خلال الأسابيع القليلة الماضية تحول معبر “أبو الزندين” في ريف حلب الشرقي إلى محور حديث السوريين مع اقتراب الدخول في مرحلة جديدة من مراحل الأحداث التي تشهدها البلاد منذ 13 عاماً من الحرب والتدخلات الخارجية والإقليمية التي استقطبت جهات دولية مختلفة، وهذه المرة من بوابة التقارب المحتمل الذي تسعى إليه روسيا بين النظام السوري وتركيا التي ترعى عدداً من الفصائل المسلحة السورية المعارضة، وتحتل مناطق في الشمال السوري عبر وجود عسكري وأمني وإداري علني.
وفي أواخر يونيو (حزيران) الماضي أصدر مجلس مدينة الباب المحلي التابع للحكومة السورية الموقتة بياناً جاء فيه أن معبر “أبو الزندين”، الذي يقع على بعد بضعة كيلومترات من المدينة في مسار الطريق الدولي M4، سيفتح أبوابه “تجريبياً”، من أجل اعتماده كمعبر تجاري رسمي، وفق “ضوابط وتعليمات”، وإن هذا القرار “يعكس حرص المجلس على تحسين الظروف المعيشية لأهالي المنطقة، وتعزيز النشاط الاقتصادي المحلي، إذ سيتمكن التجار وأصحاب الأعمال من استخدام المعبر لنقل البضائع والسلع، مما سيسهم في تنشيط الحركة التجارية وزيادة موارد المجلس المحلي”.
“فائدة اقتصادية”
وجاء هذا البيان في لحظة تصاعد فيها الغضب الشعبي في الشمال السوري من تحرك تركيا باتجاه التقارب مع النظام السوري عبر موسكو، كما أعقب ذلك هجمات مواطنين أتراك على لاجئين سوريين في ولاية قيصري أدت إلى إصابة عشرات وتحطيم ممتلكات ومحال لسوريين هناك، وسط موجة جديدة من الكراهية تجاه اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا، بينما شهدت مدن وبلدات الشمال السوري احتجاجات ضد المصالح التركية، مرة للتعبير عن الغضب والرفض تجاه ما يحصل للسوريين داخل الأراضي التركية، ومرة خوفاً من أن يصبحوا ثمناً للمقايضة في خدمة المصالح التركية وإعادة التطبيع مع دمشق عبر الوسيط الروسي ولاحقاً الجهود المشتركة مع إيران.
وعلى إثر ذلك طالب مجلس “الباب”، الأهالي والفعاليات في المدينة وريفها بالتعاون مع الجهات المختصة من أجل تسهيل فتح المعبر وتنشيط الحركة التجارية في المدينة، “مما سيعود بالنفع على الجميع” على حد تعبير البيان، وفي هذه المناشدة معرفة ضمنية من القائمين على المجلس واستنباط من خلال تحركات الشارع المعارض، بأن خطوة افتتاح المعبر تشكل تحولاً جديداً في العلاقة ما بين مناطق سيطرة الحكومة السورية وقرينتها الواقعة تحت سيطرة المعارضة المدعومة من تركيا، لاسيما وأن المخاوف قائمة من تجاوز خطوة افتتاح المعبر الفائدة والنشاط الاقتصادي لتصل إلى التعاون السياسي وربما العسكري والأمني لاحقاً. ويوجد في مناطق شمال وشمال غربي سوريا نحو أكثر من 5 ملايين شخص، ونحو 90 ألف مسلح غالبيتهم الساحقة مدعومون من تركيا أو على تنسيق وثيق معها على أقل تقدير، مما يزيد التناقض الداخلي ما بين مراعاة المصالح التركية أو الاستجابة للمخاوف التي تعتري المعارضين وحاضنتهم التي فرت بمعظمها جراء المعارك والهجمات التي شنتها القوات الحكومية أو الجماعات المساندة لها التي قدمت من خارج البلاد. وترجمت هذه المخاوف خلال الفترة الماضية بنصب خيم للاعتصام في مختلف مناطق الشمال السوري، بعدما بدأت مع الاحتجاج على العنف التركي الممارس على اللاجئين السوريين في قيصري وصولاً إلى النقاش المحتدم حول فتح معبر “أبو الزندين”.
