأن الشعب بكل أطيافه كان الضحية على الدوام؛ فمن نافل التنويه إلى أن الأقليات الطائفية والدينية والعرقية والإثنيات كانت مَكْسَرَ العصا في لعبة التنافس والصراع على السلطة بين الفريقين المذكورين خلال الأزمة الأخيرة، وخلال ما سبقها من أزمات ومعارك طيلة العقود الخمسة الماضية من تاريخ الدولة السورية، وعلى سلم التبويب يندرج اسم العلويين والدروز والإسماعيليين، وأتباع الديانة المسيحية، بالإضافة إلى الكرد والأرمن والتركمان وغيرهم.
وفي بادىء ذي بدء فإن التخطي عن الإشارة إلى حالة العرب السوريون السنة لا يعني في أي حالٍ من الأحوال التخفيف عن هول ما أصابهم من معاناة وكوارث، بل لأننا نفرد الحديث هنا للإضاءة على معاناة العلويين والأقليات بشكل خاص، ليس فقط لأن معاناتهم من ثنائي الشر والتخلف كانت مُركبة، بل للأسف لأن مصطلح الأقلية والأكثرية صار واقعاً راسخاً، ومن منجزات الدولة الوطنية ذات الأجندات القومية والعقائدية، ومنذ صعود الناصرية والبعث إلى السلطة؛ إذ لم تنجح دولة المشروع الوطني المزعوم في أيٍّ من دول المنطقة في تطوير أو إنتاج دولة المواطنة والقانون، بل أبدعت في تكريس مفهوم الأقلية أو الأكثرية، ليس بمعنى مستوى الولاء للدولة والسلطة؛ بل للأسف ضمن النسيج الاجتماعي وتوابعه في البناء الفوقي للمجتمع.
فالأقليات وعلى رأسهم العلويون عايشوا أوضاعاً جعلتهم واقعين بين مطرقة الإسلاميين وسندان السلطة، واقفين بل مسحولين على سندان سلطة لا تملك أية رؤية حول الوطن السوري تتعدى كونه مزرعة لفريقها، والعلويون وباقي فئات الشعب يعملون أقناناً في هذه المزرعة، مع فارق بسيط يتعلق بأن مهمة الحراسة أو نسق الحراسة الأول كان موكلاً للعلويين قبل غيرهم، الأمر الذي أتاح لهم فرصة الانخراط بموبقة الفساد والإفساد، هذه الموبقة التي أبدع كثيرون منهم في إتقانها وتحويلها من موبقة عارضة إلى جيش منظم له قواعده ومهامه.
وللموضوعية والتاريخ يجب الاعتراف بأن النظام قد حقق سبقاً في إعداد هذا الجيش، وفي نشره وإطلاق يده على كل مناحي الحياة في الدولة والمجتمع، ويكون بذلك قد ثَبَّتَ أقدامه وهو في الطريق إلى تسويد نفسه على السوريين كنظام شمولي مستبد نجح بخلق مجتمع مُدان عند الطلب، مجتمع متورط ونخبه خارج السياسة بسبب الإيغال في القمع، ومصادرة الحريات. مجتمع لا يملك مقومات للقيام بثورة حقيقية ولا يصلح لها.
وعلى ضوء ذلك، وعلى وقع إبعاد المجتمع عن الحياة السياسية الصحيحة؛ فقد كان يتطور في الوضع السوري وعي مشوه حول قضايا الوطن والثورة والدولة، أسهمت القوى الدينية في تشكيله منذ وقت مبكر، فمتلازمة الفساد والقمع والتهميش كانت قدر السوريين السيء، وخطاب الأسلمة والتكفير والإرهاب كان هو المطرقة التي ما انفكت تُدمي رؤوسهم، والإسلام السياسي بكل فصائله ومدارسه قد لعب دوراً مشبوهاً في تحويل المؤسسات الدينية ودور العبادة من أماكن لممارسة طقوس العبادة إلى منابر لبث الكراهية، وزرع الأحقاد، ونشر الأفكار الطائفية، والدعوة لقيم الإرهاب والعنف.
وليس هذا وحسب، بل يمكن الجزم أن الدولة بكل مواردها وإمكاناتها ووظائفها مخطوفة أو مُصادرة، أو يتنافس على ملكيتها وتفصيل نمطها وهويتها الفريقين المذكورين، فريق الإسلام السياسي بتفويضٍ من عند الإله، وفريق مافيات الفساد الذي أثبتت التجربة أنه لم يمتلك يوماً خطة أو برنامجاً أو فلسفة سياسية غير شراء الولاء والذمم، ونشر الفساد والإفساد في هذا الجو المعتم من ضياع الهدف، وتحت وقع الشعور بالمرارة والإحباط استيقظ السوريون أخيراً، وبخاصة جمهور ما دعي بالأقلوي والعلويون بالمقدمة مذعورين مما حل بهم، وكيف جرى تضليلهم، وزجهم بمعارك مزعومة لا صلة لها بمعادلات الوطن، ولا تخدم غير آليات تمكين الطغيان والنهب والفوضى.
