في رفـ ـض إجراء الانتخابات المحلّيَّة بمناطق الإدارة الذّاتيَّة
جميل رشيد
لاتزال قضيَّة الانتخابات المحلّيَّة في إقليم شمال وشرق سوريّا بين شَدٍّ وجذب، وتشغل الأوساط السِّياسيّة والإعلاميَّة في المنطقة وبعض القوى العالميَّة. فبعد أن أعلنت المفوضيَّة العليا للانتخابات تأجيل موعد إجراء الانتخابات مرَّتين، ولكنَّها لم تعلن عن موعد محدَّدٍ لها، حيث أنَّها في آخر بيان لها منذ أكثر من شهرين أوضحت أنَّه من المُقرَّر إجراءها في شهر أغسطس/ آب المنصرم، لتعود فيما بعد وتدلي ببيان أوضحت فيه أنَّ كُلَّ منطقة ستجري الانتخابات بمعزل عن الأخرى، أي لا توجد انتخابات شاملة على مستوى مناطق شمال وشرق سوريّا.
منذ بداية إعلان الإدارة الذّاتيَّة والمفوضيَّة عن موعد الانتخابات أواخر شهر مايو/ أيار الماضي؛ أبدت بعض الأطراف الإقليميَّة معارضتها لها، وفي مقدِّمتها دولة الاحتلال التُّركيّ، التي هَدَّدت بعدوان جديد على مناطق شمال وشرق سوريّا في حال أجريت الانتخابات، أي أنَّ الانتخابات قد حُمِّلَت أكثر ممّا هي في حقيقتها، حيث اعتبرتها بعض تلك الأطراف المعارضة قراراً سياسيّاً و”خطوة نحو الانفصال”، فيما هي في حقيقتها رغبة شعبيَّة في اختيار الأنسب في تقديم الخدمات للأهالي، وليس لها أيّ تَبِعات سياسيَّة أخرى.
الواضح أنَّ الإدارة الذّاتيَّة تعاملت بحكمة ورَوِيَّةٍ مع كُلِّ الانتقادات والمواقف الدّاعية لعدم إجراء الانتخابات، ولم تلجأ إلى أسلوب ردود الأفعال، بل اكتفت بالصمت ليكون أبلغ من لغة الرَدِّ المتبادل، إلا أنَّها في ذات الوقت لم تُحدِّد موعداً ثابتاً للانتخابات، وكذلك لم تعلن عن إلغائها أيضاً. هذا الصَّمت أوقع جميع الأطراف المُعارضة في حيرة من أمرهم، حيث كانت تترصَّد أيَّ هفوة أو اتّخاذ قرار مُتسرِّع من قبل الإدارة، لتبني عليها مواقفها وتحرُّكاتها المضادة فيما يتعلّق بالإدارة ككُلّ، وليس قضيَّة الانتخابات فقط. والولايات المتّحدة منذ اليوم الأوَّل أعلنت عن عدم ملاءمة الظروف لإجراء الانتخابات، وربطتها بالعمليَّة السِّياسيّة في سوريّا وتطبيق القرار الأمميّ /2254/. رفضها جاء بشكل ملتَبَس، لينطوي على تفسيرات عديدة، منها التَّهديد بالعصا التُّركيّة، إضافة لعدم منحها المشروعية للانتخابات، وهو ما اعتبر تراجعاً فظّاً عن حماية حلفائها المشاركين في الحرب على الإرهاب، وليؤكِّدَ مَرَّةً أخرى أنَّ لا أصدقاء دائمين لدى الولايات المتّحدة سوى مصالحها، فهي تتنصَّل من كُلِّ التزاماتها الأخلاقيَّة إزاء أيّ حليف بمجرَّد انتهاء مصالحها معه، وهذه الحقيقة تَعيها الإدارة الذّاتيَّة بعمق، وعلى أساسها لم تضع بيضها في السلَّة الأمريكيَّة مطلقاً، بل ما ميَّزها أنَّها مستقلّة في بناء واتّخاذ قراراتها السِّياسيّة والعسكريَّة والاقتصاديَّة، وما يجمعها مع التَّحالف الدّوليّ والولايات المتّحدة لا يتجاوز حدود التَّنسيق العسكريّ لمكافحة الإرهاب.