اشتداد التوتر
مع افتتاح المعبر بشكله التجريبي في الـ19 من أغسطس (آب) الماضي، عندما عبرت شاحنات عدة من مناطق سيطرة المعارضة السورية باتجاه مناطق النظام، تأججت الاحتجاجات للمرة الثانية خلال أشهر قليلة بعدما كان أغلق في يونيو (حزيران) إثر هجوم شنه مدنيون ومسلحون حطموا محتويات وأثاث مرافق المعبر من جهة مناطق المعارضة، ولكن المرة الأخيرة كانت أشد عنفاً مع تهديد زعماء فصائل مسلحة متنفذة في منطقة الباب من مغبة افتتاح المعبر، كما سقطت على المعبر والمنطقة المحيطة به قذائف مجهولة المصدر لم تعلن أية جهة مسؤوليتها عنها، مما زاد من تعثر افتتاحه، كما تزامن ذلك مع نصب محتجين آخرين خيمة للتعبير عن رفهم لافتتاح المعبر “على حساب مصير أبنائهم”.
اجتماع قاصم
وبحسب مصادر محلية في الثالث من سبتمبر (أيلول) الجاري عقد اجتماع موسع لقادة الفصائل التابعة لـ”الجيش الوطني السوري”، والائتلاف السوري المعارض والحكومة الموقتة وهيئة التفاوض ومجلس القبائل والعشائر، في مطار غازي عينتاب بتركيا برعاية من الاستخبارات ومسؤولين أتراك، بغية حل مشكلات عدة بما فيها فتح معبر “أبو الزندين” من دون عوائق. وجاء في بيان رسمي نشرته “الحكومة السورية الموقتة” أنه تمت مناقشة أهمية معبر “أبو الزندين” كمعبر حيوي إنساني واقتصادي يؤثر إيجاباً في الوضع الاقتصادي والإنساني في المنطقة. وأكد المشاركون أن “هذا المعبر لا علاقة له بأي من ملفات التطبيع مع النظام، بل هو خطوة تهدف إلى تحسين الأوضاع المعيشية وتسهيل الحركة التجارية والإنسانية في المناطق المحررة”.
لكن في أعقاب الاجتماع الذي نقلت عنه مصادر كانت حاضرة فيه، أنه كان محموماً وتبادل الأطراف التهم، لا سيما رئيس الحكومة الموقتة عبدالرحمن مصطفى، وقادة فصيل “الجبهة الشامية” الذي يحظى بنفوذ كبير في منطقتي الباب وإعزاز، إذ اتهم قادة الفصيل باختلاس ملايين الدولارات من عائدات معبر “باب السلامة” الواقع قرب مدينة إعزاز مع الحدود التركية. وفي اليوم التالي أصدرت الجبهة موقفها من التهم الموجهة، وقالت إنهم تفاجأوا “بوتيرة غير مسبوقة من العدائية من جانب رئيس الحكومة الموقتة”، وأنه تعمد الإساءة إلى بعض الجهات “الثورية”، ومنها فصائل الشرقية، “معززاً رواية الأعداء المغرضة عنهم باتهامهم بالتخريب والإرهاب”. كما خص رئيس الحكومة الموقتة “الجبهة الشامية” بسيل من الاتهامات السياسية والجنائية، محاولاً تشويه صورتها أمام المسؤولين الأتراك، وعليه قررت “الجبهة” اعتبار الحكومة الموقتة “فاقدة للشرعية وتجميد التعاون معها إلى حين تشكيل أخرى جديدة، إلى جانب مطالبة الائتلاف الوطني بعقد اجتماع طارئ لحجب الثقة عن حكومة عبدالرحمن مصطفى بالسرعة القصوى”، وإحالته إلى القضاء “لينال جزاءه العادل أصولاً”.
تقسيم العائدات ولكن
من جهة أخرى أفادت مصادر محلية خاصة لـ”اندبندنت عربية”، اطلعت على ما دار في الاجتماع الذي رعته تركيا داخل أراضيها أن الأطراف المجتمعة اتفقت على فتح معبر أبو الزندين، وبناء عليه جرى الاتفاق على توزيع عائدات بنسب دون تحديدها على كل من المجلس المحلي في مدينة الباب والجيش الوطني والشرطة العسكرية. ولكن على رغم الشد والجذب الذي خلص إليه اجتماع غازي عينتاب خرجت تظاهرتان في كل من عفرين والباب للتنديد بفتح المعبر مع النظام السوري، وطالب المتظاهرون “باستعادة القرار العسكري وحجب الثقة عن رئيس الحكومة الموقتة وتشكيل حكومة وطنية منتخبة من الداخل السوري”، على حد تعبيرهم.
