السّوركيّون” ورِحلَةُ الارتـ.ـزاقِ في إقليمِ كُردستان
جميل رشيد
بعد ليبيا، أذربيجان والنّيجر؛ دفعت دولة الاحتلال التُّركيّ مرتزقتها السُّوركيّين لرحلة ارتزاق جديدة، وهذه المَرَّة كانت وجهة المرتزقة باشور/ جنوب كردستان للقتال ضُدَّ قوّات الكريلا.
بات جليّاً أنَّ دولة الاحتلال التُّركيّ تستخدم هؤلاء المرتزقة أداةً لتنفيذ أجنداتها السِّياسيَّة والعسكريَّة والاقتصاديَّة في المناطق السّاخنة والتي تشهد حروباً ونزاعات، وتسعى من خلالهم إلى تثبيت أقدامها وديمومة مصالحها. وتعتبرهم القوّة الضّاربة التي يمكن أن تحقّق لها أهدافها. والمؤكَّد أنَّها خطَّطت لتحويلهم إلى مرتزقة منذ بداية تدخُّلها في الأزمة السُّوريّة، بعد أن قَدَّمت لهم كُلَّ أشكال الدَّعم الماديّ والعسكريّ، وفتحت لهم معسكرات تدريب على أراضيها، خاصَّةً أنَّها استغلَّت إنشاء غرفة “موم” العسكريَّة من قبل الولايات المتّحدة على أراضيها، وتمكَّنت من استقطاب العديد من قادات تلك الفصائل الإرهابيَّة التي كانت تعمل تحت راية ما يُسمّى “الجيش السُّوريّ الحُرّ”، وأطلقت أيدي قاداتها لتعيث فساداً في الأراضي التي انسحبت منها قوّات الحكومة السُّوريّة، وتفرض عليها منطق العصابات في سرقة أملاك الأهالي واعتقال المدنيّين بهدف ابتزازهم وتحصيل الفدى الماليَّة منهم. ومثال عفرين واضح أمام أعين الجميع في كيفيَّة ارتكاب تلك العناصر الإرهابيَّة ممارسات إجراميَّة وإرهابيَّة وعلى مرأى ومسمع قوّات الاحتلال التُّركيّ، ودون أن تُحرِّكَ ساكناً.
ما ظهر خلال رحلة الارتزاق في مناطق الدِّفاع المشروع في باشور/ إقليم كردستان، أنَّ المرتزقة بعد أن امتهنوا “الارتزاق” لم يعد بإمكانهم القتال في أيّ مكان، فهم لا يمتلكون أيَّ عقيدة قتاليَّة، ولا يحملون أيَّ فكر أو إيديولوجيَّة للقتال من أجلها، هدفهم الأوَّل والأخير الحصول على أموال، ولا تَهُمُّهم الجهة التي يقاتلون معها ولأجلها، فقد ترى غداً أنَّهم يحوَّلون بندقيَّتهم من كتف إلى آخر ويحاربون حليف الأمس، بمجرد أن يُدفع لهم أكثر. وهناك احتمال أن يقاتلوا حتّى ضُدَّ دولة الاحتلال التُّركيّ إن دفعت لهم جهة أخرى مبالغ أكثر ممّا تدفعها دولة الاحتلال. وتمكَّن أردوغان في عام 2016 من تجميع حُثالة المجتمع السُّوريّ تحت مُسمّى “الجيش الوطنيّ السُّوريّ”، الذي تحوَّل إلى مؤسَّسة محترفة في الارتزاق والقتال لصالح القوى الأجنبيَّة.