إنَّ أيّ إدارة سياسيَّة أو دولة إنْ لم تقرأ الظروف والمتغيّرات السِّياسيّة والعسكريَّة الدّاخليَّة والمحيطة بها بشكل جيَّد، بالتأكيد ستقع في مغالطات كبيرة قد تدفع بنتيجتها أثماناً باهظة، وقد تعود بها إلى المربَّع الصفريّ الأوَّل. وفي حالة الإدارة وقرارها بإجراء الانتخابات، تبيَّن أنَّها لم تجازف وتعاند الرَّفض الإقليميّ والدّوليّ لإجرائها، وقرأت معادلة التّوازنات السِّياسيّة والعسكريَّة للقوى المتدخّلة في الشأن السُّوريّ برؤية ثاقبة وهدوء، ولم تصرّ على إجراء الانتخابات وفق الصّيغة التي طرحتها في البداية. في حين فسَّر البعض أنَّ الانتخابات تَنُمُّ عن قرار سياسيّ يفتح الطريق أمام الانفصال عن سوريّا وتشكيل كيان خاص بالكُرد. وهذا الفهم القاصر والمتعمد، ومن بعض الأطراف مثل دولة الاحتلال التُّركيّ أيضاً يعتبر مغالطة وقراءة خاطئة وعدائيَّة لكُلِّ قرار تتّخذه الإدارة الذّاتيَّة. ففي الأدبيّات السِّياسيّة المعروفة عالميّاً لا يمكن لانتخابات محلّيَّة أن تودي إلى بناء كيان سياسيّ يُماثِلُ دولة أو ما شابهها، والإدارة الذّاتيَّة أساساً لا تؤمن بالدَّولة القوميَّة المركزيَّة، فهي اتَّخذت من مشروع الأمَّة الدّيمقراطيَّة خياراً ثابتاً ووحيداً لها في بناء مؤسَّساتها وإداراتها المختلفة، ودائماً تؤكِّدُ في كُلِّ مناسبة على أنَّها جزء من سوريّا الموحَّدة أرضاً وشعباً. إلا أنَّ دولة الاحتلال التُّركيّ تحاول استخدام الانتخابات ذريعة في شَنِّ عدوان جديد على مناطق الإدارة، فيما الإدارة الأمريكيَّة تغازلها ولا تريد لأردوغان أن يُغرِّدَ بعيداً عنها وعن حلف “النّاتو” ليرتمي في الحضن الرّوسيّ. فالإدارة الذّاتيَّة مَرَّةً أخرى غدت ضحيَّة سياسة تقاطع وتبادل مصالح الدّول العظمى مع الدّول الإقليميَّة. فدولة الاحتلال التُّركيّ مستعدّة لتقديم كُلِّ أنواع التنازلات، ولأيّ طرف كان، مقابل عدم تحقيق الكُرد والإدارة الذّاتيَّة أيَّ إنجاز ديمقراطيّ على الأرض. ويبدو أنَّ الإدارة الأمريكيَّة هي الأخرى انساقت وراء الرَّغبة التُّركيّة في تعطيل الانتخابات ووضع العقبات أمامها.
رغم أنَّ الانتخابات هي في أساسها مطلب جميع مكوّنات إقليم شمال وشرق سوريّا، ولا يتجاوز في جوهرها سقف اختيار الشَّعب لمن يقدَّم له أفضل الخدمات الأساسيَّة المنوطة بالبلديّات، وليس لها أيَّ طابع سياسيّ، إلا أنَّ القوى والأطراف المناوئة للإدارة الذّاتيَّة ضخَّمتها وتحاول من خلالها النَّيل من الإدارة الذّاتيَّة، فجميع تلك الأطراف تبيّن بكُلِّ جلاء أنَّها تسعى لتقويض هذه الإدارة، وتتحيَّن الفرصة لتنقضَّ عليها. فحكومة دمشق رغم أنَّها التزمت جانب الصَّمت، إلا أنَّها ضمنيّاً ترفض بشكل قاطع أيَّ انتخابات خارج قرارها وسيطرتها حتّى ولو كان اختيار مختار لقرية ما، فهي تعتمد نظام الدَّولة المركزيَّة المتشدّدة وترفض كُلّ عمليَّة لا تتوافق مع رؤيتها وتطلّعاتها، ولا تقبل أن تجري أيَّ انتخابات بعيداً عن أعينها، ولو أنَّها – أي الانتخابات – لا تعاديها.