تثبيت حدود جديدة
وفي حديث خاص لـ”اندبندنت عربية” أشار الكاتب والمحلل السياسي السوري زياد الريس إلى أن “طبيعة الاحتجاج على فتح المعبر حملت مؤشرات عدة” من وجهة نظره، إذ “لم يبد أي كيان سياسي معارض، خصوصاً الكيانات المدعومة من تركيا، أي اعتراض رسمي، أو طالبوا بإيضاحات حول سبب فتح المعبر، في حين أن الاحتجاجات الشعبية كانت واضحة في رفض التعامل مع النظام الذي تسبب في تهجيرهم وقتلهم ودمارهم وبالتالي كانت القطيعة مع النظام، لكن جرت ملاحقتهم واعتقالهم بمن فيهم بعض الناشطين والإعلاميين. كما أن فتح المعبر مع مناطق النظام في منطقة الباب تحديداً يعني تثبيت اقتطاع أراض سورية لصالح تركيا”، موضحاً أنه “عندما تقوم تركيا بنقل معبر رسمي من عند حدودها إلى داخل العمق السوري بنحو 40 كيلومتراً فهذا يعني أنه النقاط والمعابر الحدودية تحولت إلى داخل الأراضي السوري، وهذا مؤشر خطر جداً، لاسيما أن حصول الموافقة على فتحه يجري بين دولتين، وتركيا أمرت بفتحه، وبذلك تحول المعبر إلى نقطة حدودية رسمية، إذ يتعامل النظام مع كل ما هو قادم من خلال هذا المعبر على أنه داخل من الأراضي التركية ويكون بالتالي اعترف بسلطة تركيا على تلك المناطق”، على حد تعبير الريس.
وتساءل المحلل السياسي السوري أنه “في حال ثبت فتح المعبر وتعامل مع النظام، فهل تصبح الفصائل المعارضة الموجودة هناك شرعية، إذ من يسيطر على المعبر هي فصائل يتهمها النظام بأنها إرهابية، فكيف يسمح النظام بانتقال الأفراد بين مناطق سيطرته ومناطق أخرى تسيطر عليها فصائل إرهابية؟ هذا يحتاج إلى فهم وصاية تركيا على هذه الفصائل”، مضيفاً “هل سيرفع النظام صفة الإرهاب عن هذه الفصائل وسيتعامل معها مباشرة، خصوصاً وأنه يرفض التعاطي رسمياً مع الجهات الخارجة عن سيطرته إلا من خلال وسطاء كما يجري مع قوات سوريا الديمقراطية، فمثلاً تعمل شركة القاطرجي على نقل النفط من شمال شرقي سوريا إلى مناطق النظام كوسيط محلي بين دمشق والإدارة الذاتية، لكن في حالة المعابر مع مناطق الشمال السوري يبدو الأمر مختلفاً، إذ سمح النظام لكل التجار من مناطقه بتبادل المواد مع مناطق المعارضة مباشرة. كما أن محافظ حلب التابع للنظام يعترف بهذا المعبر وكأنه معبر دولي، وذلك من خلال أوراق رسمية مطبوعة ومختومة منذ عام 2021”.
“مؤشرات خطرة”
واستنتج الريس أن جميع هذه الحيثيات تؤشر إلى أن النظام السوري بات يعترف أن نقطة معبر أبو الزندين هي نقطة حدودية مع تركية، “وهذا أمر خطر جداً ولو كانت هذه الخطوة موقتة”، مشدداً على أنه “كان حرياً بالنظام ألا يقدم على هذه الخطوة إلا من خلال معبر حدودي دولي رسمي مع تركيا مثل باب السلامة مثلاً حتى ولو كانت تسيطر عليه فصائل معارضة ويطلب إدارتها من خلال لجان مشتركة أو غير ذلك من الأمور الإجرائية. أما فتح معبر أبو الزندين والسماح بدخول مواد قادمة من خارج الحدود السورية فهذا اعتراف بسلطة تركيا وكأنها قوة شرعية إلى جانب الفصائل المدعومة منها في مناطق سيطرتها في الشمال السوري”.
وختم الريس كلامه بالقول إن “تركيا تعاملت مع احتجاجات السوريين باستخفاف لأنها على علم بأن الأصوات في المؤسسات والأطر والكيانات السورية المعارضة الرسمية والفصائل تتبع لهم، بالتالي لا قيمة لهؤلاء الأشخاص المحتجين على خطوة فتح المعبر وهم يستطيعون الضغط عليهم، وبدلاً من ذلك كان يجب على هذه المنصات المعارضة طلب إيضاحات من الجانب التركي حول سبب فتح هذا المعبر وأهميته، وهل نتحدث عن منافع اقتصادية لفصائل محددة بينما ضحي بالملف الوطني وبالمواقف ورؤية الوطن الموحد بأكمله ونصبح رهينة لمصالح فصيل معين مثلاً، وهل قررت تركيا الاعتراف بسلطة النظام على الجهة الأخرى وقررت فتح المعبر في مقابل المصالح التركية وفرض مزيد من السلطة والسيطرة في شمال حلب وإدلب”، مضيفاً أن “كل هذا يوحي إلى أن أموراً تحاك ضد الوطن السوري وليس في مصلحة السوريين”.
نقلاً عن موقع اندبندنت عربية
للمراسل عبدالحليم سليمان