تكهَّنَ المرتزقة للوهلة الأولى أنَّ القتال ضُدَّ قوّات الكريلا أمرٌ يسيرٌ أو أنَّه في نزهة، أو شبيه للقتال في أذربيجان أو ليبيا أو النّيجر، وساد هذا الاعتقاد لدى دولة الاحتلال التُّركيّ أيضاً، واقتنعت بإمكانيَّة القضاء على قوّات الكريلا بسهولة. إلا أنَّ الواقع أجهض جميع أحلام المرتزقة ومعها دولة الاحتلال التُّركيّ أيضاً. فالفصائل الإرهابيَّة المُسمّاة بفرق “الحمزة، السُّلطان، سليمان شاه” أرسلت ما مجموعه /500/ مرتزقاً إلى مناطق “الزّاب ومتينا” في إقليم كردستان، وتقدَّمت قطعان جيش الاحتلال التُّركيّ لقتال الكريلا. إلا أنَّ حساب الحقل لم يطابق البيدر، حيث وقع العشرات منهم بين قتيل وجريح وأسير بأيدي قوّات الكريلا. فجبال كردستان العصيَّة على جيش الاحتلال التُّركيّ الذي يمتلك أحدث أنواع الأسلحة، وتساعده قوّات بيشمركة الحزب الدّيمقراطيّ الكُردستانيّ في معظم عملياته، وهي القوّات التي لها خبرة في القتال ولها معرفة جيّدة بجغرافيَّة وتضاريس المنطقة، رغم ذلك فشلت دولة الاحتلال التُّركيّ في تحقيق أيّ نتيجة، على العكس من ذلك يعيش هزيمة حقيقيَّة على الأرض، حتّى أنَّه في حالات كثيرة لا يستطيع انتشال جثث قتلاه.
الأمر الآخر الأكثر دهشة ومَدعاةٍ للاستغراب؛ أنَّ دولة الاحتلال التُّركيّ، وبعد إعلانها عن نيّتها في تطبيع علاقاتها مع حكومة دمشق، فإنَّها تسعى من خلال إرسال مرتزقتها إلى إقليم كردستان التخلص منهم وتصفيتهم، كجزء من تنفيذ شروط دمشق في القبول بالمصالحة وتطبيع العلاقات معها. فشرط إنهاء التَّنظيمات الإرهابيَّة وتفكيكها هي إحدى شروط الحكومة السُّوريّة، وأفضل طريقة لإغلاق هذا الملفّ هو إرسال المرتزقة في رحلة اللا عودة إلى جبال كردستان، فدولة الاحتلال التُّركيّ تعلم جيّداً أن لا قُدرة لمرتزقتها على مواجهة قوّات الكريلا. إلا أنَّها تُخطِّط بشكل عميق لزرع فتنة بين الكُرد والعرب، عبر مرتزقتها القتلى في جبال كردستان، وهنا من المفترض أن تلعب القوى الوطنيَّة والدّيمقراطيَّة السُّوريّة دورها في قطع الطريق على دولة الاحتلال التُّركيّ، ومنعها من تكريس حالة من العِداء بين الشَّعبين الكُرديّ والعربي، رغم القناعة السّائدة لدى الشَّعب السُّوريّ أنَّ المرتزقة لا يمثّلون بأيّ شكل من الأشكال الشَّعب العربيّ السُّوريّ، لكنَّ الاحتلال يَنفُثُ في العصبيّات القوميَّة والدّينيَّة والإثنيَّة، ليخلق حالة من الانقسام في سوريّا، ويجب الحذر من الوقوع في الأفخاخ التي تُعِدُّها دولة الاحتلال في تعويم حالة العداء للكُرد، ما يفتح المجال أمام تمرير مشاريعها الاحتلالية العثمانية الجديدة في المنطقة عبر أدواتها من المرتزقة العسكريّين والسِّياسيّين من أمثال جماعة “الإخوان المسلمين” الإرهابيَّة. ولهذا حرصت دولة الاحتلال على إشراك مرتزقتها الموثوقين من التّابعيَّة “التٌّركمانيَّة” في تلك المعارك.