استيقظ العلويون على أن النظام لا يمثلهم في شيء، وأن المتورطين معه، والمشاركين بمعاركه الوجودية هم نفر محدود ومكروه من العلويين، وتزداد عزلته وكرهه بين صفوفهم بشكل متزايد، وصار من مُسَلَّمات الحديث اليومي الدارج في أوساطهم أن المناطق العلوية هي الأشد فقراً والأقل عناية بشكل يُقْصَدُ منه أن يضطر أبناء الطائفة إلى رفد مؤسسة الجيش وأمن النظام بكوادر المتطوعين.
وفيما يُعَدُّ انتكاسة لرهانات النظام على ديمومة ولاء العلويين لسياسته؛ فثمة يقظة متصاعدة وتململاً يرقى إلى مستوى الطلاق الأبدي بين المجتمع العلوي ونظام تكتل الفاسدين، بل النمط الأوقح للفاسدين.
وعند هذه النقطة تجدر الملاحظة بأن هذه اليقظة تتغذى على عاملين اثنين، الأول فقرهم المدقع، وتردي مستوى حياتهم على مرأى ومسمع النظام الذي لا يعيرهم أيَّ اهتمام، بل يستفزهم ويخدش مشاعرهم من مستوى البذخ والبطر في هدر الموارد من قبل زلمه وأولادهم وعائلاتهم في الخطوط الأولى لأصحاب الشأن والنفوذ، والثاني تنامي الوعي السياسي، وظهور معدلات متقدمة حوله في مؤشرات الرأي العام، هذا الرأي العام الذي لم يتطور في الفراغ كما يتوهم النظام والمعارضة الإسلامية الراديكالية.
فالأول قَدَّمَ صورة مستهترة ومرزولة عنهم عبر تشويههم وتوريطهم بألاعيبه، والثاني قرأهم بعيون النظام ومن مرآته؛ بمعنى العلويون من وجهة النظر الإسلاموية أقلية هامشية في نسبتها من السكان، كافرة أو مارقة عن أصول الدين، تستحق أن يراق دمها. وفي الانطباعين تكمن مجانبة كبيرة للحقيقة؛ فالعلويون بخلاف كل ذلك تقول عنهم روائز القياس الموضوعية: بأنهم يشكلون قطاعاً وازناً في الانتلجنسيا الوطنية، إذ لا تخلو جامعة أو مشفى أو مؤسسة ثقافية أو إعلامية من عشرات الكوادر المنحدرين من أصول علوية.
والعلويون ليسوا ضيوفاً على الحياة السياسية والثقافية العامة، وحركة النضال التحررية في ميادين عديدة سيما ميدان مشاركة المرأة؛ بل فيهم من هو امتداد للشيخ صالح العلي وعزيز الهواش وبدوي الجبل وهاني الراهب، وفيهم قامات من رواد الثقافة والإبداع شأن أدونيس وحيدر حيدر وسعد الله ونوس وغيرهم الكثير.
وعلى ضوء ما تقدم، وبالاحتكام إلى قواعد المنطق سيكون من السذاجة الافتراض أن دور هذه الجماعة صاحبة الجذور في المواقف الوطنية، وصاحبة المؤهلات والدوافع للنهوض بمسؤولياتها تجاه سوريا الغد، سوريا الواحدة المدنية الديمقراطية، سوريا العلمانية واللامركزية؛ سيكون أطراف النظام ومهندسي رهاناته الجاهلة، وفي حالة عمى وانعدام بصيرة، إذا لم يقرأوا الموقف العلوي في سياقاته الموضوعية، وليس هذا وحسب بل سيكون مشروعاً ومنطقياً بفعل تماثل البنية الفكرية أو تقاربها، وبسبب تماثل التحديات وتشابهها؛ أن نشهد المفاجأة عبر تحول الاصطفاف العلوي إلى جبهة مجلس سوريا الديمقراطية باعتبارها صاحبة المشروع الأنضج والأكثر واقعيةً وتطابقاً مع أحلام السوريين، وبوجهٍ خاص الأقليات التي سَئِمَتْ من تهديدات القيم القومجية والإسلاموية الضيقة.
خاص/آدار برس
# ADARPRESS