قرار وزارة الخارجيَّة الأمريكيَّة بمعارضة الانتخابات علناً جاء قبل أيّام على لسان المتحدّث باسمها “ماثيو ميلر”، ليعيد الموقف السّابق، حيث قال في بيان له إنَّ “تقييم الولايات المتّحدة يشير إلى عدم استيفاء الشُّروط اللّازمة لإجراء انتخابات حُرَّةٍ ونزيهة وشفّافة وشاملة في سوريّا، بما في ذلك في شماليّ البلاد وشرقها”، مضيفاً أنَّ الولايات المتّحدة “لا تدعم الإعلان الأخير الصادر عن الإدارة الذّاتيَّة الذي دعا اللّجنة العليا للانتخابات لبدء الاستعدادات للانتخابات البلديَّة”.
وضعت الخارجيَّة الأمريكيَّة شرطاً أمام أيّ عمليَّة انتخابيَّة في سوريّا، وهو ضرورة أن “تتمتَّع أيّ انتخابات في سوريّا بالحرية والنزاهة والشفافية والشمولية، بما يتوافق مع قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254”. فكيف للولايات المتّحدة أن تتكهَّن أنَّ الانتخابات لن تكون نزيهة، رغم أنَّ عدَّةً وفود خارجيَّة، من بينها وفد فرنسي، كان سيراقب الانتخابات، وكان الأجدر بها أن ترسل هي أيضاً وفداً لمراقبة العمليَّة الانتخابيَّة، ومن ثُمَّ تعلن موقفها بأنَّها نزيهة أم لا.
هذا البيان المقتضب من الخارجيَّة الأمريكيَّة؛ هو بمثابة تحفيز لتركيّا وحلفائها المرتزقة و”داعش” وتشجيع لها في شَنِّ المزيد من هجماتها العدوانيَّة على مناطق شمال وشرق سوريّا، فإثر البيان الأمريكيّ مباشرة، صَرَّحت الخارجية التُّركيّة بأنَّ الانتخابات هي “خطوة عدوانيَّة”، أي أنَّها تَمُسُّ الأمن القوميّ التُّركيّ المزعوم، لتمنح نفسها حَقَّ التدخُّل فيها، وبشكل سافر، دون أيِّ مسوِّغٍ قانونيٍّ، فهي ترى أنَّه يَحُقُّ لها التدخُّل في أيّ منطقة يحصل فيها الكُرد ولو على جزء من حقوقهم المشروعة.
تحاول الولايات المتّحدة من خلال موقفها الأخير فرض نوع من “الوصاية السِّياسيّة” على الإدارة الذّاتيَّة، عبر التَّلويح بالورقة التُّركيّة، في حال إبداء الإدارة الذّاتيَّة أيّ اعتراض على قرارها والذِّهاب إلى إجراء الانتخابات، رغم أنَّها انتخابات ضيّقة، حيث أوضح بيان المفوضيَّة العليا للانتخابات الأخير بأنَّ كُلّ منطقة ستجري انتخابات بمفردها، أي لا توجد دوائر ودعايات انتخابيَّة على مستوى مناطق الإدارة، وفي هذه الحالة يغدو الاعتراض الأمريكيّ لا معنى ومبرِّرَ له في ضوء توجُّه الإدارة نحو تغيير هيكليَّة المجالس المحلّيَّة فقط.
إجراء الانتخابات من عدمها، وبالشكل الذي طرحته الإدارة الذّاتيَّة عبر بيان المفوضيَّة العليا للانتخابات، مرهون بالدَّرجة الأولى بقدرة الإدارة على إيجاد نوع من التَّوازن بين ردود الفعل الرّافضة لها، وعدم الانزلاق إلى متاهات المتربّصين بها شرّاً، وبين تفعيل دبلوماسيَّتها مع الدّول الدّاعمة لها، مثل فرنسا وبعض الدّول الأوروبيَّة الأخرى، ويمكنها في هذه المرحلة الاكتفاء بإجراء تغييرات طفيفة في بنية وهيكليَّة المجالس المحلّيَّة، والإبقاء على نهج عملها كما هي الآن، ونبض الشارع السِّياسيّ والشَّعبيّ في مناطق الإدارة يَعكِسُ هذه الرَّغبة.
خاص/جميل رشيد
ADARPRESS #
.