الثّابت أنَّ عمليَّة زَجِّ المرتزقة السُّوركيّين في القتال ضُدَّ قوّات الكريلا في باشور، لم تحقِّق الأهداف التي كانت تبتغيها دولة الاحتلال التُّركيّ، وبدأ العديد منهم بالهروب من ساحات القتال، وهو ما يُعَدُّ انتكاسة أخرى للاحتلال في حربها ضُدَّ الشَّعب الكُرديّ، فهي تحاول أن تغطي على هزيمتها وفشلها عبر إشراك جهات وأطراف وقوى أخرى في المواجهة، مثلما استطاعت نيل موافقة الحكومة المركزيَّة العراقيَّة وتوقيعها اتّفاقيّات أمنيَّة مشتركة معها، مقابل ابتزازها في السَّماح بتدفّق مياه نهري دجلة والفرات، وكذلك إغراء بغداد بمشروعها “الاحتلاليّ” الجديد المُسمّى بـ”طريق التَّنمية”. فهي تجد أنَّ وجود قوّات الكريلا في مناطق الدِّفاع المشروع بباشور كردستان يُشكِّل عقبة أمام تنفيذ مشروع “طريق التَّنمية”، وهي قدَّمت ضمانات للحكومة العراقيَّة في الحفاظ على أمن الطرق البرّيَّة وخطوط السّكك الحديديَّة المزمع إنشاؤها ضمن الأراضي العراقيَّة، وصولاً إلى ما يُسمّى معبر “آوفا كوي” الحدوديّ مع أراضيها مقابل مدينة “سلوبي”، واستبعاد حكومة إقليم كردستان من المشروع نهائيّاً. فدولة الاحتلال التُّركيّ تسابق الزَّمن في الالتزام بتعهُّداتها التي قطعتها مع كُلٍّ من العراق، قطر، الإمارات، ودول أخرى مشاركة في مشروع “طريق التَّنمية” وتجد حَلَّ أزماتها الاقتصاديَّة والسِّياسيَّة فيه، وترى أنَّ وجود قوّات الكريلا على مقربة من الطرق البرّيَّة والسّكك الحديديَّة، إنَّما يُهدِّد بنسف المشروع برُمَّته، وهذا ما يدفعها إلى حشد أكبر قدر ممكن من حلفائها وأدواتها في معركة إخراج قوّات الكريلا من تلك المنطقة، رغم القناعة السّائدة لدى مختلف القوى أنَّ تركيا فشلت في النَّيل من مقاومة الكريلا وحزب العُمّال الكُردستانيّ طيلة أكثر من أربعين عاماً، وأن شرذمة من المرتزقة لا تستطيع أن تُغيّرَ في معادلة توازن القوى شيئاً، إنَّما تسعى دولة الاحتلال من خلال إشراك المرتزقة إلى تعويم الحرب في المنطقة، كجزء من مخطَّط الحرب الثّالثة التي تُشكّل دولة الاحتلال ضلعاً رئيسيّاً فيها. وإنشاء أكثر من خمسين قاعدة عسكريَّة كبيرة لها في إقليم كردستان؛ هدفها أوَّلاً احتلال مناطق باشور، ولتغدو الخاصرة الجنوبيَّة لحلف “الناتو” في المنطقة.
إنَّ رحلة المرتزقة في باشور كردستان سترتدُّ عليهم وبالاً، وهي مؤامرة تشترك فيها عِدَّةُ أطراف، لتزيد من حِدَّةِ التشابك في المنطقة، وترفع من سويَّة الصراعات فيها، ولتغرقها أكثر في مستنقع الصراعات البينيَّة، وهو دورٌ وظيفيٌّ تؤدّيه دولة الاحتلال باحترافيَّة بالغة. فلم تكتفِ بعمليّات التغيير الدّيمغرافيّ في المناطق التي احتلَّتها في روجآفا وسوريّا، بل واصلت عمليّات الإبادة والتَّطهير العرقيّ “الجينو سايد”، معتمدة على دعم حلفائها في “الناتو” والدّول التي تدور في فلك “الإخوان المسلمين” مثل قطر، إلا أنَّ نجاح مخطَّطها من فشله يتوقَّف أوَّلاً على مقاومة الكريلا، ونضال الحركات والقوى الدّيمقراطيَّة في المنطقة، وخصوصاً في سوريّا وتركيّا. ويمكن القول إنَّ ملامح فشل المشروع تلوح في الأفق، من خلال استنجاد أردوغان بأعداء الأمس للتَّصالح معه وإنقاذه من مستنقعه الآسن، وإشراك المرتزقة السُّوركيّين في معركته الوجوديَّة لن ينقذه من مصيره المحتوم في الهزيمة.